قمّة هلسنكي.. مصالح مُتقاطعة لا تبعية

لاتزال أصداء قمّة هلسنكي تتردّد في فضاء العلاقات الدولية. وهي تبدو علامةً فارقة في تاريخ لقاءات الرؤساء الأميركيين والروس بعد الحرب الباردة. شائعات كثيرة حيكت حولها، لكن ما الجديد في مضمون اتفاقات الطرفين؟ وما هي المعاني السياسية للقمّة، ولعلاقة الرئيسين الروسي والأميركي المُلتبسة؟

تحضير الأرضية

أوحى الانطباع السائد بعد القمّة بتحقيق بوتين انتصاراً سياسياً كبيراً على ترامب

يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ فوزه بالرئاسة في يناير-كانون الثاني 2017 إلى تحسين علاقات بلاده مع روسيا. غير أن هذه العلاقات كانت تشهد تراجعاً مستمراً خلال العامين الماضيين، حتى وصلت إلى أسوأ حالٍ لها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وذلك باعتراف الطرفين.
ويمكن جرد الكثير من الأسباب التي تفسّر تدهور العلاقة المُشتركة، بالأرقام والأحداث والمحطّات الموّثقة، لكن الأكثر إفادة من ذلك كله، هو الذي كان يشغل الرئيسين الروسي والأميركي، وهو كيفية تحقيق توافقات على ملفات الخلاف المتعدّدة، وبناء الثقة المشتركة التي تخفّف من منسوب التوتّر في مناطق عديدة من العالم، وتؤدّي مع الوقت إلى إراحة القوّتين العظميين المُتأهّبتين في مواجهة بعضهما البعض، وصولاً إلى تركيز كل واحدةٍ منهما على مصالحها الخاصة التي تتعرّض لاختبارات قاسية على أكثر من صعيد.
لقد دأب الجمهوريون في السنوات السابقة على التحريض ضد روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، وصولاً إلى اعتباره المسؤول شخصياً عن تنامي سياقٍ من العداء الروسي المُتجدّد للولايات المتحدة، وتحوّله إلى مزاجٍ عام شعبي يعبّر عنه في مختلف المحطّات الانتخابية الداخلية، وفي المحافل الخارجية.
لكن السنتين الماضيتين كشفتا عن إرادة مختلفة لدى ترامب، الرئيس الجمهوري المثير للجدل، والمُستعصي على الفهم من قبل أكبر مراكز التفكير حول العالم، نظراً لفرادة نموذجه بين الرؤساء الأميركيين المُتعاقبين على حُكم البيت الأبيض.
لقد سبقت قمّة هلسنكي هجومات متكرّرة من ترامب على حلفائه الأقربين، انطلاقاً من دول الخليج العربية، ووصولاً إلى الحلفاء الأوروبيين، انتهاءً بمنظمة "الناتو" التي تشكّل الحامي المُفترض للحضارة الغربية، بحسب الأدوار التي أنيطت بها منذ تأسيسها في العام 1949 عموماً، وبعد تفكّك حلف وارسو في عام 1989 خصوصاً.
وشكّل هذا السياق المُفاجئ لمواقف ترامب تجاه حلفائه -كما تجاه الصين- مدخلاً مناسباً له لتحضير الأرضية الخصبة التي تنتج اتفاقاتٍ استراتيجية مع نظيره الروسي. فالناتو يمثّل بالنسبة لروسيا التهديد الأقرب والأكثر استفزازاً منذ عقود. وهي ترى بنسخته المُطوّرة بعد عام 1990 لزوم ما لا يلزم بالنسبة للدور الذي رُسِم له منذ التأسيس، الأمر الذي دفع بموسكو إلى التوجّس الدائم من هذا الحلف، والتعامُل معه على أساس العداء المباشر، والتجهّز المستمر لمواجهته.
وزاد من الاستعداد الروسي للقاءٍ إيجابيٍ مع ترامب، دعوته خلال الشهر الماضي إلى إعادة روسيا إلى مجموعة الدول السبع الكبرى، التي علّقت عضويّتها فيها بعد ضمّ شبه جزيرة القرم. فضلاً عن بروز تطوّرات مريحة لموسكو في سوريا، وتراجع الفاعلية الأميركية على الأرض، واقتراب الجيش السوري من استعادة كامل الأراضي التي خسرها خلال سنوات الأزمة، وبالتالي بروز الحاجة إلى تنضيج الحلول السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والميدانية المناسبة لهذه التطوّرات.

البحث عن خصمٍ مقابل البحث عن صديق

لقد بقي المضمون الحقيقي للقاء الرئيسين الثنائي والمباشر في هلسنكي طيّ الكتمان، لكن اللقاء الموسّع والتحليلات التي أعقبت القمّة كشفت الكثير من المُعطيات التي يمكن الغوص في تحليلها وتبيان جوانبها المهمة جداً. كما أن التطوّرات المُرافقة، واللاحقة للقمّة، كشفت مزيداً من المضامين السرّية لهذه القمّة. لكن ملف التدخّل الروسي المُفترَض في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة طغى على الأجواء، لأسبابٍ أميركية داخلية بالدرجة الأولى.
إن مَيْل ترامب الواضح إلى عدم تحميل روسيا أية مسؤولية في التدخّل بالانتخابات الأميركية، أدّى إلى عاصفة ردود في أميركا وضعته في موقف حرجٍ. حتى أنها وصلت إلى حد اتهامه بخيانة بلاده، والعمالة لبوتين. وهنا لا يمكن حصر الأمر بمجرّد صراعٍ سياسي مستمر منذ ما قبل الانتخابات، بل إن الأكثر خطورة من ذلك هو الصراع الذي تخوضه أجهزة الأمن ضد الرئيس. لذلك فإن عدم اعتداد ترامب بتحقيقات الوكالات الأمنية الأميركية يأخذ منحى آخر.
ولا يكفي تراجع ترامب عن اعترافات قمّة هلسنكي لتهدئة الخواطر في أميركا، بل إن هذا التراجع زاد من صعوبة الموقف، وأظهر تردّده المألوف منذ سنتين بخصوص معظم ملفات السياسة الخارجية التي يُديرها.
لقد بات من المؤكّد بالنسبة لمعظم المتابعين للسياسة الدولية أن ترامب واقعٌ تحت تأثير بوتين، على الأقل نفسياً. هذا الانطباع يعزّزه الرئيس الأميركي كل يوم من خلال تكرار إعجابه بأداء نظيره الروسي وطريقة قيادته لبلاده.
لقد وصف ترامب التحقيق بإمكانية ضلوع روسيا في ملف الانتخابات بـ"الكارثي"، وهو يمتلك في هذا السياق دافعاً شخصياً بالدرجة الأولى، يدفعه إلى الدفاع عن انتصاره ونسبة الفضل فيه إلى نفسه وإلى ماكينته الانتخابية التي يرى أنها قامت بعملٍ ممتاز وهزمت هيلاري كلينتون من دون الحاجة إلى تدخّلاتٍ خارجية. وبالتالي يصبح التحقيق "تصيّداً له"، كما قال. وبالتالي فإن الحملة عليه تصبح "ظالمة ومُصطنعة" ومؤذية، خصوصاً أنه يرى إمكانية تحسين العلاقات الأميركية الروسية التي يرى في تراجعها "حمقاً وغباءً".
وفي سبيل الدفاع عن رؤيته هذه، يصف ترامب بوتين بـ"المُنافس الجيّد"، وليس بـ"الخصم". إن ذلك يأخذ الانتباه نحو استنتاجٍ ضروري وهو أن مَيْل ترامب إلى التقرّب من روسيا، معناه أنه بحاجةٍ إلى التفرّغ لمواجهة "خصمٍ" آخر، وبدعمٍ روسي إذا أمكن.
وهذا ما أشارت إليه صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" مباشرةً بعد القمّة في مقال بعنوان "الولايات المتحدة تقترح على روسيا توحيد الصفوف ضدّ إيران والصين"، حيث قالت إن "عقد القمّة يدلّ على سعي الولايات المتحدة إلى كسب تأييد موسكو في مواجهتها مع بكين وطهران، في ضوء احتدام الحروب التجارية مع الصين وانسحاب واشنطن بشكلٍ أحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني".


وهذا ما أشار إليه مدير مركز "كارنيغي" في موسكو دميتري ترينين بقوله إن "ترامب خرج، ومنذ فترة، بنتيجة مفادها أن الصين تشكّل التحدّي الأكبر للولايات المتحدة في المجالين التجاري والجيوسياسي. إذا نظرنا إلى الأمور بهذا الشكل، قد تبدو روسيا شريكاً هاماً مُحتملاً. لكنني لا أعتقد أنه (أي ترامب) سينجح في ذلك كثيراً".
وفي ما لو نجح هذا المسعى فإنه سيكون علامة على إعادة التوازن للعلاقات الدولية بعد التقلّبات التي شهدتها منذ عودة روسيا بقوّة إلى ساحة النفوذ العالمي.

سوريا والدور الإيراني

لقد كان مُنتظراً أن يكون الملف السوري، وخصوصاً الدور الإيراني فيه، الملف الأقرب إلى الاتفاق بين الطرفين في القمّة. والمعلومات التي توافرت في هذا المجال تشير إلى عدم وجود اتفاقٍ تام بينهما، بل مجرّد تقريب لوجهات النظر، حيث تمسّك الرئيس الروسي بموقف بلاده المؤكِّد دوماً على عدم إمكانية تجاوز الدور الإيراني في سوريا. لكن هذا لا يعني أن الدولتين وافقتا على بقاء إيران في سوريا، لأن طبيعة العلاقات الشرق أوسطية لكلٍ من الولايات المتحدة وروسيا تأخذ بعين الاعتبار هواجس إسرائيل في هذا المجال. وقد تحرّك بنيامين نتنياهو باتجاه موسكو في لحظة القمّة، تماماً كما فعل الإيرانيون عبر علي ولايتي. إن موقف موسكو في هذا المجال يدفع باتجاه تطبيق اتفاقية "فكّ الاشتباك" بين إسرائيل وسوريا للعام 1974. وهذا يعني حفاظ موسكو على دورها المحوري بين كل الأطراف الخارجيين المُهتمين بالأزمة السورية، بل تزخيم هذا الدور، مع توجّه ترامب إلى الانسحاب من الملف السوري، وهو ما أشّرت إليه اقتراحاته خلال القمّة. وهذه النقطة الأخيرة أحرجت ترامب داخلياً، بما اعتبره مُحلّلون وساسة أميركيون بأنه تنازل عن دور البلاد لمصلحة بوتين. لقد حقّق الروس هدفاً أساسياً من خلال قمّة هلسنكي، وهو استعادة التواصُل مع واشنطن على أعلى مستوى من دون الاضطرار إلى التنازُل عن أيٍّ من مواقفهم المختَلف عليها مع واشنطن، من خلال أول قمّة متكاملة بين الرئيسين. وفي ذلك تحقيق لدرجة جديدة من درجات الاستراتيجية الروسية التي يطمح بوتين إلى تحقيق أهدافها، وذلك بتحقيق النديّة والتكافؤ الاستراتيجيين بين روسيا وأميركا. إن الاتجاه العام الذي تمخّضت عنه القمّة بخصوص الملف السوري، يؤدّي إلى تنامي القدرة الروسية على التأثير بمسار الأزمة، والمخارج السياسية والميدانية لها. وفي حال تكاملت الرؤية الروسية مع الرؤية الإيرانية لمستقبل سوريا، فإن مسألة تحقيق حل كبير للأزمة سيكون قابلاً للتحقّق من دون شك. إن هذا المنطق يشير إلى احتمال وجود فكرة خبيثة لدى الرئيس الأميركي، وهي رمي الكرة السورية المُشتعلة بين الحلفين الروسي والإيراني المُنتصرين معاً في الحرب السورية، ووضعهما أمام نقاط اختلافٍ في مصالحهما، في ما يتعلّق بأمن إسرائيل أولاً، وبمستقبل النفوذ لكل منهما في سوريا ثانياً. خصوصاً وأن ترامب أظهر عدم معارضته لبقاء الرئيس السوري بشّار الأسد في السلطة. لكن حسم الرئيس الروسي لمسألة عدم قابلية إخراج إيران من سوريا يساهم في إفشال هذا المسعى الأميركي، بل إنه بات يعتقد أنه لا يمكن الإبقاء على السيطرة السورية على الأراضي المُستعادة من التنظيمات الإرهابية من دون الدور والوجود الإيرانيين.

النتائج من منظورٍ شعبي

لقد أوحى الانطباع السائد بعد القمّة بتحقيق بوتين انتصاراً سياسياً كبيراً على ترامب. على الأقل هذا الانطباع متوافق عليه على المستوى الشعبي روسياً وأميركياً، بحسب الآراء التي أدرجتها في الأسبوعين التاليين للقمّة الصحف الأميركية والروسية، وتضاف إليها آراء معظم الساسة الأميركيين الذي وصلوا إلى حد اتهام ترامب بالخيانة الوطنية، والركوع أمام إرادة نظيره الروسي. إن وجود خلاف سياسيٍ عميق داخل الساحة الأميركية الداخلية كشف الفوارق الهائلة في موقف الرئيسين تجاه ملفات القمّة. ففي حين يتمتّع بوتين بالصلاحيات المُكتملة في المفاوضة والمناورة واستعمال وسائل قوّة بلاده في المفاوضات، على ترامب أن يجري حساباً دقيقاً لانعكاس أية كلمة أو موقف يُقدم عليه. وهذا ما يُبقيه تحت ضغط هائل، ربماً يكون سبباً في تراجعه في بعض الملفات، تخفيفياً للجدل وتجنّباً للضغط من قِبَل روسيا أيضاً، وهو يسير وفق هذا المنطق على قاعدة تجنّب النيران الخارجية في حين يتلقى منذ سنتين نيراناً داخلية مستمرة. وهذا تحديداً ما يجعل بوتين وبلاده يبدوان ككتلةٍ واحدة في مواجهة مجموعة من الإرادات المُتناحرة بين ترامب وإدارته والأجهزة الأمنية والساسة من الحزبين. ملاحظةٌ أخرى قد تبدو فائقة الأهمية، وهي تتعلق بفرص روسيا المستقبلية في أوروبا. لقد سبقت القمّة تصريحات لترامب هاجم فيها الناتو، وانتقد فيها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي على خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولم يوفّر ألمانيا من البوابة الروسية، حيث اعتبر أن ألمانيا باتت "في قبضة روسيا" على خلفية شراء الطاقة الروسية. وفي حين تبدو العلاقة الروسية- البريطانية غير مرشّحةٍ للتحسّن في الوقت الحالي، فإن العلاقات الألمانية- الروسية مختلفةٌ تماماً، وهي قابلة على المدى الاستراتيجي للتحوّل إلى علاقات استراتيجية قد تؤدّي في ما لو اكتملت عناصرها إلى تبدّل في ميزان القوى الاستراتيجي ليس أوروبياً فحسب، بل على المستوى العالمي. فوجود روسيا وألمانيا جنباً إلى جنب في ما لو تم، سيؤدّي إلى نشوء تحالفٍ فائق القوّة وخطر على المصالح الأميركية. وفي الوقت الذي تأخذ فيه علاقة ترامب بحلفائه منحى متوتّراً، نشطت الدبلوماسية الرياضية لدى الرئيس الروسي من خلال استقباله 12 رئيس دولة خلال كأس العالم التي نظّمتها بلاده، ومنهم من هم حلفاء للولايات المتحدة. إن تطوّر هذه العلاقات، بالإضافة إلى العوامل الأخرى التي ذكرناها، سوف تُصعّب من مهمة ترامب في انتخابات نصف الولاية التي يحتاج فيها إلى كل صوتٍ من أصوات الناخبين. إن وجود "ترامب في جيب بوتين"، بحسب تعبير المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية جون برينان، له اليوم وقع الانطباع العام عند الأميركيين، وهو ما عبّرت عنه زعيمة الديموقراطيين في مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي بقولها: إن "ضعف ترامب أمام بوتين كان مُخجلاً ويؤكّد أن لدى الروس شيئاً عن الرئيس" مرجّحة أن يكون ذلك "معلومات شخصية أو مالية أو سياسية". وأضافت أن هذا "يوم محزن لأميركا". لقد أتى ترامب إلى هلسنكي باحثاً عن صفقة، وهو بالمناسبة صاحب أسلوبٍ مناسب لذلك، فهو في بحثٍ مستمر عن صفقة، فيما أتى بوتين باحثاً عن القمّة بحد ذاتها بالدرجة الأولى، مستنداً إلى وقائع تعزّز قوّة موقفه، منها الشقاق الداخلي الأميركي حول روسيا، وموقف بلاده القوي في سوريا، وموقعها الاستثنائي بالنسبة للدول التي يضعها ترامب كخصمٍ لبلاده. ويختلف النموذجان من ناحية بحث النموذج الترامبي عن انتصارات (صفقات) سريعة، في مقابل بحث النموذج البوتيني عن تراكم لعوامل القوّة. وهذا ما يفسّر علاقة الرجلين، حيث أن هذا الاختلاف لا يقود بالضرورة إلى مواجهة، بل إلى تفهّم كل منهما حاجات الآخر، وتلبيتهما. لذلك فإن الاستنتاج الذي يمكن الخروج به لا يتوافق مع مقولة أن "ترامب في جيب بوتين"، بل مع فرضية أن اهتمامات الرئيسين الخاصة قابلة للتقاطُع. وعليه فإن العلاقات الثنائية مرشّحة للتحسّن في ما لو صمد ترامب داخلياً.