كيف تتغيّر الخريطة السياسية في تونس

تقلّبات سياسية في تونس تدفع هذا البلد إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، وسط تحديات اقتصادية تحاول الحكومات المتعاقبة مواجهتها.

لقاء باريس بين الغنّوشي والسبسي في 15 آب/ أغسطس 2013 هو المحدِّد للمرحلة التي تعيشها تونس اليوم

أشَّرت كل التوقّعات في تونس إبان الانتخابات البرلمانية لسنة 2014 لاستقرار الأوضاع والخروج من المؤقّت الانتقالي إلى التركيز الدائم لمؤسّسات الدولة، وحتى نتائج الانتخابات لم تخالف بدورها التوقّعات ومكّنَت حركة نداء تونس بأغلبية المقاعد في البرلمان ، مايجعلها الطرف المُخوَّل له دستورياً قيادة البلاد للولاية في العهدة المذكورة .. لكن الواقع خالف التوقّعات لتعصف رياح التغييرات السياسية والتحالفات بالحكومة المُشكّلة آنذاك بقيادة الحبيب الصيد في نسختيها الأولى والثانية، وظلّت أهدافها المرسومة حبراً على ورق في ظلّ اصطدامها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والأمني الصعب .. وعجزت في اتّخاذ إجراءات وصِفَت بالقاسية لكنها عُدَّت ضرورية لو تعلّق الأمر بالإصلاح.

ولجمْع الفرقاء سياسيين ومدنيين بغاية العمل على دفْع عجلة الحكومة بأسلوب وفاقي تشاركي، أطلق رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي مبادرة تُحدِّد الأولويات وتفرز حكومة جديدة تُجسِّد "الوحدة الوطنية"، ومن هنا جاء ميثاق قرطاج الذي أمضت عليه 9 أحزاب سياسية و3 منظمات وطنية، تم بمقتضاه تشكيل حكومة يوسف الشاهد الحالية، وهي الحكومة التي انطلقت فعلاً في حربها على الفساد ، لكن كسابقاتها وجدت التململ وعدم الرضا من شقّ مُعيّن من حزب الأغلبية وحتى امتحانها الأول، قانون المصالحة الإدارية، لم يمر بالإجماع، بل أحدث شرخاً في الحزام السياسي الداعِم له.. كما عانت ولا تزال الحكومة الجديدة برئاسة يوسف الشاهد رهينة تجاذبات كان أبرزها مطالبة اتحاد الشغل بإقالة وزير التربية السابق ناجي جلول وهو ماحدث فعلاً، خروج الحزب الجمهوري من دائرة داعميها إضافة إلى الهجوم العنيف الذي تشنّه منظمة أرباب العمل عليها بسبب قانون المالية لسنة 2018 ، وتهديدها بالخروج من وثيقة قرطاج ودخول أصحاب المؤسّسات في إضراب عام في سابقة تُعتبر الأولى من نوعها في تونس. إلى جانب هذا لا تزال حكومة الوحدة الوطنية برئاسة يوسف الشاهد ماضية في حربها على الفساد رغم عدم موافقة بعض من قيادات حزب النداء. لكن أصواتاً بدأت تتعالى بإمكانية سحب الثقة من الحكومة ما دفع برئيس حزب مشروع تونس بالمسارعة بالدخول في مفاوضات ومشاورات مع بعض الأحزاب الأخرى والمستقيلين لتكوين جبهة برلمانية أهدافها المُعلَنة توحيد الأصوات وإيجاد بعض التوازن ، لكن أهدافها الخفيّة حماية حكومة الشاهد وحصْر حركة النهضة في الزاوية.

تغيّرات الخريطة السياسية في تونس منذ انتخابات 2014

كان لقاء باريس الشهير بين رئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي ورئيس حزب نداء تونس الباجي قايد السبسي في 15 آب/ أغسطس 2013 هو المحدِّد للمرحلة التي تعيشها تونس اليوم. خُبراء يؤكِّدون أن خريطة البرلمان الحالية وأغلب المشهد السياسي الموجود حالياً تم رسمه في ذلك اللقاء.

"لاتحالف مع حركة النهضة" كانت أهم الشعارات التي رفعها نداء تونس في الانتخابات ، لكن وبعد الفوز سارع الحزب ولضمان الأغلبية البرلمانية إلى التحالف مع حركة النهضة. دخول نجل الرئيس حافظ قايد السبسي على الخط أدخل بلبلة داخل حزب نداء تونس، مادفع بمحسن مرزوق مدير الحملة الانتخابية للباجي قايد السبسي في الانتخابات الرئاسية إلى الاستقالة من الحزب وتأسيس حزب مشروع تونس الذي بدوره شهد العديد من الاستقالات، كما دفع برضا بالحاج القيادي السابق بنداء تونس إلى الاستقالة أيضاً وتأسيس حزب "تونس أولاً". ما حصل مع نداء تونس يشبه إلى حد كبير ما حصل مع حليف حركة النهضة السابق المؤتمر من أجل الجمهورية الذي اندثر تماماً من الخارطة السياسية مُخلّفاً ثلاثة أحزاب وهي "حركة وفاء" و"حراك تونس الإرادة" إضافة إلى "التيار الديمقراطي" والذي توحَّد مع حزب التحالف الديمقراطي ليصبحا حزباً واحداً.

مؤشّرات القطيعة بين نداء تونس ورئيس الحكومة يوسف الشاهد

وثيقة خالد شوكات التقييمية: قبل أسبوع نشر العضو في نداء تونس خالد شوكات وثيقة حملت عنوان "سنة من عمل حكومة الوحدة الوطنية على ضوء الأولويات المرسومة في وثيقة قرطاج" حملت 6 أبواب، وصف خلالها شوكات الوضع الأمني بالهشّ رغم النجاحات التي حقّقتها حكومة يوسف الشاهد مقارنة بحكومة سلفه الحبيب الصيد ، والتي تلقّت ثلاث ضربات إرهابية موجِعَة أهمها كان تفجير حافلة الحرس الرئاسي في شارع محمّد الخامس أشهر شوارع تونس، كما اتّهم شوكات في وثيقته الحكومة بالقيام بإقالات تعسّفية وإجبارية لوزراء ، في إشارة إلى إقالة وزيرة المالية السابقة لمياء الزريبي ووزير التربية ناجي جلول ، إضافة إلى التسبّب بتراجع وضعيّة التوازنات المالية وضبابية الرؤية المستقبلية. الوثيقة وصفها البعض بأنها بداية حرب حزب نداء تونس على الشاهد ودعوة صريحة لإسقاط الحكومة، لكن الناطق الرسمي باسم نداء تونس وإحساساً منه بجسامة الخطأ سعى إلى تبرئة حزبه من الوثيقة قائلاً "ماجاء في مقال شوكات حول طلاق وشيك بين نداء تونس ورئيس الحكومة لا يُلزم الحزب في شيء".

 نداء تونس يرفض قانون المالية: عَكْس قانون المالية لسنة 2017 لم يُحدِث مشروع قانون المالية لسنة 2018 جدلاً كبيراً بغضّ النظر عن موقف المعارضة منه ، وهو موقف يندرج ضمن رفض السياسية الاقتصادية التي تتّبعها الحكومة بالكامل، يُعتَبر موقف منظمة الأعراف الأكثر جدلاً والذي هدّدت من خلاله رئيسة منظمة الأعراف وداد بوشماوي بالانسحاب من وثيقة قرطاج في حال تم تمرير مشروع القانون ، كما هدّدت منظمة الأعراف بدخول أصحاب المؤسّسات في إضراب وهو حق يكفله القانون.  الغريب في هذه النسخة من قانون المالية أنها لم تلق دعماً من حزب نداء تونس ، بل ذهب الحزب أكثر من ذلك إلى دعم موقف منظمة الأعراف من القانون، حيث قال القيادي في حزب نداء تونس سفيان بن نصر"نحن ندعم موقف منظمة الأعراف الرافض للصيغة الحالية لقانون المالية، كما ندعو إلى وضع استراتيجية واضحة وحلول فاعِلة بهدف الخروج من الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد"، تصريح بن نصر دعمه أيضاً العضو في نداء تونس المُلتحِق مؤخّراً محسن حسن والذي قال "قانون المالية لسنة 2018 مبني على توقّعات خاطئة أهمها سعر برميل البترول المُتوقّع والذي حدَّده القانون ب50 دولاراً ، في حين أن الوضع الاقليمي يُنبئ بمزيد الارتفاع وهو ما سيؤدّي إلى ارتفاع كتلة الدعم ، وبالتالي تعميق عجز الميزانية" ، كما قال الناطق الرسمي باسم نداء تونس منجي الحرباوي "اختلاف وجهات النظر بين الحزب ورئيس الحكومة وعدم تقاربها في الفترة الأخيرة تعلّقت بمشروع قانون المالية ، وتحديداً انحياز وجهة نظر الحزب إلى مطالب الشعب والتنمية بالجهات الداخلية والمؤسّسات الاقتصادية التي تمر بصعوبات، قابله المشروع الذي تقدّمت به الحكومة والذي لم يكن وفياً لهذه المسائل" . حركة النهضة أيضاً التحقت بركْب الناقدين لقانون المالية مُعلّلة ذلك بالتعويل المُفرَط على التداين، والحال أن النهضة كانت أول المهرولين إلى المؤسّسات العالمية للاقتراض إبان فترة الترويكا. سليم بسباس وزير المالية السابق والقيادي في حركة النهضة انتقد مشروع القانون وقال " هناك عدّة إجراءات جبائية تمسّ من المقدرة الشرائية للمواطن ، كما اكتفى مشروع قانون المالية في مراجعة الدعم بالترفيع في أسعار المواد الأساسية"

الحرب على الفساد تُربِك نداء تونس: في 23 ماي الفارط بدأت حرب الشاهد على الفساد، حرب طالت رؤوساً كبيرة من رجال أعمال ومُهرّبين أهمهم رجل الأعمال المعروف شفيق جراية. وقف شفيق جراية أثار جدلاً كبيراً وأحدث بلبلة صلب حزب نداء تونس بحُكم قُرب الأخير من بعض قيادته، ما دفع بقاضي التحقيق العسكري إلى استدعاء 3 من أعضاء الحزب أهمهم رئيس الكتلة سفيان طوبال. من جهة أخرى تقول مصادر أن بعضاً من أعضاء حزب نداء تونس تحوم حولهم شُبهات فساد، ما تسبّب في انقسام الكتلة إلى شقّين، شقّ يدفع نحو إبعاد النواب «المحسوبين» على شفيق جراية وإعادة هيكلة الكتلة والحزب بما يسمح بذلك، بحجّة تضرّر صورة الحزب، وشقّ ثانٍ يعتبر أن الحملة تستهدف وجود الحزب برمّته ، وأن التضحية بجزء منه هي تضحية بالحزب ما يستوجب «الوحدة في مواجهة الأزمة ، ويبدو من خلال قراءة الوقائع أن الشقّ الثاني قد سيطرعلى الوضع، لكن الأزمة لم تمر قبل أن يخسر نداء تونس أحد نوابه وهي النائب صابرين القوبنطيني. متابعون للشأن السياسي يؤكّدون أن البلبة التي حدثت داخل حزب نداء تونس تسبّبت في قطيعة غير مُعلَنة تدور تفاصيلها في الكواليس بين يوسف الشاهد وقيادات نداء تونس وأهمهم المدير التنفيذي للحزب ونجل رئيس الجمهورية التونسي حافظ قايد السبسي.

الشاهد ومن خلال خطابه الأخير في افتتاح مداولات مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018 ، أرسل رسالة خفيّة أكّد فيها إن الحرب على الفساد متواصلة، لكن كلام الصحبي بن فرج القيادي في حزب مشروع تونس أتى ليزيد من إرباك الوضع ، عندما كتب على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك " الإيقافات ستتوالى في الأيام القادمة وستكون بمثابة زلزال سياسي يهزّ أركان منظومة الحُكم الحالية من أساسها" ، ما يُحيلينا إلى ما أكّدته بعض المصادر للميادين نت التي رفضت الكشف عن أسمائها ، من أن بعض الوجوه السياسية قد سلّمت الشاهد ملفات في إطار الحرب على الفساد تُثبت تورّط قيادات سياسية وأسماء معروفة في قضايا فساد.

هذه المؤشّرات وعلى ضبابيّتها تذهب في اتجاه واحد وهو أن العلاقة بين الائتلاف الحزبي الحاكم ورئيس الحكومة يوسف الشاهد على الأقل ليست جيّدة، ما يدفع بقيادات نداء تونس إلى التأكيد على عدم صحّة هذه الشائعات في كل مرة. هذه القطيعة أكّدها القيادي في الجبهة الشعبية زياد لخضر قائلاً " المعركة اليوم تدور حول مَن يحكم، ومَن يتحكّم في حكومة الشاهد، كما أن هناك صراعاً خفيّاً مع هذه الحكومة، إضافة إلى هذا هناك بوادر لإقالة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، نحن بصدَد العيش مابعد يوسف الشاهد".

تأسيس الجبهة البرلمانية وعكس الهجوم من طرف الائتلاف الحاكم

استباقاً لنتائج المؤشّرات التي تم ذكرها سابقاً، دخل الأمين العام لحزب مشروع تونس محسن مرزوق في مشاورات مع نواب من أحزاب مختلفة ومستقيلين من أجل تشكيل جبهة برلمانية. هذه المشاورات توِجّت في 15 نوفمبر الماضي بتأسيس جبهة برلمانية وسطية تقدّمية تضمّنت 45 نائباً ينقسمون إلى مجموعة من المستقيلين، إضافة إلى نواب من كتلة آفاق تونس، ونواب من كتلة نداء تونس وكتلة المشروع. لتفسير أهدافها المُعلَنة قال مصطفى بن أحمد رئيس الكتلة الوطنية" الجبهة البرلمانية هي جبهة نواب لهم الرغبة في تحسين الأداء التشريعي، خاصة وأنه تمّت ملاحظة وجود اختلال كبير في التوازن داخل المجلس، كما أن الجبهة ليست لها أية أهداف استئصالية". لكن موقف ياسين براهيم جاء مُغايراً تماماً لموقف بن أحمد حيث أكّد أن الجبهة جاءت ضد تحالف النهضة والنداء "الجبهة ليست ضدّ هذا الطرف أو ذاك ولكن يمكن القول إنها ضد التحالف بين النهضة والنداء الذي نعتبره خطيراً على مستقبل البلاد"، ياسين براهيم كان دعا في وقت سابق إلى عزل النهضة في الانتخابات المقبلة من أجل أن يراها الجميع في موقف المعارضة، كما طرح براهيم سؤالاً "كيف يمكن أن تصبح النهضة فجأة حركة مدنية بنفس القيادات و المرجعيات".

كرد فعل على تأسيس الجبهة البرلمانية سارع حزب نداء تونس وحركة النهضة إلى تكوين ترويكا جديدة وذلك من خلال ضم حزب الاتحاد الوطني الحر إلى سرب الداعمين من جديد. سليم الرياحي رئيس حزب الاتحاد الوطني الحر الذي كان يواجه قبل شهر حُكماً بالسجن بالنفاذ العاجِل لمدة خمس سنوات ، كما كان أول المُغادرين لوثيقة قرطاج بعد تمزيقها وانسحابه من الحكومة ، أصبح اليوم أحد أركان الترويكا الجديدة. توقيت الإعلان عن الجبهة الجديدة أثار تساؤلات ما إذا كان الرياحي قد خضع لضغوط أو ابتزاز لكن الرجل نفى ذلك. كما أن هذه الأطراف إذا ما تحالفت لتشكيل جبهة سياسية ستجمع 136 مقعداً من جملة 217، وهو ما يجعلها حسابياً تمتلك أغلبية مُريحة داخل البرلمان ويتيح لها فرضية الحكم ثلاثياً.

تعليقاً على تأسيس الجبهة البرلمانية اعتبر نزار الزغدودي الصحافي والمُتابع للشأن السياسي إن الجبهة ولدت ميتة ، لأنه وحسب تجربة تونس كل مشروع يقوم على العزْل أو الإقصاء يفشل مثل ما حصل مع قانون تحصين الثورة ، والذي كان الهدف منه عزْل طرف سياسي مُعيّن . إضافة إلى ذلك أكّد الزغدودي إن دخول الاتحاد الوطني الحر في الترويكا الجديدة قد أحبط جهود الجبهة البرلمانية ومكَّن الأولى من الحصول على أغلبية مُريحة تمكّنها من تمرير ما تريد من قوانين.

تسع حكومات مرّت على التونسيين منذ 2011، وهو ما يدلّ على عدم استقرار الوضع السياسي إلى حد الآن. خطاب رئيس الحكومة الأخير جاء مُفعماً بالرسائل ، أهمّها التأكيد على مواصلة الحرب على الفساد وتسليط أشدّ العقاب على المُحتكرين، كما دعا إلى ضرورة الالتفاف حول حكومة الوحدة الوطنية ودعمها من أجل المواصلة في الإصلاحات ، ما يُحيلنا إلى خطاب رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد الذي طالب فيه بنفس الدعم لحكومته من أجل المضيّ في الإصلاح، فهل سيتم دعم الحكومة وتوفير حِزام سياسي لها أم ستُلاقي نفس مصير الحكومة السابقة.