تونس ... صحوة قبل فوات الأوان

كانت نقطة التحول في مسار التهديد الأمني الذي تواجهه تونس في مارس/آذار 2016 حين تسلل عدد من المسلحين التابعين لما يسمى "كتيبة البتار" من الحدود الليبية الى داخل مدينة "بنقردان" وحدثت سلسلة من المعارك بينهم وبين وحدات الشرطة والقوات الخاصة على مدار أربعة أيام.

تحديات أمنية كبرى أمام تونس
كشْف السلطات التونسية عن استعدادها لاستقبال عشرات العناصر المتهمة بالانتماء لتنظيمات إرهابية من السلطات الليبية بعد إلقاء القبض عليها، أعاد الى الواجهة حقيقة مواجهة تونس والجزائر منذ مطلع هذا العقد لمخاطر أمنية متزايدة، تكونت نتيجةً لعوامل عديدة أهمها التدهور المستمر في الميدان الليبي، وأيضاً "المبايعات" التي نفذتها تنظيمات جهادية موجودة على أراضي البلدين لتنظيم "داعش" الإرهابي، وما صاحبها من تطور في أساليب هذه التنظيمات وعملياتها المسلحة كماً ونوعأ. ربما تواجه تونس عبء أكبر مما يواجهه الجزائر في هذا النطاق، لكن تبقى الدولتان، مضافةً إليهما مصر في مواجهة خطر أمني حقيقي مصدره ليبيا.

المعضلة الأمنية بعد سقوط القذافي

القوات الخاصة التونسية USGN
تصاعدت المخاطر الأمنية المهددة لتونس بشكلٍ سريع منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا عام 2011، حيث باتت الحدود بين البلدين والتي يتجاوز طولها 400كم ممرات لعبور الأسلحة والمقاتلين وعمليات التهريب إلى داخل تونس. كما تزايدت بالتبعية عمليات تنقل المسلحين من خلال الحدود التونسية - الجزائرية التي يتعدى طولها 900كم بشكلٍ بدأت نتائجه تظهر بوضوح منذ منتصف عام 2013 الذي شهد معارك عنيفة بين قوات الجيش والحرس الوطني التونسية وإحدى كتائب تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي يتمركز في الجزائر وتسمى "كتيبة عقبة بن نافع"، تعرضت فيها القوات التونسية لخسائر كبيرة في الأرواح، كان أبرزها ما تعرضت له في كمينين بجبل الشعانبي استخدمت فيهما الألغام والقذائف المضادة للدروع في يوليو/تموز من عامي 2013 و2014، وبلغ عدد الشهداء من القوى الأمنية التونسية 22 قتيلاً في هاتين الحادثتين. على الرغم من الاستجابة السريعة من جانب الجيش التونسي الذي أطلق في أغسطس/آب 2013 عملية جوية وبرية واسعة في جبل الشعانبي، إلا أن هذه المواجهات أظهرت فداحة الخرق الأمني والقدرات التسليحية الكبيرة للمجموعات المسلحة، والتي أثبتت قدرة كبيرة على الخروج من مناطق سيطرتها في ولاية القصرين وتنفيذ عمليات فى ولايات أخرى وبث خلايا نائمة تنفذ عمليات خاطفة.

تلت عمليات جبل الشعانبي عمليات متفرقة لكنها اتسمت بالنوعية والدموية، كان أهمها في مارس/آذار 2015 حين تم الهجوم على متحف "باردو" قرب العاصمة تونس واحتجاز رهائن بداخله، تلاه في يونيو هجوم مسلح استهدف فندقاً في منطقة "مرسي القنطاوي" السياحية بمدينة سوسة، وأسفر الهجومان عن أكثر من 65 قتيل وعشرات الجرحى، كما تم تنفيذ كمائن متفرقة استهدفت دوريات للجيش التونسي في المناطق الجبلية بولاية القصرين الحدودية مع الجزائر، منها كمين نفذته عناصر تتبع أيضاً لكتيبة عقبة بن نافع ضد دورية للجيش التونسي في "جبل مغيلة" في أبريل/نيسان 2015.

على أثر هذه الضربات نفذت القوى الأمنية التونسية عدة عمليات اقتحامية ناجحة خلال شهر فبراير/شباط من العام نفسه، أسفرت عن اعتقال مائة عنصر مسلح خلال ثلاثة أيام فقط، كما نفذت عمليات نوعية استهدفت القضاء على قيادات الصف الأول والثاني في كتيبة عقبة بن نافع. أهم هذه العمليات نفذتها الوحدة الخاصة بالحرس الوطني "USGN" ومنها عملية تمت أواخر مارس/آذار 2015 في منطقة "سيدي عيش" بولاية قفصة وأسفرت عن تصفية تسعة من أخطر قيادات كتيبة عقبة بن نافع على رأسهم قائد الكتيبة الجزائري الجنسية لقمان أبو صخر، وأفشلت مخططاً كبيراً كان يستهدف نقل عربات مفخخة من ليبيا الى مناطق متعددة في تونس. عقب هذه العملية نفذت الوحدة نفسها عمليةً ناجحة أخرى في "جبل بوعمران" بالولاية نفسها نتج عنها تصفية خمسة قيادين آخرين بالكتيبة مما أدى بشكل عملي الى انحسار تأثيرها الميداني بشكلٍ تدريجي.

كانت نقطة التحول في مسار التهديد الأمني الذي تواجهه تونس في مارس/آذار 2016 حين تسلل عدد من المسلحين التابعين لما يسمى "كتيبة البتار" من الحدود الليبية الى داخل مدينة "بنقردان" وحدثت سلسلة من المعارك بينهم وبين وحدات الشرطة والقوات الخاصة على مدار أربعة أيام. هذه الكتيبة يعود تاريخ تأسيسها الى أواخر 2012 في سوريا على يد جهاديين ليبيين، وقامت لاحقاً في 2013 بمبايعة تنظيم داعش الإرهابي، وانتقلت الى ليبيا بعد نشاط ميداني لها في سوريا والعراق، وكان لها دور مهم في هجومي "باردو" و"سوسة". حاولت هذه الكتيبة في هجومها على بنقردان السيطرة على كامل المدينة ومقراتها الأمنية، تمهيداً لإعلانها "إمارة أسلامية" لتكرر سيناريو محافظة الرقة في سوريا، وبرغم عنصري المفاجأة والسرعة في تنفيذ الهجوم، إلا أن القوات الأمنية التونسية اتخذت إجراءات سريعة عديدة، منها إغلاق المعابر الحدودية مع ليبيا، وإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول في المدينة، وتمكنت فرق مقاومة الإرهاب التونسية خصوصاً فرقة "BAT" التي تمثل قوات النخبة في الشرطة التونسية وفرقة التدخل السريع العملياتي "GIM" المنتخبة من القوات الخاصة التونسية بجانب فرق خاصة أخرى من الحرس الديواني، من إحكام السيطرة الكاملة على المدينة وتصفية حوالي 50 مسلحاً.

شكلت هذه العملية نجاحاً كبيراً للقوى الأمنية التونسية، لكنها في الوقت نفسه مثلت جرس إنذارٍ يحذر من عودة النشاط الإرهابي بشكلٍ أكبر من المرحلة السابقة. منذ هذا الهجوم لوحظ النشاط المتزايد للفرق الأمنية التابعة للحرس الوطني في الولايات التي تنشط فيها المجموعات المرتبطة بتنظيم داعش، مثل جندوبة والكاف والقصرين وقفصة وتطاوين وتونس العاصمة، التي تم تفكيك خلايا عديدة فيها، كانت تنظم عمليات تنقل المسلحين من ليبيا الى تونس والعكس. لوحظ أيضاً ظهور نشاط لخلايا إرهابية نائمة في ولايات أخرى لا تعد مناطق معروفة للنشاط المسلح مثل ولاية المهدية التي فككت فيها فرقة تابعة للحرس الوطني مؤخراً خلية مسلحة مكونة من ستة أشخاص. ويضاف الى ذلك مداهمات ومطاردات تمت خلال الفترة الماضية في سيدي بوزيد وبنزرت وقابس وقبلي وزغوان. ومازال التركيز الميداني للفرق الأمنية التونسية منصب على منطقة جبل الشعانبي وجبل المغيلة بهدف وضع العناصر المسلحة الموجودة فيهما تحت السيطرة، ومنع عمليات التسلل التي تتم إليهما من الحدود الجزائرية أو منهما في اتجاه ولايات أخرى.

تطور الأسلوب العملياتي للفرق الأمنية التونسية

المروحية الروسية MI-35
من النقاط المهمة في ما يتعلق بالأداء الميداني للفرق الأمنية التونسية هو حقيقة أنها نفذت المهام المطلوبة منها بنجاح كبير على الرغم من القصور الذي يعتري الوسائط الداعمة لعملها سواء كانت وسائط نارية "مدفعية – طائرات ومروحيات" أو وسائط النقل "مدرعات – ناقلات جند" أو حتى وسائط معلوماتية "طائرات دون طيار"، شكلت الألغام المضادة للدبابات جانب مهم من جوانب التهديدات التي تعرضت لها هذه الفرق خصوصاً في عملياتها في جبل الشعانبي، نظراً لأن ترسانة الجيش التونسي من ناقلات الجند المدرعة والتي تتعدى 650 ناقلة وعربة قتال لا يوجد بها مدرعات مقاومة للألغام "MRAP"، سوى عدد محدود لا يتجاوز 40 مدرعة من نوع "Kirpi" تركية الصنع من أصل مائة مدرعة تم التعاقد عليها، وهو عدد لا يكفي قطعاً للخدمة على حدود طويلة مثل الحدود التونسية - الجزائرية، ويمتلك الجيش التونسي 230 قطعة مدفعية ميدان من عياري 105 و155مللم مضافاً إليها 200 مدفع هاون من عيار 120 مللم، قدمت دعماً مهماً للعمليات الأمنية خصوصاً في المناطق الجبلية، لكن لم يتم الإعتماد كثيراً عليها نظراً لأن معظم المداهمات كانت تتم في مناطق سكنية. بالنسبة للدعم الجوي تشكل هذه النقطة مشكلة في المدى القريب لمستقبل العمليات الأمنية لمكافحة الإرهاب نظراً لتقادم الأسطول القتالي التونسي من مقاتلات "F5" أميركية الصنع والتي لا يتجاوز عدد الصالح منها للمجهود القتالي 15 مقاتلة في أحسن التقديرات، يضاف إليها 12 طائرة تدريب متقدم تشيكية الصنع من نوع "L59"، يستخدمها سلاح الجو التونسي كطائرة هجوم أرضي، وهو عدد لا يشكل الثقل المطلوب على مستوى الدعم الجوي في حالة عمليات أمنية واسعة في المناطق الحدودية مع الجزائر. يفتقر سلاح الجو التونسي أيضاً الى المروحيات الهجومية التي تعتبر العمود الفقري لأي عمليات عسكرية أو أمنية ضد الإرهاب، حيث لا يمتلك سوى سبع مروحيات هجومية من نوع "SA-341" فرنسية الصنع. أما في ما يتعلق بالطائرات دون طيار فعلى الرغم من ريادة تونس في المجال التصنيعي للطائرات دون طيار منذ عام 1997، إلا أن التي تمتلكها وهي الطائرة "نسناس" والطائرة "جبال العسة" محليتا الصنع والطائرة الأميركية "RAVEN" لا تشكل ثقلاً كبيراً في أي عمليات لمكافحة الإرهاب، نظراً لانعدام قدراتها على شن عمليات هجومية صاروخية وتخصصها فقط في عمليات المراقبة والاستطلاع المهمة أيضاً لأي عمليات برية.

برغم هذا الواقع، إلا أن القوى الأمنية والعسكرية التونسية تحاول تطوير قدراتها الميدانية وفي الوقت نفسه تعزيز تسليحها على قدر المستطاع والمتاح مالياً. على مستوى الميدان طورت هذه القوى تكتيكاتها وقامت بتفعيل دور سلاح الجو بشكلٍ دائم على الحدود مع ليبيا والجزائر عن طريق إدامة طلعات الدورية الجوية. أيضاً استفادت من دروس المواجهات في المناطق الجبلية، وأنشأت نقاط مراقبة بصرية ورادارية دائمة موزعة في النقاط الاستراتيجية داخل وعلى مداخل المناطق الجبلية الساخنة، واعتمدت العربات المضادة للألغام كوسيلة تنقل أساسية في هذه المناطق، وهذه الاستراتيجية بدأت تعطي مؤشرات إيجابية من أهمها فشل الكمين الذي نصبته مجموعة مسلحة لدورية تابعة لقوات الحدود في ولاية القصرين أواخر مارس/آذار الماضي. على مستوى التسليح ينتظر أن يتسلم سلاح الجو التونسي أواخر هذا العام 12 مروحيةً من نوع "UH-60M" أميركية الصنع تم التعاقد عليها عام 2014 لدعم العمليات الهجومية التي تنفذها القوات الخاصة التونسية،
أيضا سيتم تسليم باقي مدرعات "Kirpi" التركية المضادة للألغام.

في الخلاصة نستطيع أن نقول إن الأداء الميداني للقوات الخاصة التونسية والتي تعد أفضل قوة عسكرية على المستوى التسليحي في الميدان التونسي كان رفيعاً ومتطوراً، برغم التردي الواضح في الوسائط القتالية التي من المفترض أن تعاونها في الميدان. على المدى البعيد وفي ظل المخاطر الأمنية الحالية والمستقبلية سيظل الداخل التونسي عرضة لهزات أمنية كبيرة إذا أستمر هذا التردي في التسليح التونسي، خصوصاً في ما يتعلق بسلاحي الجو والمدرعات. سلاح الجو التونسي يحتاج الى مقاتلة متعددة المهام رخيصة التكاليف تستطيع تنفيذ مهام الإعتراض الجوي والعمليات الهجومية الأرضية وقد تكون مقاتلة "JAS 39" السويدية المرشح الأفضل لهذه المهمة أو المقاتلة الباكستانية "JF-17"، كما يحتاج أيضاً الى أعداد من المروحيات الهجومية مثل المروحيات الروسية "Mi-35" أو المروحيات الأميركية "Apache"، وطائرات من دون طيار ذات قدرات هجومية مثل الطائرة الصينية "CH-4B". يحتاج سلاح المدرعات التونسي كي يحتفظ بأفضلية على الأرض الى عدد أكثر من العربات المدرعة المضادة للألغام مثل الأميركية "COUGAR". وربما كان التكامل العسكري بين تونس والجزائر والذي كان ركناً أساسياً من أركان الأستراتيجية العسكرية التونسية خلال الفترة الماضية ناجعاُ وأساسياً، لكنه لن يكون مضمون النتائج في ظل تنامي التهديدات الأمنية في الجزائر مرة أخرى، بعد سنواتٍ من الهدوء عقب معارك "العشرية السوداء"، وهو خطر تستشعره الجزائر منذ فترة، وبدأت تستعد له ولنتائجه المحتملة.