بعد 43 عاماً .. المعركة مستمرة في الجولان وسيناء
تحلّ اليوم الذكرى الثالثة والأربعون لحرب تشرين/ أكتوبر 1973 والتي مَثّلت نقطة مفصلية في مسار الصِراع العربي الإسرائيلي.
تحلّ اليوم الذكرى الثالثة والأربعون لحرب
تشرين/أكتوبر 1973 والتي مَثّلت نقطة مفصلية في مسار الصِراع العربي الإسرائيلي.
تحلّ هذه الذكرى والمشهد في ميدانها السابق في الجولان وسيناء أقرب ما يكون إلى
المشهد صبيحة العاشر من رمضان 1973، تطابُقات وتشابُهات كثيرة تجعل هذه الذكرى
أكثر من مُجرَّد حدث يُحتَفل به كل عام وتحوّلها إلى واقع مُعاش ليس في الميدانين
السوري والمصري بل أيضاً في الميدان الليبي والعراقي وكل ميادين الحرب ضدّ
الإرهاب. هي معركة مازالت على ما يبدو مُستمرّة منذ الثانية من ظهر السادس من
أكتوبر وحتى الآن حتى وإن اختلفت الأسلحة وأختلف العدوّ واختلفت طُرُق القتال
والسيطرة لكن يبقي في كل ما سبق بعض ملامح من روح أكتوبر آثارها واضحة في معارك
اليوم.
حرب أكتوبر مَثّلت نقطة مفصلية في مسار الصِراع العربي الإسرائيلي
السلاح السوفياتي، التجربة والإنجاز
كان للدعم العسكري السوفياتي "خصوصاً التسليحي" دوراً محورياً في إنجاح الهجوم السوري المصري
كان للدعم العسكري السوفياتي "خصوصاً التسليحي" دوراً محورياً في إنجاح الهجوم السوري/المصري المُتزامن ظهر السادس من أكتوبر، وهو الدعم الذي استمرّ بوتيرة مُتغيّرة تجاه البلدين منذ ذلك الوقت وحتى الآن وإن كان بصورة أكبر تجاه سوريا خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. كانت الأسلحة والأعتدة الحربية للجيشين السوري والمصري سوفياتية الصُنع بشكلٍ شبه كامل وتمكنا من استخدامها بالطريقة الأمثل ميدانياً ، على الرغم من الفروق التكنولوجية بين ما يمتلكانه وبين ما يمتلكه الجيش الإسرائيلي الذي حاز على أحدث الأسلحة الأمريكية بكافة صنوفها وبكميات غير محدودة. الفجوة التقنية بين الأسلحة الروسية والأمريكية في هذه الحرب كانت أوضح ما يكون في ما يتعلّق بسلاحي المُدرّعات والطيران اللذان كانا الأسلحة الرئيسية خلال هذه الجولة من المعارك.
القوة المُدرّعة: كانت الدبّابة الرئيسية في هذه الحرب بالنسبة إلى الجانبين السوري والمصري هي الدبّابة "تي55"، والتي كانت عَصَب القوة المُدرّعة على الجبهتين بجانب أنواع أقدم مثل "تي34" و"تي54" وأنواع أحدث مثل "تي62" التي شاركت في الحرب بأعداد محدودة. واجهت هذه الأنواع من الجانب الإسرائيلي بشكل رئيسي الدبّابة الأمريكية "أم60" والدبّابات الأقدم "أم48 باتون" و"أم50/51 شيرمان" والدبّابة بريطانية الصنع "سنتوريون". كانت التي55 في الجانب العربي مزوّدة بمدفع رئيسي من عيار 100مللم يبلغ مداه الأقصى حوالى 1200 متر، وهو مدى أقل من المدى الذي يوفّره مدفع الدبابة "أم60" البريطاني الصُنع من عيار 105مللم ويبلغ 1600 متر بدقّة أكبر، ما وفّر أفضلية كبيرة للكتائب المُدرّعة الإسرائيلية حتى أمام الأعداد المحدودة من دبّابات "تي62" التي كانت تمتلك مدفعاً من نفس العيار وبمدى مماثل، لكن كان مستوى أجهزة التنشين وزاوية الضرب أفضل في الدبّابات الإسرائيلية التي تزوّدت باقي أنواعها الأقدم بهذا المدفع. هذا التفوّق عالجته الكتائب المُدرّعة المصرية والسورية بتكامل عملها مع مهام فِرَق قنص الدبّابات، فالعقيدة الهجومية الإسرائيلية في هذه الفترة كانت تعتمد على الدبّابات كأداة اقتحام أساسية وقوة مُستقلة، وهي عقيدة ثبُتَ فشلها الذريع خلال مُجريات المعارك بسبب إغفالها التطوّر التقني والتكتيكي والتسليحي للقوات العربية. فوجئت الأطقم الإسرائيلية بكمائن مُحكمة من وحدات قنص الدبّابات المُسلحة بالصواريخ المحمولة على الكتف "أر بي جي7" والموجّهه بالسلك "مالوتيكا"، وهذه الأخيرة كانت المُفاجأة الأكبر في هذه الحرب بجانب القدرات الإعجازية لأطقم تشغيلها التي تبارت في ما بينها على تدمير أكبر عدد من المُدرّعات الإسرائيلية التي كانت طواقمها تُصعق من كثافة الهجمات غير المحدد أماكن انطلاقها نظراً للتمركّز الجيّد للأطقم المصرية، تم تسجيل أرقام قياسية للرصيد الفردي من الدبّابات المُدمّرة حيث دمّر المُقاتل محمُد المصري ما مجموعه 27 دبّابة والمقاتل محمّد عبد العاطي ما مجموعه 23 دبّابة.
هذه الاستراتيجية سمحت بتوفير المجهود المُدرّع المصري خلال الستة أيام الأولي للحرب وتحويله إلى سلاح دعم ناري لقوات المُشاة المُتصدّية للقطعات المُدرّعة الإسرائيلية، واُستخدمت المُدرّعات والدبّابات المصرية أيضاً كمَدَافِع ذاتية الحركة لدعم هجمات المُشاة على بعض حصون خط بارليف التي لم تتم السيطرة عليها في اليوم الأول. فقد الجيش الإسرائيلي في أول أسبوع من القِتال على الجبهة المصرية ما بين 360 إلى 400 دبّابة نصفها على الأقل بصواريخ "مالوتيكا". وشهد اليوم الثامن من أكتوبر أبرز المعارك التصادمية في هذا الصدد بين عناصر فرقة المُشاة الثانية المصرية وكتائب من اللواء 190المُدرّع الإسرائيلي التي حاولت التقدم في اتّجاه كوبري ونقطة الفردان المُحاصرة على خط القناة، فَقَدَ اللواء الإسرائيلي في مدة نصف ساعة 30 دبّابة منها ثمانٍ سليمة من مجموع 35 دبابة كانت تُشكّل قوام كتيبة النسق الأول من هجوم اللواء الإسرائيلي، وقد أَسَرَت قوات الفرقة المصرية قائد هذه الكتيبة العقيد عساف ياجوري، وفي اليوم نفسه حاولت كتيبة من اللواء نفسه الهجوم باتّجاه الفردان لكن تم التصدي لها وتدمير أكثر من 20 دبّابة في معركة كانت خير مِثال على معارك "الأسلحة المُشتركة"، حيث نسّقت الفرقة المصرية جهود مدفعية الجيش الثاني وعناصر قنص الدبّابات وأطقم المُدرّعات وسلاح الجوّ بحيث تم التغلّب على الأفضلية الميدانية للدبّابات المُهاجِمة من نوع "سنتوريون"، وحينها خاطر قائد الفرقة العميد حسن أبو سعده بترك القوة المُدرّعة الإسرائيلية تقترب لمسافة تقل عن 3كم من خط القناة لتقوم كل الأسلحة بصب نيرانها على القوة الإسرائيلية.
مثّلت معارك "المزرعة الصينية" مثالاً آخر من أمثلة تحطيم العقيدة الهجومية الكلاسيكية للقوة المُدرّعة الإسرائيلية، حيث حاولت قوات المظلّيين مدعومة بالدبّابات التابعة للفرقة 143 المُدرّعة يوم 15 أكتوبر اقتحام منطقة المزرعة لتأمين تثبيت الجسر العائم لعبور القوات إلى الضفة الغربية للقناة لتنفيذ خطة "أبراي/ ليف" التي أعدّها الجنرال حاييم بارليف لحصار الجيش الثالث المصري وقطع طريق إمداداته، جوبِهت الكتيبة 890 مظلّات والفرقتان المُدرّعتان اللتان هاجمتا المزرعة على موجتي هجوم بسيل من قذائف الآر بي جي ونيران المدفعية المُركّزة، ثم تحوّل القتال إلى اشتباك قريب بين الدبّابات والمُشاة طوال الليل ظهرت فيه مزايا الدبّابة الروسية " ني-62" التي كانت مُزوّدة بأجهزة ممتازة للرؤية الليلية. كانت كلمات الجنرال إسحاق موردخاي قائد كتيبة المظلّيين الإسرائيلية مُعبّرة عن مدى الخسائر الإسرائيلية في هذه المعركة حين قال أن نسبة القتلي من جنوده الذين شاركوا في هذه المعركة كانت واحد من كل ثلاثة.
سلاح الجوّ: الطائرات المُقاتلة والقاذفة كانت السلاح الأهم في هذه الحرب، امتلكت مصر وسوريا بشكل أساسي المُقاتلة "ميج21" مدعومة بأعداد قليلة من المُقاتلات الفرنسية "ميراج3" مُرسَلَة من ليبيا والمُقاتلات الأٌقدم "ميج17" و"ميج19" والقاذفات "سوخوي7" و"سوخوي17" و"اليوشن28" والقاذفات الاستراتيجية "ني يو16"، تقابلها في الجانب الإسرائيلي المُقاتلة الأمريكية المُتفوّقة "فانتوم2" والمُقاتلات القاذفة فرنسية الصنع "ميراج3" و"ميراج5" و"ميستير" و"سوبر ميستير" والمُقاتلات مُتعدّدة المهام "ايه4 سكاي هوك". الفجوة بين الميج21 والفانتوم كانت مُتعدّدة الأوجه خصوصاً في ما يتعلّق بالتجهيزات الإلكترونية، حيث كانت في الميج21 مُتقادِمة جداً على عكس الفانتوم التي كانت أحدث طائرة مُقاتلة أمريكية في هذه الفترة. كان الفارِق بين الطائرتين في المدى العمليّاتي وحمولة الأسلحة كبيراً جداً، فالفانتوم تستطيع حمل ذخائر يصل وزنها إلى قُرابة 7 أطنان بمدى يتعدّى 2000 كم، في مقابلها تحمل الميج21 ذخائر تصل زنتها إلى 2.5 طن فقط بمدى لا يتعدّى 700كم ، ما أعطى لإسرائيل تفوّقاً كبيراً سمح لها بتنفيذ إغارات في العمق المصري من دون أن تتمكّن المُقاتلات المصرية من استهداف العمق الإسرائيلي بالمثل. كان للفانتوم أفضلية أخرى في الاشتباكات الجويّة تتعلّق بذخائر الاشتباك الجوّي والقدرة على المناورة. المُقاتلات الإسرائيلية امتلكت أربعة أنواع أساسية من الصواريخ الجويّة سمحت لها بالاشتباك مع الطائرات المصرية من مسافات تتراوح بين 5كم و30كم مع قدرة على حمل ما بين 4 إلى 8 صواريخ في الطلعة الواحدة، في حين أن المُقاتلات المصرية لم تمتلك إلا نوعاً واحداً من أنواع صواريخ الاشتباك الجوي وهو الصاروخ "أر3" الموجّه حرارياً ويبلغ مداه الأقصى 8كم فقط، ولم يكن مُتاحاً للمُقاتلات المصرية سوى حمل صاروخين فقط في كل طلعة، لكن على الرغم من هذا التفوّق الإسرائيلي إلا أن الميج21 أسقطت خلال الحرب ما مجموعه 40 مقاتلة وقاذفة إسرائيلية. تميّزت الفانتوم أيضاً بقدرتها العالية على المُناورة في الارتفاعات المُنخفضة على عكس الميج21 التي كانت تتميّز في المناورة على الارتفاعات العالية فقط، ولذلك كانت المُقاتلات الإسرائيلية تحاول نَصبَ كمائن للمُقاتلات المصرية في توقيت تكون فيه مخزوناتها من الوقود قد قاربت على الانتهاء لإجبارها على خفض ارتفاعاتها. لمُعادلة هذه الفجوات أجرى سلاح الجوّ المصري تعديلات على مُحرّكات الميج وخزّانات الوقود الإضافية بها ونقاط تعليق الذخائر، واستوعب الطيّارون المصريون الأساليب الإسرائيلية في القتال الجوّي خلال حرب الاستنزاف وابتكروا أساليب جديدة للاشتباك الجوّي.
الضربة الجوية المصرية في السادس من أكتوبر جسّدت الدروس التي استفاد منها سلاح الجو المصري خلال معارك 1967 وحرب الاستنزاف، حيث نفذّت 220 مُقاتلة وقاذفة ضربة جوية مُركّزة على المواقع الإسرائيلية في سيناء بنجاح كبير تعدى 90 بالمائة، وشاركت في هذه الضربة للمرة الأولي القاذفات الاستراتيجية "تي يو16" التي استهدفت بصواريخ "k11" و"k16"محطّات الرادار والإعاقة والتشويش ومركز القيادة الرئيسي في أم خشيب، ما كان لها أثر فوري في تعطيل وإرباك مُتّخذي القرار الميداني للجيش الإسرائيلي في الساعات الأولي للهجوم. شهدت الأيام التالية للحرب تفوقاً كاسِحاً للمُقاتلات المصرية التي قدّمت الدعم الأرضي للقطاعات المُدرّعة المصرية خلال معاركها في محيط حصون بارليف وبعد ذلك في القطاع الأوسط للجبهة. وجّه الأداء الجوّي المصري خلال هذه الحرب ضربة قاصمة للاستراتيجية الجوية الإسرائيلية التي تغيّرت مرات عدّة خلال الحرب. كانت الاستراتيجية في البداية محاولة تنفيذ كمائن جوية للمُقاتلات المصرية عن طريق عمل مظلّات من اُلمقاتلات الإسرائيلية لمحاولة إغراء المُقاتلات المصرية لمهاجمتها ومن ثم تكون المُقاتلات المهاجِمة بعيدة عن مدى تغطية الدفاع الجوّي وقارَبَ وقودها على النفاذ، لكن فشلت هذه الاستراتيجية بسبب تكامل عمل منظومات الدفاع الجوّي المتحرّكة في سيناء "سام6 – سام7" مع النشاط الجوّي المصري. تحوّلت الاستراتيجية إلى مهاجمة المطارات ووسائط الدفاع الجوّي، وشهدت الأجواء المصرية معارك جوية كبيرة لم يسبق لها مثيل في التاريخ المُعاصِر على رأسها معركة المنصورة الجوية يوم 14 أكتوبر، التي اشتبكت فيها نحو 130 مُقاتلة إسرائيلية مع ما بين 40 إلى 60 مُقاتلة مصرية في قتال عنيف لمدة تقارب الساعة بغرض شل حركة المطار. خلال هذه المعركة نفّذت الأطقم الأرضية المصرية رقماً قياسياً في زمن إعادة تذخير وتموين المُقاتلات المصرية بلغ أقل من 6دقائق للطائرة الواحدة، ولجأ الطيّارون المصريون إلى الإقلاع والهبوط مرات عدّة خلال فترة الاشتباك لمواجهة التفوّق العددي للمُقاتلات المُهاجِمة. أسفرت هذه المعركة عن إسقاط 17 مُقاتلة إسرائيلية مقابل 6 مُقاتلات مصرية، سقط أغلبها بسبب نفاذ الوقود، وأدّت هذه المعركة إلى إفشال الاستراتيجية الجويّة الإسرائيلية بشكل نهائي خصوصاً وأن مطار القطامية ظلّ عاملاً خلال مدة الحرب على الرغم من تعدّد محاولات الهجوم عليه، ولم يتعطّل مطار المنصورة سوى ليوم واحد. سجّلت المُقاتلات والقاذفات المصرية خلال مدة المعارك التي استمرت 18 يوماً حوالى 6815 طلعة قتالية، وقام عدد كبير من الطيّارين بتنفيذ سبع طلعات في يوم واحد وهو رقم قياسي غير مسبوق.
الدفاع الجوّي: انشأ الجيش المصري على الضفة الغربية للقناة شبكة من الرادارات وقواعد الصواريخ من أنواع "سام2" و"سام3" و"سام6" ومرابض للمدفعية المُضادّة للطائرات تم إنجازها على مراحل رغم الاستهداف المُتكرّر لهذه القواعد من قَبَل الطيران الإسرائيلي أثناء الإنشاء، بعد إتمام هذا الحائط باتت كتائب الدفاع الجوي المصرية في هذا النطاق قادرة على حماية القوات التي ستعبر القناة بعمق 15كم داخل الضفة الشرقية. الأداء العملياتي الباهر لأطقُم هذه البطاريّات كان من المُفاجآت الكبرى لسلاح الجوّ الإسرائيلي الذي صُعِق طيّاروه من قدرة الأطقم المصرية على الاشتباك على الرغم من عمليات التشويش المُستمرة على راداراتها وإدخال إسرائيل لصواريخ "شرايك" المُضادّة للرادار، أسقطت وحدات هذه القواعد ما مجموعه 140 طائرة خلال كامل الحرب. أيضاً كانت منظومات الدفاع الجوّي المُتحرّكة سواء تلك المحمولة على الكتف "سام7" أو الذاتيّة الحركة "سام6" في غاية الأهمية لدعم القوات التي عبرت القناة إلى الضفة الشرقية، وساهمت في التصدّي للقاذفات الإسرائيلية المُهاجمة للقطعات المصرية المُدرّعة خصوصاً وإن أجهزة التحذير من الصواريخ داخل القاذفات الإسرائيلية فشلت في رصد انطلاق صواريخ "سام6" من على قواذفها ، ما كان يُقلّل بشكلٍ كبيرٍ من إمكانية القيام بمناورات لتفادي الصواريخ المُقتربة، وهذا انعكس على عدد الطائرات التي أسقطتها تلك المنظومة والذي تراوح بين 60 و75 طائرة. الصدمة الإسرائيلية من أداء الدفاع الجوّي المصري كانت واضحة في ملامح عدّة منها التحذير المُذاع لاسلكياً من قِبَل قيادة الدفاع الجوّي الإسرائيلي تُحذِّر فيه قاذفاتها ومُقاتلاتها للابتعاد مسافة 15كم عن خط القناة تفادياً للوقوع ضمن مظلّة الدفاع الجوي المصرية، وكثيراً ما اضطرّت القاذفات الإسرائيلية إلى إلقاء ذخائرها بعيداً عن أهدافها والهرب بسبب كثافة الصواريخ المُطلَقة عليها. كانت أهم ملامح البطولة في عمليات كتائب الدفاع الجوّي المصرية هو ما حدث في قطاع بورسعيد الذي تعرّض وحده لأكثر من 930 غارة استُخدم فيها أكثر من 1500 طن من الذخائر، وبرغم ذلك تمكّنت كتائب هذا القطاع من إسقاط 21 طائرة إسرائيلية خلال كامل الحرب.
سلاح المهندسين : كانت التحديات الموضوعة أمام الهندسة العسكرية المصرية كبيرة وفي اتّجاهات عدّة أهمّها طبيعة خط بارليف، هذا الخط تكلّف 500 مليون دولار وهو عبارة عن 22 موقعاً فيها 36 نقطة قوية مزوّدة بكافة وسائل الاتّصال والمُراقبة والإعاشة، يفصل بينها وبين شاطئ القنال ساتر رملي تبلغ درجة ميله 45 درجة بارتفاع يتراوح بين 10 إلى 22 متراً. كان التحدّي الأساسي أمام المهندسين العسكريين هو كيفية تحقيق ثغرات في الساتر التُرابي بكفاءة وسرعة تسمحان بنشر الجسور التي ستعبر عليها القوات المُدرّعة، هذه المُعضلة جاء حلها على يد اللواء باقي زكي يوسف أحد قادة الجيش الثاني الميداني، والذي اقترح استخدام مضخّات للمياه عالية الضغط لفتح ثغرات في جسم الساتر مُستفيداً من خبرات سابقة أثناء بناء السدّ العالي، هذه الفكرة بالإضافة إلى الأسمنت الخاص الذي ابتكره عالم الكيمياء المصري رؤوف ميخائيل ونجحت به فصائل الضفادع البشرية من سد فتحات أنابيب ضخ النابلم إلى سطح القناة، ساهمتا في إنقاذ حياة الجنود الذين عبروا القناة وقلّصت الخسائر المُتوقّعة من 20 ألف جندي إلى 87 جندياً فقط. لم تتجسّد المهارة فقط في إيجاد الطريقة الأمثل لاختراق الساتر، بل كان التنفيذ أكثر مهارة وسرعة حيث تمكّن المهندسون العسكريون خلال خمس ساعات فقط بدلا من 48 ساعة حسب التقديرات الغربية من فتح ما بين 60 إلى 80 ثغرة في الساتر، ما سمح ببدء العبور على أول كوبري بين الضفتين في الثامنة مساء يوم العبور، بعد أن تمكّن المهندسون من تقليص زمن فتح وتركيب الكباري إلى ست ساعات فقط، وقد استشهد أثناء تركيب أحد هذه الكباري اللواء أحمد حمدي قائد وحدات الهندسة العسكرية المُخصّصة للجيش الثاني الميداني، وهو صاحب الفضل في تصنيع مصر لأجزاء عديدة من مهمّات الكباري ووسائط نقلها وسواتر حمايتها من الألغام ومادة الفلين الصناعي التي استُخدمت في طفو الكباري. وبهذا كان على الضفة الشرقية لقناة السويس صباح اليوم التالي للعبور مائة ألف مُقاتل يُمثّلون 5 فِرق للمُشاة مدعومة بألف دبّابة.
لم تقتصر إسهامات المهندسين العسكريين على العبور ومجرياتها، بل كانت لهم إسهامات مهمة في ما يتعلّق بالقوة الجويّة حيث جهّزوا خلال السنوات السابقة للعبور المطارات المصرية بأكثر من سبعمائة ملجأ مُحصّن للطائرات، بالإضافة إلى أكثر من عشرة مطارات جديدة. غياب هذه الملاجئ عن المطارات المصرية عام 1967 بالإضافة إلى تزوّد كل مطار بممر واحد فقط للإقلاع كانت من الأسباب المهمة لتمكّن الطيران الإسرائيلي من تدمير الطائرات على الأرض، وقد حمت هذه الملاجئ الطائرات المصرية خصوصاً خلال الغارات التي شنّتها القاذفات الإسرائيلية ضدّ المطارات المصرية التي بات فيها ممران أو ثلاثة للإقلاع ما جعل من المُستحيل وقف أي مطار عن العمليات الحربية.
الخِداع الاستراتيجي المصري أهم أسلحة الحرب
النجاح المصري والسوري في عبور الخطوط الدفاعية الإسرائيلية أثبت أن تقديرات تل أبيب كانت خاطئة إلى أبعد حد
توفّر أمام الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية منذ مطلع تشرين/أكتوبر 1973 العديد من المؤشّرات التي قد تُشير إلى إمكانية حدوث عمل عسكري قريب، من هذه المؤشّرات بدء سحب الخبراء السوفيات وعائلاتهم من مصر، وإعلان سلاحي الجوّ والبحرية المصريين حال الاستعداد القتالي، وبدء نقل الدبّابات ومعدّات الجسور وفتح ثغرات في حقول الألغام. السبب الذي جعل اللواء أيلي زاعيرا رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية يظلّ مُقتنعاً حتى مساء اليوم الخامس من تشرين/أكتوبر أن الهجوم العربي لن يتم ،هو خطّة الخِداع المصرية التي تم بناؤها على مدى السنوات السابقة للحرب، وارتكزت على هدف إقناع إسرائيل أن مصر تنفّذ سنوياً تدريبات روتينية ،وبالتالي كانت الاستخبارات العسكرية مُقتنعة أن تدريبات "تحرير41" التي كانت قد بدأت قبل العبور بأسابيع هي استكمال لتدريبات السنوات السابقة والتي فيها تم تجميع القوات وانسحابها عقب التدريب، وهذا الاقتناع جعل الاستخبارات العسكرية تقلّل كثيراً من مصداقية التحذير الذي نقله الملك الأردني الراحل إلى القيادة الإسرائيلية من الهجوم المصري/السوري الوشيك، كما أن تقديرات البنك الدولي في تقريره عن الوضع الاقتصادي المصري في النصف الأول من عام 1973 كانت تؤكّد بوضوح أن الاقتصاد المصري لن يتحمّل خمسة أيام من المعارك. هذا يُضاف إلى مئات التحرّكات المصرية التي كان الغرض منها الإيحاء بعدم وجود احتمالية قريبة للحرب، منها الإعلان عن تنظيم رحلات لسفر الضبّاط لأداء العُمرة ونيّة الرئيس المصري السفر في زيارات خارجية، والإعلان عن تسريح القوات الاحتياطية التي تم حشدها لتنفيذ العمليات التدريبية يوم 8 أكتوبر. نجاح القوات المصرية في أخفاء تجهيزات العبور وعمليات التذخير والملء في القواعد الجوية على الرغم من طلعات الاستطلاع وعمليات التصوير بالأقمار الصناعية، وتمكّنها من إخلاء عدد من المستشفيات داخل مصر استعداداً للحرب من دون إثارة الشكوك الإسرائيلية عن طريق ادّعاء وجود عدوى داخلها جعلت اللواء أيلي يكتب في مذكّراته أن المصريين يستحقّون نيشاناً على نجاحهم في تنفيذ خطّة الخِداع الاستراتيجي.
النجاح المصري والسوري في عبور الخطوط الدفاعية الإسرائيلية أثبت أن التقديرات التي وضعتها تل أبيب للقوة العربية وللقدرات التي تمتلكها الخطوط الإسرائيلية الأمامية كانت خاطئة إلى أبعد حد. ففي الجبهة السورية كان لإسرائيل 177 دبّابة قبل يوم العبور، اعتقد القادة في إسرائيل أنها أكثر من كافية لصدّ هجوم سوري كانوا يعتقدون أن احتماليته أكبر من احتمالية الهجوم على جبهة سيناء، ولكن تمكّنت القوات المُدرّعة السورية من اقتحام الخطوط الإسرائيلية بسرعة فائقة بعد فتح ثغرات في حقول الألغام والتغلب على الخنادق المُضادّة للدبّابات لتصل إلى النصف الجنوبي من الجولان خلال بضعة ساعات. التقديرات الإسرائيلية كانت تفترض أن أي هجوم عربي على خط آلون أو خط بارليف سيكون مُركّزاً على مناطق مُعيّنة بهما، لكن أثبتت المعارك أن الأستراتيجية العربية كانت الاقتحام على كل المحاور.
العقيدة التي قام عليها خط بارليف في الأساس ثبُتت عدم صحتها بعد الهجوم المصري، فالمخطّط الإسرائيلي اعتقد أن عملية اقتحام خط بارليف إن تمّت ستأخذ وقتاً طويلاً يصل إلى 48 ساعة ما يسمح باستدعاء الاحتياطي، وان هدف الهجوم في أفضل التقديرات سيكون السيطرة على خط بارليف فقط من دون التوغّل أكثر داخل عمق سيناء وهو ما ثبت عدم صحته، المُخطّط الإسرائيلي أعدّ خططه بناء على أن خط بارليف بنقاطه الحصينة ستتمكن من تأخير التقدّم المصري إلى داخل سيناء لكن سقطت الأغلبية الساحقة من هذه الحصون في الساعات الأولى للحرب.
الحرب الإعجازية.. والتشابُهات الحالية
هي حرب لم تنتهِ حتى الآن بل هي جولات مُتلاحقة ستظل مُستمرة طالما ظّلت أراض ٍعربية تحت الاحتلال
خلال حرب تشرين/أكتوبر ظهرت ومَضات إعجازية لم تتكرّر في أي ميدان عسكري لاحق، مثلاً تمكّنت إحدى كتائب الدفاع الجوّي المصرية من إسقاط طائرتي فانتوم بصاروخ واحد، وتمكّنت مروحية مصرية من نوع "مي8" من إسقاط فانتوم إسرائيلية عن طريق الصواريخ حرّة التوجيه، واستطاعت المُقاتلة العتيقة "ميج17" من إسقاط مُقاتلة إسرائيلية من نوع فانتوم، كان صمود القوات الخاصة المصرية خلال عمليات إبرارها بالمروحيات داخل سيناء في الساعات الأولى للحرب في ظلّ السيطرة الجوية الإسرائيلية من أهم ملامح الإعجاز العسكري في هذه المعركة التي شهدت ملاحم كبيرة مثل صمود القوات المصرية في جبل عتاقة وجبل مريم وصمود فصائل الصاعقة والمقاومة الشعبية في الإسماعيلية والسويس ونجاحها في صدّ هجمات أربعة ألوية مُدرّعة.
ربما انتهت فعلياً حرب تشرين أكتوبر بوقف أطلاق النار في 24 أكتوبر 1973 على الجبهة المصرية وفي يونيو 1974 على الجبهة السورية، لكن ذكرى الحرب تحلّ هذا العام والجبهتان تعيشان أجواء حرب يختلف فيها العدوّ والسلاح والتكتيك، للمُفارقة أن هذه المعارك ضدّ الإرهاب سواء في سيناء أو في سوريا يُستخدم فيها بعض الأسلحة التي سبق استخدامها في حرب تشرين مثل صواريخ المالوتيكا ومدفعية الميدان ودبّابات تي55 والشاحنات العسكرية روسية الصنع وحتى مقاتلات الميج21. الجسر الجوّي والبحري الروسي إلى سوريا والمُستمر منذ منتصف العام الماضي يتشابه مع الجسر الأمريكي الجوّي الذي قام بإنقاذ الجيش الإسرائيلي من خطر مُحدِق خلال الأيام السبعة الأولي للحرب، وهو الجسر الذي قال عنه الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيسكون "لولا الجسر الجوّي لما كان في مقدور إسرائيل الصمود أكثر من 48 ساعة أخرى". إسرائيل من طرفها تذكّر الأطراف العربية التي حاربت في 1973 أنها مازالت موجودة ولم تتوقّف يوماً عن القِتال، فطائراتها ومدفعيتها تضرب بين الفينة والأخرى مواقع في الجولان، والذخائر الإسرائيلية الصُنع تظهر بشكل شبه دوري في سيناء وفي مناطق عدّة في سوريا. هي حرب إذن لم تنتهِ حتى الآن بل هي جولات مُتلاحقة ستظل مُستمرة طالما ظّلت أراض ٍعربية تحت الاحتلال.