حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين

بعد الاستعراض العسكري الضخم الذي أجرته الصين في عام 2015 بمناسبة الانتصار على اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، أرسل الجيش الصيني 5 سفن حربية تجاه بحر بيرنغ بالقرب من ولاية ألاسكا الأميركية في مناورة غير مسبوقة وخطوة قرأها البعض بأنها مجرّد عملية استعراض عضلات.

لا يمكن فصل الاستفزازات بين الصين والولايات المتحدة اليوم عن المشهد الاستراتيجي الأوسع للتنافس بين القوتين
تفرض الصين نفسها حالياً بكل قوة على الساحة العالمية سالكةً الطريق إلى جيبوتي في القرن الإفريقي من أجل إقامة أول قاعدة عسكرية لها في الخارج، وهي تقوم طبقاً لتقارير وزارة الدفاع الأميركية الصادرة في عام 2015 بتطوير أسلحة الطاقة الحركية، وأشعة الليزر عالية الطاقة، وأسلحة الميكروويف عالية الطاقة، وأسلحة حزم الجزيئات، وأسلحة النبضات الكهرومغناطيسية. هذه التطوّرات دفعت الولايات المتحدة لترتيب أولوياتها والسعي لاحتواء الصين بعد أن  تناول عدد من الصحف الأميركية في عام 2013 تقريراً يشير إلى أن القوة العسكرية للصين في منطقة المحيط الهادئ الآسيوي تقترب من مثيلتها الأميركية.

لا يمكن فصل الاستفزازات بين الصين والولايات المتحدة اليوم عن المشهد الاستراتيجي الأوسع للتنافس بين القوتين العظميين. فانتقال السلطة على زعامة العالم هو التفسير المعياري للتوتّرات الحالية التي تتجسّد أحياناً باستفزازات بحرية، فقد قامت مؤخراً مدمّرة الصواريخ الموجّهة من البحرية الأميركية،  يو إس إس ستيتهم، بالإبحار 12 ميلاً بحرياً داخل مياه جزيرة تريتون في جزر باراسيل التي تسيطر عليها الصين، ما دفع بكين إلى إدانة "الاستفزاز" الأميركي. وعلى أية حال فإن هذه الحوادث ليست جديدة. ففي كانون الأول/ديسمبر 2013، كادت أن تسفر المواجهة بين السفن الصينية التي ترافق حاملة الطائرات الصينية لياونينغ والطرّاد الأميركي كاوبنز إلى تصادم عنيف في بحر الصين الجنوبي.

 بعد الاستعراض العسكري الضخم الذي أجرته الصين في عام 2015 بمناسبة الانتصار على اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، أرسل الجيش الصيني 5 سفن حربية تجاه بحر بيرنغ بالقرب من ولاية ألاسكا الأميركية في مناورة غير مسبوقة وخطوة قرأها البعض بأنها مجرّد عملية استعراض عضلات. وتكرّرت هذه التوتّرات في كانون الأول/ديسمبر 2016، عندما استولت سفينة بحرية صينية على طائرة استطلاع أميركية تحت سطح البحر بالرغم من معرفتها بأن سفينة يو إس إس بوديتش البحرية الأوقيانوغرافية، في طريقها إلى استرجاع الطائرة على بُعد نحو 50 ميلاً بحرياً من خليج سوبيك في الفلبين.  وقد أُعيدت الطائرة من دون طيّار في نهاية المطاف للولايات المتحدة، ولكن حوادث من هذا النوع أصبحت أكثر تواتراً منذ ذلك الحين، وأشعلت الصراع الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين. وفي منتصف شهر أيار/مايو من هذا العام، اعترضت طائرات SU30 الصينية طائرة كشف الإشعاع فينيكس WC-135 في  بحر الصين الشرقي. وبعد أسبوع، اعترضت مقاتلتان صينيتان طائرة مراقبة أميريكية من طراز  P3-Orion فوق بحر الصين الجنوبي.

 

التنافُس الاقتصادي والمصالح المُتشابِكة

يتبع كل من الولايات المتحدة والصين اليوم نمطاً مميزاً يُذكّرنا بعصر الحرب الباردة ويشمل الاحتكاكات على الفضاء الجيوسياسي، والخطاب العدائي، والبراعة الدورية، وظلّ الأزمة التي تلوح في الأفق. وما يعطي بعداً إضافياً للتوتّر المتزايد هو عامل لم يتواجد خلال الحرب الباردة يتمثّل بالتوتّر الاقتصادي المتزايد بين اللاعبيّن الكبار، خاصة مع تجاوز الاقتصاد الصيني للولايات المتحدة، وقد أعلن صندوق النقد الدولي العام الماضي في تقرير عن الاقتصاد العالمي ، يعتمد على تعادل القوة الشرائية ، أن الناتج المحلي الإجمالي الصيني بلغ 19 تريليون دولار أميركي، مقارنةً ب 18.8 تريليون دولار للولايات المتحدة. وكما يبدو من هذه المؤشّرات أن الحرب الباردة الجديدة ستكون أكثر تشعّباً من صراع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
الإحساس "بانتقال السلطة" الذي يجسّده صعود الصين، يتزامن مع حدث آخر بين الدولتين. فحتى مع ازدياد الاحتكاكات الاستراتيجية، أصبحت العلاقات الأميركية الصينية متورّطة في شبكة من التبادلات الاقتصادية. ويعتمد كلا البلدين بشكل متزايد على التجارة. وفي حين كانت تبلغ التجارة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي 9 في المائة فقط في عام 1960 لكليهما؛ إلا أنه بحلول عام 2015، كانت النسبة 28 بالمائة للولايات المتحدة و 40 بالمائة للصين. وبالنسبة لكليهما، فإن الطرف الآخر شريك تجاري رئيسي. وهذا ما تؤكّده بيانات صندوق النقد الدولي، حيث شكّلت التجارة الأميركية مع الصين في عام 2016 ما نسبته 15.9٪ من إجمالي التجارة؛ وبالمثل، كانت تجارة الصين مع الولايات المتحدة 14٪ من إجمالي تجارتها.

المصالح الاقتصادية المشتركة تُدخل الولايات المتحدة في وضع حرج لعجزها عن احتواء الصين اقتصادياً، وتُظهر بيانات الممثّل التجاري الأميركي (USTR) أن صادرات الخدمات الأميركية إلى الصين بلغت 53.5 مليار دولار أميركي في عام 2016، بارتفاع قدره 353 بالمائة عن عام 2001. وبالمثل، ارتفعت واردات الخدمات الأميركية من الصين بنسبة 350 بالمائة في نفس السنوات، لتصل إلى 16 مليار دولار في العام الماضي. والأهم من ذلك هو الأرقام المتعلّقة بالاستثمار الأجنبي المباشر حيث أفاد مكتب الممثّل التجاري الأميركي أن الاستثمار الأجنبي المباشر الأميركي في الصين بلغ 74.6 مليار دولار أميركي في عام 2015، أي بزيادة قدرها 10.5 بالمائة عن عام 2014، عندما كانت التوتّرات في بحر الصين الجنوبي والشرقي في ذروتها. في حين ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في الولايات المتحدة خلال نفس الإطار الزمني، ليصل إلى 14.8 مليار دولار أميركي - وهو نمو يصل إلى 50.6 بالمائة.

 

سياسة استراتيجية تنافُسيّة


  تخطط الصين اليوم لإعادة صوغ الديناميكية العسكرية والسياسية في منطقة المحيط الهادئ لكي تعكس مكانتها التقليدية. وهي تريد العودة إلى موقع القيادة وأن تحرّر أمن تجارتها البحرية، وخاصة في المنطقة التي تُسمّيها "البحار القريبة" أي المياه الساحلية التي تشمل البحار الصفراء وشرق الصين وجنوب الصين. وتعتبر قاعدة يالونغ البحرية في هاينان جزءاً من الاستراتيجية التي بدأت الصين في وضعها للسيطرة على البحار القريبة، ما دفع البحرية الأميركية للانطلاق إلى غرب المحيط الهادىء. فما تقوم به الصين يشكّل تحدّياً عميقاً لقيادة الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها العمود الفقري للمعجزة الاقتصادية الآسيوية.

على مدى السنوات ال 20 الماضية استثمرت الصين في سلاحها البحري بطريقة محدّدة جداً. ويتحدّث خبراء استراتيجيون أميركيون في بعض الأحيان عن سلسلة من السفن الحربية والغوّاصات الصامتة والصواريخ الدقيقة التي صُمِّمت خصيصاً لرد أي اعتداء بحري عن البر الرئيسي.  الخطة الاستثمارية الصينية هدفها منع القوات البحرية الأميركية من العمل في مناطق واسعة من غرب المحيط الهادئ. وقد تحدّث دينيس بلير، قائد منطقة المحيط الهادئ السابق الذي كان رئيساً لأجهزة المخابرات الأميركية في وقت مبكر من إدارة أوباما عن خطة الصين قائلاً "إن الصين تقضي 90٪ من وقتها على التفكير في طُرق جديدة ومثيرة للاهتمام لإغراق سفننا وإسقاط طائراتنا".

 تُعدّ الخطط البحرية الصينية الجديدة تعبيراً عن انتقال السلطة على زعامة العالم، ومن خلال إضعاف الوجود البحري الأميركي في غرب المحيط الهادىء، تأمل الصين تدريجاً في تقويض تحالفات أميركا مع الدول الآسيوية الأخرى، وخاصة كوريا الجنوبية والفلبين وربما اليابان. وإذا ما تراجع نفوذ الولايات المتحدة، فستكون الصين في وضع يمكنها من تولّي مكانة قيادية بهدوء في آسيا، ما يعطيها قدراً أكبر من التأثير على القواعد والممارسات في الاقتصاد العالمي. وتأمل الصين، من خلال قواتها البحرية، في إعادة تشكيل ميزان القوى في آسيا. كما أن المنافسة البحرية في غرب المحيط الهادئ ستحدّد جزءاً كبيراً من السياسة العالمية في العقود المقبلة.

  عانت الصين عبر التاريخ من ضعفها البحري وخاصةً في القرن التاسع عشر عندما استخدمت بريطانيا وفرنسا والقوى الاستعمارية الأخرى تفوّقها البحري للسيطرة على شانغهاي وعشرات الموانئ الأخرى في جميع أنحاء البلاد. لذللك فإن الغريزة الصينية التي تطوّرت اليوم للسيطرة على البحار المحيطة تمتد جذورها جزئياً في رغبة واسعة النطاق لكي لا تعود الصين ضعيفة مرة أخرى. وهذا ما لخّصه المؤرّخ الصيني يانغ يونغ بكلمات قليلة قائلاً "تجاهلنا للمحيطات كان خطأً تاريخياً ندفع ثمنه حتى يومنا هذا.

  الخطط الصينية دفعت البنتاغون لإطلاق "مفهوم" جديد لمكافحة الحروب، لمعارك البحر-جو يشبه إلى حد بعيد العقيدة العسكرية في المراحل المتأخّرة من الحرب الباردة التي سُميت ب مفهوم معركة البر-جو، عندما أعطى التكدّس الهائل للقوات السوفياتية الاتحاد السوفياتي القدرة على تجاوز أوروبا الغربية. لكن عدّة تفاصيل حول المفهوم الجديد المتعلّق بالصين لا تزال غامضة. والدلائل القليلة التي نُشرت علناً عنه تقترح نهجاً يمكن أن يكون بياناً لحرب باردة جديدة.

 

السلوك المُتهوِّر قد يدفع إلى الحرب

يُشير المؤرّخان البحريان الأميركيان توشي يوشيهارا وجيمس هولمز إلى أن الولايات المتحدة تركّز جزئياً على ما تُسمّيه "الحرب المحدودة بالحدود" وهي عمليات  صغيرة الحجم تمنع التصعيد الدرامي ولكنها تجعل الحياة صعبة بالنسبة للبحرية الصينية. وهي تشبه حملة ويلينغتون في إسبانيا والبرتغال بين عامي 1807-14، والتي كانت من الناحية العسكرية عرضاً للصراع الأوسع مع فرنسا. ويضيفان أن جغرافيا الصراع مع الصين توفّر العديد من المواقع الاستراتيجية التي يمكن استخدامها لبناء مرافق صغيرة النطاق مع بطاريّات صواريخ يمكنها أن تسبّب دماراً للبحرية المتنافسة.

   وبالنسبة للمراقبين الأكثر تشاؤماً، فإن الولايات المتحدة والصين محكوم عليهما بتكرار المنافسة الأمنية الشديدة للحرب الباردة. حيث يقول جون ميرشيمر، وهو باحث في جامعة شيكاغو، أن التنافُس قد يكون أكثر تقلّباً من الاتحاد السوفياتي بسبب وجود المزيد من النزاعات المحتملة. كما يضيف أنه لن يتفاجأ اذا بدأت الصين واليابان "إطلاق النار على بعضهما البعض" في مرحلة ما على مدى السنوات الخمس القادمة.
 هذه النتائج القاتمة ليست حتمية، وبطبيعة الحال فإن الروابط الاقتصادية القوية التي ذكرناها آنفاً تساهم في تضييق مساحة السلوك المتهوّر. ومع ذلك يجب التذكير بأن العولمة بنسختها القديمة فشلت في منع المملكة المتحدة وألمانيا من الذهاب إلى الحرب. وبالرغم من افتقار الجيوش الآسيوية اليوم إلى خطط الحرب الدقيقة التي ساعدت على دفع أوروبا إلى الحربين العالميّتين إلا أن المنطقة تضم مزيجاً مألوفاً من القومية وإمكانيات الحسابات الخاطئة التي يمكن أن تدور خارج نطاق السيطرة. فمنطقة غرب المحيط الهادئ التي تُعتبر الآن قمرة القيادة للاقتصاد العالمي قد تتحوّل أيضاً إلى واحدة من أخطر نقاط التوتّر في العالم.