عدم الإنحياز خيار "المعذبين في الأرض"

ظروف إنطلاقة "حركة عدم الإنحياز"، والأسس الفكرية لخيار ثالث في أجواء الحرب الباردة، والأبعاد السياسية والإقتصادية لانطلاقتها.

عبدالناصر ونهرو وتيتو

إنتهت الحرب العالمية الثانية بنتيجة عسكرية وسياسية تمثلت بهزيمة دول المحور، وانتصار الحلفاء، وبنتيجة إقتصادية أنهكت بموجبها كافة الأطراف المتحاربة باستثناء الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب كقوة إقتصادية كبرى. ولم تكد تضع حرب النار والحديد أوزارها، حتى بدأت حرب باردة بين الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي، لترخي بثقلها على كل من عاش في النصف الثاني من القرن العشرين.

حرب الخوف بين العملاقين، إعتمدت فيها سياسات تحالف سعت لاجتذات أكبر عدد من الدول إلى أحد النموذجين، دونما اكتراث من هاتين القوتين إلى مصالح شعوب العالم الثالث التي عم في دولها المستعمرة وعي عارم تجاه قضايا التحرر ورفض الإستعمار.

وشكل مؤتمر باندونغ عام 1955 نقطة بداية لتأطير الجهود التي كانت تبذل للخروج من الهيمنة كنتيجة للوعي تجاه قضايا التحرر الوطني إقتصادياً وسياسياً، وبعده بست سنوات عقد أول مؤتمر في بلغراد لـ"حركة عدم الإنحياز" لأي من العملاقين، مدفوعةً بحراكٍ فكري قاده مفكرون كبار ناصروا تطلعات شعوبهم، وشعوب العالم الثالث بشكل عام في معركتها التحررية.

حراك فكري لإيقافهم عن لعب "دور الحسناء النائمة في الغابة"

لقد ساهمت الأفكار المناهضة للإستعمار، وحركات التحرر الوطني في تعميم الشعور الرافض لوجود المستعمر في دول العالم الثالث. ونشأت حركة عدم الإنحياز إبّان نضال شعوب إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وغيرها من المناطق في العالم من أجل الإستقلال، ولعبت الحركة دوراً في تصفية الإستعمار.

وأوجد المفكر الأفريقي الأصل فرنسي الجنسية فرانز فانون نموذجاً للشعوب المقهورة حين شارك الجزائريين في مقاومة الإستعمار الفرنسي لبلادهم، منضماً إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية (F.L.N) في العام نفسه الذي عقد فيه مؤتمر باندونغ، على الرغم من كونه مواطناً فرنسياً. لقد ألهمت كتابات فانون ومواقفه كثيراً من حركات التحرر في أرجاء العالم، ولعقودٍ عديدة. وهو الذي آمن بأن مقاومة الإستعمار تتم باستعمال العنف فقط من جهة المقموع. كتابات فانون عبرت عن غضب هائل عند شعوب العالم الثالث ضد القوى المهيمنة في العالم.

لقد رأى فانون أن "الثقافة الحقيقية هي الثورة" وأنه "لابد أن تقرر الذات الغربية أولاً أن تستيقظ من سباتها، وأن تنفض أدمغتها، وأن تكف عن تمثيل ذلك الدور غير الإنساني الذي تستعذب تمثيله من دون أدنى شعور بالمسؤولية، وهو دور الحسناء النائمة في الغابة". داعياً الشعوب إلى عدم الإستنجاد بالبلاد الرأسمالية، لأنها قويةٌ بحقها وبعدالة مواقفها، وعليها أن تشرح للبلاد الرأسمالية وجوب الكف عن تصوير شعوب العالم الثالث في صورة موجة تهدد بابتلاع أوروبا كلها.

توازياً، كانت رؤية الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر غير بعيدة عن ثورية فانون، فدعم تحرر الجزائر بصوتٍ عالٍ، واقفاً أمام حركة بلاده الإستعمارية، حيث كان قوله المشهور "السلام هو الحرية". لقد رأى سارتر أن العالم الثالث بدأ حينها "باكتشاف نفسه"، من خلال الأفكار التحررية التي سادت تلك الحقبة. وساند سارتر بكتاباته نضال الثائرين على الإستعمار الغربي أمثال فانون وباتريس لومومبا.

وكان نضال لومومبا مركزاً على تحرير بلاده الكونغو من الإستعمار البلجيكي، مصراً على أن تفرض "الحركة الوطنية الكونغولية" التي أسسها نفسها بـ"اللاعنف"، رغم أنه كان صديقاً لفانون.

بقي رد لومومبا بوجه الملك البلجيكي بودوان في السادس من ديسمبر-كانون الأول عام 1959 خالداً في ضمائر أبناء شعبه حين قال: "إن جراحنا ما تزال أطرى وآلم من أن تطرد من ذاكرتنا صورة الوضع الذي عشناه طوال ثمانين عاماً من الحكم الإستعماري".

وفي إيران التي تستقبل في 30 أغسطس-آب 2012 القمة الـ16 لحركة عدم الإنحياز، عمل المفكر وعالم الإجتماع و(صديق سارتر) علي شريعتي في الإتجاه الثوري نفسه، حيث شكلت أفكاره أساساً لثورة شعبية حررت بلاده من الهيمنة الغربية.

غلاف كتاب "معذبو الأرض" لفرانز فانون

إنطلاقة الحركة في ظل الحرب الباردة

من مؤتمر باندونغ 1955

العالم المقسوم بين العملاقين النوويين الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي، لم يكن ملتفتاً إلى "المعذبين في الأرض" (عنوان الكتاب الأخير لفانون). لقد سعت أميركا إلى تطويق الإتحاد السوفياتي بسلسلة من القواعد العسكرية والتحالفات من خلال سياسة الإحتواء. وفي المقابل سعى الإتحاد السوفييتي إلى المواجهة عبر عقد المعاهدات الثنائية والجماعية، وتطوير قدراته النووية.

وسط هذه البيئة العالمية المشحونة بالمخاوف من حرب نووية شاملة، ظهرت حركة عدم الإنحياز كإحدى أهم الظواهر السياسية في عالم ما بعد الحرب. الفكرة خرجت من مزيج رؤى الرئيس المصري جمال عبدالناصر والهندي جواهرلال نهرو ورئيس الوزراء اليوغوسلافي جوزف بروز تيتو، وقد عقد المؤتمر الأول للحركة في بلغراد عام 1961، حيث شاركت 25 دولة من أصل 29 هي مجموع الدول التي حضرت مؤتمر باندونغ 1955 أول تجمع منظم لدول الحركة.

وشكلت المبادئ العشرة لمؤتمر باندونغ "جوهر الحركة" منذ انطلاقتها. هذه المبادئ هي:

1- إحترام حقوق الإنسان الأساسية، وأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.

2- إحترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها.

3- إقرار مبدأ المساواة بين جميع الأجناس، والمساواة بين جميع الدول، كبيرها وصغيرها.

4- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التعرض لها.

5- إحترام حق كل دولة في الدفاع عن نفسها، بطريقة فردية أو جماعية، وفقًا لميثاق الأمم المتحدة.

6- أ- عدم إستخدام أحلاف الدفاع الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأيّ من الدول الكبرى. ب- عدم قيام أي دولة بممارسة ضغوط على دول أخرى.

7- الإمتناع عن القيام، أو التهديد بالقيام، بأي عدوان، والإمتناع عن إستخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الإستقلال السياسي لأي دولة.

8- الحل السلمي لجميع الصراعات الدولية، وفقًا لميثاق الأمم المتحدة.

9- تعزيز المصالح المشتركة والتعاون المتبادل.

10- إحترام العدالة والإلتزامات الدولية.

لقد تمثلت الأهداف الرئيسية لدول حركة عدم الانحياز، بتأييد حق تقرير المصير، والإستقلال الوطني، والسيادة، والسلامة الإقليمية للدول، ومعارضة الفصل العنصري، وعدم الإنتماء للأحلاف العسكرية المتعددة الأطراف، والإبتعاد عن التكتلات والصراعات بين الدول الكبرى، والكفاح ضد الإستعمار بكافة أشكاله وصوره، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتعايش بين جميع الدول، ورفض استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية، وتدعيم الأمم المتحدة، وإضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية، والتنمية الإقتصادية والإجتماعية، وإعادة هيكلة النظام الإقتصادي العالمي، فضلاً عن التعاون الدولي على قدم المساواة.

الأسس السياسية والإقتصادية للحركة

منذ انطلاقتها تميزت حركة عدم الإنحياز بعدم جمود الإطار التنظيمي والهيكلية الإدارية، وبعدم وضع دستور أو مبادئ أو سكرتارية دائمة للحركة، كونها تشمل مروحة كبيرة من الدول جعلتها في وقت لاحق ثاني أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة، وذلك لتجنب الآثار السلبية للفوارق الأيديولوجية والسياسية والمصلحية. وتقرر أن تكون الإدارة دورية وشاملة تضم جميع الدول الأعضاء حيث تنتقل رئاسة الحركة إلى الدولة المضيفة للقمة، التي تستمر في رئاستها إلى أن يعقد مؤتمر القمة التالي، تسلم بعدها الرئاسة إلى الدولة المضيفة الجديدة. ويتحتم على الدولة المضيفة إنشاء قسم كامل في وزارة الخارجية لمعالجة القضايا الخاصة بالحركة، بينما يقوم سفير الدولة التي تتولى الرئاسة في الأمم المتحدة بعمله كسفير لشؤون دول عدم الإنحياز لدى المنظمة الدولية.

وقامت حركة عدم الإنحياز على دعامتين إحداهما سياسية تسعى لخلق تناغم بين دول العالم الثالث في مسائل السياسة الخارجية، والأخرى إقتصادية تسعى إلى الخروج من هيمنة القوى العظمى واعتماد إقتصادات وطنية قادرة على الصمود في عالم الكبار، وخلق تصنيف جديد أكثر عدالة في قسمة خيرات العالم، بين دول "شمال وجنوب" بعد أن كانت بين "شرق وغرب".

لقد بدأ الغرب بتفصيل "إقتصاد-عالم" (أوصل لاحقاً إلى العولمة الإقتصادية) على قياسه منذ عام 1944 عندما نشأ النظام النقدي العالمي في بريتن وودز، ثم إتفاقات التعرفة الجمركية والتجارة GATT عام 1947.. وجاءت مطالب العالم الثالث لتضيف نفسها إلى الإضطراب العالمي الذي كان قائماً بين المعسكرين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة.

وحاولت الأمم المتحدة عبر إجتماع عقدته هيئة المنظمة عام 1964 (CNUSED) معالجة الفروقات بين شعوب الشمال والجنوب، ولم تفلح تلك المحاولات بعد أن أصرت دول الشمال على عدم الإعتراف بعدم التوازن الذي شاب علاقات دول الشمال بالجنوب في تلك المرحلة.

وحاز البعد الإقتصادي نصيباً أكبر من الحضور مع مرور الوقت في نشاط حركة عدم الإنحياز التي إقتصرت نجاحاتها السياسية على مساندة حركات التحرر، والضغط من خلال السياسة الخارجية باتجاه تحقيق مكاسب إقتصادية.

يقول المفكر الإقتصادي العربي سمير أمين في كتابه "الإقتصاد السياسي للتنمية في القرنين العشري والواحد والعشرين" إن "مرحلة باندونغ" (1955-1975) حازت نجاحاً لا نظير له، حيث وضعت دول العالم الثالث موضع التنفيذ سياسات تنموية متمحورة على الذات بهدف تقليص الإستقطاب العالمي (اللحاق). وكان هذا يستوجب في الوقت نفسه أنظمة من التضبيط الوطني والتفاوض الجماعي (شمال-جنوب)، وأنظمة من التضبيط الدولي.. والإنتقال إلى نشاطات حديثة ذات إنتاجية أعلى. ويضيف بأن هذا النجاح أنتج عالماً ثالثاً حديثاً إستطاع أن يدخل أبواب الثورة الصناعية.

لربما كان هذا النجاح الأبرز للدينامية التي أطلقها تجمع دول حركة عدم الإنحياز في عصر الإنقسام العالمي بين كتلتين كبيرتين، حيث حولت إهتمامات الكثير من الدول نحو مصالحها بدل الإصطفاف ضمن أحد التحالفين. ذلك أن الدينامية التي أطلقها مشروع باندونغ عرفت بـ"أيديولوجيا التنمية".

وإبّان عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لعبت الحركة دورًا أساسيًا في الكفاح من أجل إنشاء نظام إقتصادي عالمي جديد، يسمح لجميع شعوب العالم بالإستفادة من ثرواتها ومواردها الطبيعية، والسعي لإحداث تغيير أساسي في العلاقات الإقتصادية الدولية، والتحرر الإقتصادي لدول الجنوب.

لم تترك القوى الغربية تحديداً، لهذه الدينامية المستقلة عن توجهاتها حرية الحركة، بل حاولت مراراً تقييدها والإلتفاف عليها عبر خلق مبادرات حوار، وإغراء الدول باتفاقات جانبية، ولم تقتصر هذه المحاولات على الولايات المتحدة الأميركية بصفتها من يمارس قيادة المعسكر الغربي، بل إن دول الغرب الأوروبية حاولت أيضاً إيجاد أطر للحوار مع دول المتوسط بعيداً عن حركة عدم الإنحياز.

وبعد نهاية الحرب الباردة بسقوط الإتحاد السوفياتي، طرحت أسئلة كثير حول جدوى استمرار حركة عدم الإنحياز بمسماها المستمر، فهي بعد انفراط عقد إحدى القوتين، ضد الإنحياز لمن وضد من؟

على الرغم من ذلك فإن فرصاً لانطلاقة جديدة للحركة تبدو ممكنة، خاصةً بعد عودة الحديث بقوة عن إنعدام عدالة النظام الإقتصادي الدولي، وظهور مؤشرات لمزيد من الشجاعة عند الدول الأقل نمواً في مواجهة القوة العظمى، وفي ظل تشكلات بدأت تلوح لنظام عالمي متعدد الأقطاب.

في هذا السياق، فإن قمة طهران للحركة أمام مفترق طرق ذي أهمية عالية، يضاف إلى أهمية الملفات السياسية التي ستطرح هناك.

مراجع:

- فرانز فانون، معذبو الأرض، باريس، منشورات ماسبرو، 1961.

- جان بول سارتر، الإستعمار الجديد، ترجمة عايدة وسهيل إدريس، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 1964.

- سمير أمين، الإقتصاد السياسي في القرنين العشرين والواحد والعشرين، ترجمة فهمية شرف الدين، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2002.

- غسان العزي، سياسة القوة، مستقبل النظام الدولي والقوى العظمى، مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت، الطبعة الأولى، 2000.

- علي صبح، الصراع الدولي في نصف قرن، دار المنهل اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى 1998.

شو ان لاي وزير الخارجية الصيني في مؤتمر باندونغ