مجموعة "بريكس": الطموح بدل الأيديولوجيا
لم تعد طموحات الدول الساعية إلى التفلت من الهيمنة الأميركية بعيدة المنال، حقيقة تبرهنها دول مجموعة "بريكس" يوماً بعد يوم. المجموعة يقودها فلاديمير بوتين أفقياً، بوجه لاعب "بوكر" لا يفصح عما هو غير مجدٍ.
أعاد إجتماع قادة دول "مجموعة العشرين" في "لوس كابوس" في المكسيك إطلاق الجدل الذي بدأ إبان الأزمة المالية العالمية التي وصلت إلى ذروتها عام 2008 حول دور الدول الناشئة في فعاليات النظام الإقتصادي الدولي. ذلك أن هذا الإجتماع الذي عقد في حزيران الماضي، يأتي في ظروف سياسية متوترة بين القوى الدولية حول العديد من الملفات المفتوحة، ما أنشأ بيئة ضاغطة على هذه القوى التي تتمسك كل واحدة منها بمطالبها السياسية في الملفات المشتعلة.
وفي ظل الأزمات المتزامنة والمركبة التي يشهدها العالم منذ بداية القرن الواحد والعشرين والتي طالت مختلف الميادين في آن واحد، من الإقتصاد والمال إلى الغذاء والبيئة ومصادر الطاقة، حافظت مجموعة من الدول على تماسكها الإقتصادي، بل تمكنت من تحقيق معدلات نموٍ مرتفعة خلال سنواتٍ قليلة، في حين عانت القوى الإقتصادية التقليدية الكبرى الأمرّين لتحافظ على هيكل النظام الإقتصادي الدولي الذي يحقق مصالحها.
وتأتي في مقدمة الدول الناشئة مجموعة الدول التي باتت تعرف بإسم "بريكس"، والتي تضم كلاً من البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا، وهي الدول التي تمتلك مقدرات هائلة ليس أقلها الكتلة السكانية التي تشكل حوالي 41% من مجموع سكان العالم، وتشغل 25% من مساحة اليابسة، وحجم القوة الإقتصادية الذي يتجاوز 27% من الناتج الإجمالي العالمي، إضافةً إلى قدرات عسكرية متفوقة تتوزع على قدرات تقليدية وأخرى غير تقليدية. فقد أظهر تقرير أصدره صندوق النقد الدولي في نيسان 2011 توقعات بتحقيق الصين نمواً بنسبة 9.5% في العام الحالي، بينما توقع نمواً بنسبة 7.8% للهند، ولروسيا 4.8 %، إضافة إلى 3.8% لجنوب إفريقيا.
وتشكل هذه المجموعة منذ إنشائها عام 2009 إطاراً تجاوز المحاولات الغربية التي سعت لخلق أطر تستوعب إقتصاديات الدول الناشئة، كمجموعة العشرين (G20) التي تم خلقها عام 1999 لإعطاء النظام الإقتصادي الدولي دفعاً جديداً بعد الأزمة المالية التي شهدها عقد التسعينات من القرن الماضي.
النمو الإقتصادي السريع ورقة "بريكس" الرابحة
ويعطي النظام الإقتصادي الذي نتج عن إنتصار المعسكر الغربي في نهاية الحرب الباردة الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين إمتيازات كبيرة في المؤسسات الإقتصادية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين، ويتم التعبير عن هذه الإمتيازات بطريقة التصويت في هذه المؤسسات، بالإضافةً إلى قدرة التأثير على إستجابة هاتين المؤسستين لطلبات القروض من بقية الدول، الأمر الذي جعل من هذه المؤسسات عرضةً لانتقادات القوى الناشئة التي تطالب بالتوازن بين فرص القوى المشاركة في عملية تمويل هذه المؤسسات، التي تعتمد على مساعداتها معظم الدول التي سارت في ركب إقتصاد السوق أملاً بتحقيق معدلات نمو مرضية.
وتستند القوى الناشئة في مطالباتها على حجم أسواقها وفرص النمو التي تشير إليها كل التوقعات التي تحاول استقراء التطورات العالمية في السنوات القادمة، كما تعتمد على حجم مشاركتها في دعم وتمويل المؤسسات الراعية للإقتصاد الدولي. وبالتالي فإن هذه القوى تعمل من داخل النظام الإقتصادي الدولي وليس من خارجه، محاولةً التأثير في مضامينه بما يحقق مصالحها، دون إظهار نوايا بإسقاطه جذرياً (وهي لا تستطيع ذلك) أو إنشاء نظام بديل له. وقد أدت الأزمة المالية العالمية إلى إظهار مكانة الدول الناشئة في البنية الدولية، لتشكل أربع دول منها عام 2009 مجموعة "بريك"، التي تحولت لتصبح "بريكس" بعد إنضمام جنوب أفريقيا إليها.
لقد تمكنت دول البريكس -كل دولة بشكلٍ منفرد- في العقدين الأخيرين من تحويل كتلها السكانية من عبء ينتج مشكلات كبيرة كتوفير الغذاء والعمل والإستقرار.. إلى قوة منتجة أضحت خلال وقت قصير مصدر قوة لها، كما راعت -بصورةٍ نسبية- مقتضيات التنمية المستدامة لتعطي أجيالها القادمة فرصة الإستفادة من مقدرات اليوم.
وبعد أن كانت توقعات القرن الواحد والعشرين تشير إلى ارتفاع حظوظ الإتحاد الأوروبي في تحقيق معدلات النمو الأكثر إيجابية، باتت هذه التوقعات تشير اليوم إلى الصين والهند وباقي دول البريكس، في وقتٍ تعاني فيه منطقة اليورو من مخاطر جدية تهدد بتقليص حجمها إذا لم يتم اعتماد سياسات قاسية معاكسة لما تنتظره شعوب الإتحاد، وآخر تمظهرات الأزمة الأوروبية كان إعلان مؤسسات التصنيف الإئتماني عدم استبعادها لفكرة خفض التصنيف الأوروبي إلى درجةٍ أدنى من مستوى (AAA).
وفي الوقت الذي يعاني فيه القادة الأوروبيون من موجة غضب شعبي على سياساتهم، تصر شعوب "بريكس" على الولاء لنهج قادتها الذين تمكنوا من إعادة دولهم إلى موقعٍ مؤثر في المستوى الدولي، وتشكل تجربتا فلاديمير بوتين في روسيا ولولا دا سيلفا في البرازيل خير مثال على ذلك، حين أصر المواطنون في البلدين على تثبيت نهجيهما في الحكم.
إن لهذه الوقائع دلالات تشير بوضوح إلى نجاح السياسات التي إعتمدها الرجلان خاصة في الميدان الإقتصادي. فقد إستطاع بوتين رسم سياسة إقتصادية فعالة في بلاده، تحاول الحفاظ على معدلات النمو وتسعى إلى التقليص التدريجي للإعتماد المفرط على صادرات قطاع الغاز، ومن جانبه تمكن دا سيلفا من تعزيز صادرات بلاده من الغذاء والمواد الأولية، وقد حققت هذه السياسات نتائج جيدة.
ليس كل ما تريده أميركا "يمشي"
عند تأسيسها، أشارت مجموعة "بريكس" إلى ضرورة الوصول إلى عالمٍ متعدد القطبية، غير أن ذلك لا يرتبط فقط بالإستراتيجية الروسية التي تسعى إلى تحقيق الهدف نفسه منذ اعتمدت نهج "استعادة الهيبة المفقودة" بعد وصول فلاديمير بوتين إلى الرئاسة للمرة الأولى، بل يتخطى ذلك ليحاكي طموحات كافة دول المجموعة بالإفلات من النسق الآحادي الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية على النظام الدولي بعد انهيار الإتحاد السوفياتي.
إن المراقب لمسار مجموعة "بريكس" في البيئة الدولية يلحظ بشكلٍ تلقائي حالةً من الإنكفاء النسبي في القضايا السياسية في بادئ الأمر، وتركيزاً موجهاً نحو القضايا الإقتصادية التي تعني دول المجموعة. ويتماشى هذا النهج مع أسلوب السياسة الخارجية الصينية بشكلٍ رئيس، كما مع النزعة الروسية والبرازيلية الأكثر وضوحاً في رفض السياسات الرأسمالية الأميركية كلما سنحت الفرصة لذلك. وعليه فإن تحقيق الإنسجام بين مكونات هذه المجموعة، بقي يتعزز كلما ابتعدت الموضوعات المطروحة عن المواجهات السياسية المباشرة مع الغرب.
ويمكن للمراقب أيضاً أن يلحظ أن الأزمة السورية -واصطفافاتها الحادة إقليمياً ودولياً- أدت إلى تقريب المواقف بين دول "بريكس" حتى بات يمكن تخيل المجموعة ككائن ممتلئ القوة بخمسة قوائم ورأسين (روسيا والصين).
من هذا المنطلق، لا ريب في منسوب تعاون يتصاعد بشكلٍ مطّردٍ بين هذه الدول في الشؤون السياسية والعسكرية، كما هي الحال بين الهند والبرازيل اللتين قطعتا أشواطاً مهمة في مجال التعاون العسكري، أو كمثال العلاقة بين روسيا والصين فيما يخص التعاون في مسائل الأمن والطاقة وغيرها.
هذا الإنسجام الكبير بين القوى الناشئة تمت ترجمته حين أصدرت دول المجموعة في قمة عام 2010 في الصين، مخططاً تفصيلياً للتعاون فيما بينها، يشمل عشرة مجالات منها الإقتصاد والمال والتجارة والصناعة والصحة والثقافة..، وفي قمة نيودلهي التي عقدت في آذار المنصرم حين قررت المجموعة إنشاء "بنك تنمية" لتمويل مشروعات التنمية في دول المجموعة، وهي خطوة تحمل دلالاتٍ فائقة الأهمية، رأى فيها كثير من المحللين محاولة تشكيل رديف للبنك الدولي.
ولكن دول "بريكس" لم تتوقف في الوقت نفسه عن تمويل المؤسسات الإقتصادية الدولية، بل أظهرت إشارات تبعث على الثقة للمجتمع الدولي.
إن تركيز هذه الدول في المجال الدولي على تفعيل أطر التعاون بين بعضها البعض يتوقع منه أن يؤدي إلى نتائج إستراتيجية هامة، قد تتم ترجمتها عبر إجبار القوى التقليدية على رفع درجة إحترامها لمندرجات القانون الدولي، مثلما تطالب دول "بريكس" بشكلٍ علني، وهو أيضاً ما ظهر جلياً في طريقة تعاطي دول المجموعة مع الأزمة السورية، حيث حذرت مراراً وتكراراً من المقاربة السلبية لأي حلٍ للأزمة، ويمكن تعميم هذا الموقف على كل دول المجموعة باستثناء روسيا التي تظهر حذراً أقل في التعاطي مع هذه المسألة، وهذا ما يمكن فهمه بالنظر إلى العلاقة التاريخية التي تجمعها بسورية، وأيضاً من خلال تأثير هذه الأزمة وطريقة التعامل الغربي معها على الأمن القومي الروسي بشكلٍ حتمي.
لقد بدأت تجربة مجموعة "بريكس" بإعطاء نموذج مشجع للدول النامية التي تسعى إلى مزيد من النمو والتطور، خاصة أن هذه الدول لا تنهض على أيديولوجيا موحدة كما كان حال الإتحاد السوفياتي السابق، بل إنها تجتمع على طموحٍ موحد بمزيدٍ من المشاركة في مضامين النظام الدولي المتشكل. بعد أن أظهرت الأزمة السورية خللاً أساسياً في فعالية مجلس الأمن الدولي حين غياب التوافق الدولي حول مسألة ما، أو حين غياب التوفق الحاسم لقوة معينة دولياً. وهذا بالتحديد ما يبدو جديداً، بما أمكن القول بأن التفوق الأميركي "الحاسم" الذي لا نقاش فيه، قد انتهى فعلاً، قبل الوصول إلى صيغةٍ جديدة نهائية لما سيكون عليه النظام الدولي الجديد.
كل ذلك يطرح تساؤلات جدية حول المستقبل السياسي لمجموعة "بريكس"، بين الحكمة الصينية القائلة بـ"إخفاء المخالب" وعدم إصدار ضجيج أثناء تسلق القمة، من جهة، والنزعة الروسية إلى دفن الأحادية القطبية سريعاً، من جهة أخرى.