البديل من الحرب.. إمّا التزام سياسات أميركا أو الانهيار (2-2)
تكشف المعطيات وجود توجُّه إلى إسقاط لبنان، اقتصادياً ومالياً، من أجل تحقيق جملة أهداف تعجز "إسرائيل" عن تحقيقها بواسطة الحرب.
يُعَدّ جيفري فيلتمان، الذي كان سفيراً في بيروت، خبيراً وضليعاً في الشؤون اللبنانية. في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2019 قدّم رؤيته الخاصة بلبنان في جلسة داخل الكونغرس الأميركي، بعنوان "ما هو التالي للبنان؟ دراسة الآثار المترتّبة على الاحتجاجات القائمة". لم تكن تلك الشهادة الأولى التي يُدلي بها فيلتمان. لكنّ رؤيته تلك تُفسّر، إلى جانب تصريحات علنية أخرى لمسؤولين أميركيين وإسرائيليين، أن سلسلة الأحداث التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية الحالية، ما هي إلا أدوات بديلة عن حرب عسكرية عجزت "إسرائيل" عن شنّها منذ عام 2006، التاريخ الذي أرسى توازناً للردع مع العدو الإسرائيلي، وما زال قائماً حتى اليوم عند طرفي الحدود.
كان جيفري فيلتمان مساعداً لوزيرة الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، حين حضر بداية إلى الكونغرس الأميركي في الثامن من حزيران/يونيو عام 2010، وقدّم رؤيته في "تقويم قوة حزب الله". أقرّ حينها بأن الإدارة الأميركية قدّمت إلى اللبنانيين "منذ عام 2006، أكثر من 500 مليون دولار أميركي، عبر الوكالة الأميركية للتنمية ومبادرة الشراكة الشرق أوسطية". أمّا الهدف الأساسي فهو، بحسب تعبيره، "الحدّ من جاذبية حزب الله لدى الشباب اللبناني".
بعد ذلك بتسعة أعوام، عاد فيلتمان إلى الكونغرس وقدّم رؤيته المحدّثة. ملخّص ما قاله فيلتمان أن أمام اللبنانيين خيارين: إمّا التزام سياسات واشنطن، وإمّا الانهيار. هذه المرة، كانت الظروف مغايرة، وجاءت شهادته على وقع التظاهرات والاحتجاجات وبداية الانهيار الاقتصادي. ما كان يحدث في لبنان وصفه السفير الأميركي السابق بقوله إنه "مرتبط بالمصالح الأميركية". لكنّ هذا التهديد الأميركي الصريح لم يكن الأول من نوعه، بحيث سبقه، بنحو ثمانية أشهر، تهديدٌ آخر بحق اللبنانيين. في 22 آذار/مارس من عام 2019، كان وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو في بيروت، عندما وضع اللبنانيين بين خيارين: إمّا مواجهة حزب الله، وإمّا دفع الثمن.
على هذا النحو، شكّل حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019، وما سبقه وأعقبه من تبعات وأحداث خطيرة، فرصةً في نظر الأميركيين والإسرائيليين وحِلفهم، بهدف الاستثمار وممارسة الضغط على حزب الله وإضعافه. فرصة تدلّ مؤشرات وشواهد عدة على أنه تم التمهيد لها وخلق ظروفها، ليس على الساحة اللبنانية فحسب، باعتبارها من أخطر الساحات على "إسرائيل"، بل بما يشمل أيضاً ساحتَي سوريا والعراق، وصولاً إلى إيران. لهذا السبب يمكن ملاحظة أنماط متشابهة من الضغوط الاقتصادية والدعاية الإعلامية الموجّهة في هذه الساحات.
رئيس وزراء العدو السابق، بنيامين نتنياهو، كشف عن الرؤية الإسرائيلية لما شهده لبنان من تظاهرات شعبية وقتها، ووصف التظاهرات بأنها "هزة أرضية" ستؤدي إلى إعادة إنتاج بيئة إقليمية مغايرة لما كانت عليه. ووضع ما تشهده الساحتان اللبنانية والعراقية في سياق الفرص الإسرائيلية.
الحرب المتعذّرة
توالت الشواهد والأدلة على محدودية القدرة العسكرية الإسرائيلية، وانحسارها مع الوقت، في موازاة القدرات المتنامية لمحور المقاومة. من حرب تموز/يوليو 2006، وصولاً إلى معركة "سيف القدس" 2021، شهد الردع الإسرائيلي تَأَكُّلاً غير مسبوق منذ أيام النكبة.
لا بدّ من أن صُنّاع القرار في "إسرائيل" يدركون ما ذهب إليه الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله، في تأكيده أن "الحرب الكبرى إذا وقعت ستكون نتيجتها زوال إسرائيل، وأحد أشكال الردع هو التحضير للحرب الكبرى".
السيد نصر الله لفت أيضاً، بمناسبة عيد المقاومة والتحرير، في أيار/مايو 2020، إلى أن "التجويع والوضع الاقتصادي كانا وما زالا أداتين لتأليب البيئة الحاضنة للمقاومة على المقاومة".
ما يهمّ في هذا السياق أن "إسرائيل" مرتدعة حيال أيّ مواجهة مع حزب الله. هذه النتيجة سبقت معركة "سيف القدس"، وهي مكرَّسة منذ حرب تموز/يوليو 2006، لكنّ المواجهة الأخيرة عزَّزتها.
في أيار/مايو المنصرم، وخلال المواجهة مع غزة، ذكرت "القناة 13" الإسرائيلية أنّ "إسرائيل لا مصلحة لها في الدخول في قتال مع لبنان". أمّا قناة "كان" فاعتبرت أن المعضلة الإسرائيلية في الشمال تتمثَّل بالمواءمة بين "عدم السماح بإطلاق نار نحو إسرائيل من جهة، وعدم التصعيد ودفع حزب الله إلى مواجهة مع إسرائيل، من جهة أخرى".
خلاصة خرج بها اللواء احتياط إسحاق بريك، (مفوَّض شكاوى الجنود السابق) في مقابلة مع "إذاعة الجيش الإسرائيلي"، حينما قال إنه "إذا لم ننجح طوال 11 يوماً في إيقاف نار الصواريخ، فكيف سنقوم بذلك في مقابل حرب متعددة الجبهات، ينضمّ إليها حزب الله؟".
بريك، وهو لواء احتياط وقائد للكليات العسكرية وقائد فيلق سابق، يؤكد كلام السيد نصر الله، السالف الذكر، حينما يقول حرفياً إن "إسرائيل معرَّضة للزوال" في أيّ حرب مقبلة ضد محور المقاومة.
صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية كانت نشرت مقالاً لبريك، تحت عنوان: "إسرائيل غير جاهزة لحربٍ إقليمية"، وهو يصبّ في إطار هذه الخلاصة.
من ناحيته، قال معلّق الشؤون العربية لـ"القناة 13" الإسرائيلية، تسفي يحزقلي، "نحن يُنظَر إلينا كضعفاء، فَقَدْنا الردع داخل دولتنا"، وفق ما ذكرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية. هذا الكلام تردَّدَ، في أشكال متعدّدة، في الإعلام الإسرائيلي، على نحو لا يدع أيّ مجال للشك في المأزق الإسرائيلي، عسكرياً واستخباريّاً.
لكنْ، إذا عدنا سنوات إلى الوراء نجد في تصريحات قادة محور المقاومة ما يشير إلى بداية أفول التفوّق العسكري الإسرائيلي وتنامي القوة النوعية للمقاومة. ففي بداية كانون الثاني/يناير 2014، أكد قائد القوة الجو فضائية، والتابعة لحرس الثورة الإيراني، أمير علي حاجي زاده، أن "حزب الله في لبنان يمتلك قدرات كبيرة ستفاجئ الكيان الاسرائيلي في أي مواجهة مقبلة". وقال "وفقاً لمعلوماتنا، فإن قدرات حزب الله ازدادت في الأعوام الأخيرة، بحيث أصبح قادراً على إصابة أيّ هدف وتدميره داخل الأراضي المحتلة بدقة فائقة، وبنسبة خطأ ضئيلة جداً".
والسؤال: إذا كان حزب الله يمتلك تلك القدرات قبل سبع سنوات، فما الذي يمكن أن نتخيّله بشأن ما يملكه اليوم؟
لكن الأهم: إزاء هذا الواقع الذي يقيّد "إسرائيل" ويردعها عسكرياً، هل تبقى مكتوفة اليدين إزاء قوة باتت تصفها بأنها تشكّل خطراً وجودياً عليها؟ وما هي البدائل التي يمكن أن تعمل من خلالها؟
العمل من دون بصمات لإبعاد الرِّيبة
تكشف المعطيات وجود توجُّه ومصلحة إسرائيليتين في إسقاط لبنان، اقتصادياً ومالياً، من أجل الوصول إلى الضغط على حزب الله وإضعافه وتأليب الرأي العام عليه، من خلال تحميله مسؤولية مآلات الوضع، أو خلق فرص لفرض الوصاية على البلد بشروط أميركية إسرائيلية، تحت ضغط الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة.
هذا ما دلّت عليه مجموعة الأحداث التي تعاقبت على لبنان منذ بدء الانهيار المالي، مروراً بتفجير مرفأ بيروت، والذي لم يتم الإفراج بعدُ عن نتائج التحقيقات في ظروفه وأسبابه. من الأهداف أيضاً لجم حزب الله وتكبيله بمعطيات وظروف تتعلق ببيئته وبالوضع الاجتماعي في لبنان، من أجل منعه من القيام بخطوات دفاعية في حال قرّرت "إسرائيل" تعديل قواعد الاشتباك. من جملة المصالح الإسرائيلية في لبنان أيضاً ما يتعلّق بالثروات الغازية المتنازع عليها بين لبنان وكيان الاحتلال في البحر، بالإضافة إلى أطماع في الأرض والمياه. إلى ذلك، يمكن إضافة استغلال الوضع الناشئ في لبنان لتحقيق اختراقات سياسية وتطبيعية.
في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، نشر معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي ما يتعيّن فعله إزاء هذه الوقائع والظروف. وذكر المعهد أن "لدى إسرائيل فرصة هائلة في الوصول إلى عقول اللبنانيين وقلوبهم"، معقّباً على ذلك بأداة شرطية: "لكن، يجب فعل ذلك بصورة صحيحة". فما هي هذه الصورة الصحيحة، من وجهة نظر المعهد؟
يرى المعهد أن على "إسرائيل" رفع سقف رسائلها إلى حدّ القول إن حزب الله هو المتهَم الأساس في منع الدعم الدولي عن لبنان، من أجل مساعدته على الخروج من أزمته الأصعب في تاريخه، فضلاً عن أن "الحزب يشكّل خطراً دائماً على أمن الشعب اللبناني، بسبب تخزين السلاح وسط مناطق مأهولة بالسكان، ومنع تشكيل حكومة، وإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية".
ويشدّد المعهد على ما يجب أن يؤخَذ في الحسبان، خلال تطبيق هذه السياسة من أجل إبعاد الرِّيبة عن أي دور إسرائيلي في نظر الجمهور اللبناني. يذكر حرفياً "أن نقل هذه الرسائل لا يجب أن يكون عبر جهات محسوبة على إسرائيل، لأن هذا يمنع الإنصات إليه وسط جمهور لبنان والممتعضين من حزب الله".
توصيات معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، الذي يمثّل مطبخاً لإعداد السياسات الإسرائيلية وتخطيطها، المعلن منها والمخفيّ، جاءت في إطار عرض ما سمّاه الصراع على الوعي السياسي، بحيث اعتبر أن هذا الصراع هو جزء من معركة تديرها "إسرائيل"، بهدف إضعاف حزب الله، وكبح نشاطه ضدها. هذه المعركة هدفها، ودائماً من وجهة نظر المعهد، التأثير في المواطنين في لبنان، وزيادة الضغط على الحزب، وعلى الرأي العام الدولي، وعلى دول عربية، وعلى قيادة الحزب.
وبسبب أهمية الخلاصات والنتائج التي خرج بها المعهد، وتطابُق جزء منها مع الوقائع التي يشهدها ـ وسوف يشهدها ـ لبنان، يمكن عرض أهم ما ورد فيها في ما يلي:
- من المهم مواصلة الجهد على الوعي، بصورة دائمة ومكثَّفة، أمام حزب الله، عبر أدوات علنية وسرية، مع تنسيق الرسائل حيال مختلف الجماهير المستهدَفة.
- انطلاق المفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية والبرية بين "إسرائيل" ولبنان، إلى جانب الوضع الصعب في هذه الدولة، اقتصادياً وسياسياً وصحياً، وخصوصاً بعد كارثة مرفأ بيروت، أمر يخلق لـ"إسرائيل" فرصة في التشديد أمام الشعب اللبناني على الجدوى الآنية من تقدُّم المفاوضات مع "إسرائيل"، والذي من شأنه أن يسهّل الاستعداد لتقديم المساعدة الدولية لتحسين ظروف حياتهم وتطوير بلدهم، من حيث الازدهار الاقتصادي والاستقرار.
- هذا يأتي بديلاً من المواجهة والاحتكاك اللذين يقودهما حزب الله ضد "إسرائيل"، وهو من شأنه أن يؤدي إلى ضربة قاتلة أخرى للبنان.
- على الرغم من الصعوبات الموضوعية في قياس مدى نجاح الجهود على الوعي، فإن أهمية هذه المعركة التي تقودها "إسرائيل" في لبنان عموماً، ومع حزب الله خصوصاً، تتعاظم في الوقت الراهن، بسبب الصعوبات والأزمات التي يعانيها لبنان، والتي من شأنها أن تلقى آذاناً صاغية وسط الجمهور اللبناني، الذي يرزح تحت عبء الأزمة، التي يُعتبر حزب الله من بين المسؤولين الرئيسيين عنها، إن لم يكن أوّلَهم.
الأنشطة الإسرائيلية السرية والحذر من الأخطاء
مثل هذه الخلاصات، أو بعضها، ورد أكثر من مرة في الإعلام الإسرائيلي، وبطرائق متعدّدة، بحيث رأى بعض الخبراء الإسرائيليين أن من مصلحة "تل أبيب" إشغال حزب الله بالأزمة اللبنانية.
الخبير الإسرائيلي بالشؤون العربية والشرق الأوسط في "مركز القدس للشؤون العامة والدولية"، يوني بن مناحم، كتب مقالة خلال حراك تشرين الأول/أكتوبر 2019 قال فيها إن "إسرائيل يمكن أن تربح من الأزمة (في لبنان).. لكن عليها أن تحذَر من الأخطاء التي قد يستغلونها ضدها".
وتابع "يجب أن نستغل الوضع الناشئ بحذر، وعدم ارتكاب أخطاء على المستويين السياسي والإعلامي، وخصوصاً في كل ما يتعلق بالأنشطة السرية في لبنان. وتكفي الإشارة إلى ما من شأنه أن يورّط إسرائيل، ويسمح لحزب الله باستغلال ذلك من أجل تحويل الغضب في الشارع اللبناني نحو إسرائيل بدلاً منه".
هذه السياسة الإسرائيلية تجاه لبنان تنضوي تحت الاستراتيجية الأميركية التي تخدم، في الدرجة الأولى، مصالح "إسرائيل". وهي تعمل بأدوات ووسائل متعددة، وتتقاطع معها أطراف دولية جرت العادة على تصنيفها على أنها من "أصدقاء لبنان". الأدوات الناعمة حاضرة بقوة، من استثمار الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى محاولات إحداث فتنة، وربما حرب أهلية وأعمال أمنية في مرحلة لاحقة، مروراً برعاية "ناشطين" وتحركات وتظاهرات، والضغط مالياً واقتصادياً وسياسياً، بواسطة "أصدقاء" من الخارج، أو حلفاء من الداخل.
التناغم الإسرائيلي مع دول التطبيع في ما يتعلق بلبنان تحدَّثت عنه الصحف الإسرائيلية منذ عام 2017، وتحديداً عقب استقالة سعد الحريري، أي قبل تنفيذ مخطط انهيار لبنان. في تشرين الثاني/نوفمير من ذاك العام، توقَّفت الصحف الإسرائيلية ومسؤولون إسرائيليون، على نحو لافت، أمام التصعيد السعودي تجاه لبنان وإيران، وتحدّثوا عن سيناريوهات التحرّك السعودي وأهدافه، ودور العلاقة السعودية الإسرائيلية في هذا الملف.
نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، كان كشف، في هذا الإطار، معلومات مفادها أنّ "السفارة الأميركية تعاقدت مع وسيلتين إعلاميّتين لبنانيتين، وتدفع لهما أموالاً باهظة جداً". وأضاف أن "المطلوب من هاتين الوسيلتين التلفزيونيتين أن تبثّا تقارير يومية تمسّ حزب الله في كلّ الموضوعات المطروحة".
لهذه الأسباب نلاحظ تزايد التصريحات الإسرائيلية في الآونة الأخيرة حول الأزمة في لبنان. تصريحات عبّر فيها رئيس الأركان في "جيش" الاحتلال أفيف كوخافي، كذلك رئيس الحكومة الجديد نفتالي بينيت، ووزير الأمن بيني غانتس عن رغبتهم بـ"مساعدة لبنان".
لكن ما لا يقوله المسؤولون الإسرائيليون علناً تتكفّل به وسائل إعلامهم، نقلاً عن مصادر، حيث التشديد على الحذر من انقلاب المشهد، وتحوّل الفرصة إلى تهديد. مشهد قد تحل فيه روسيا والصين بديلاً من الولايات المتحدة، وفراغ يملأه محور المقاومة وأصدقاؤهم الروس والصينيون.