انتصار بين زمنين: "الصراع لن يعود كما كان"

الانتصار الذي لا لبس فيه ستكون له انعكاسات كبيرة على مستقبل الصراع.

  • لقد رسم
    لقد رسم "سيف القدس" حداً فاصلاً بين زمنين.

في الأيام الأخيرة للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وخصوصاً في غزة، كانت الإشارات واضحة على انسداد الأفق أمام قادة "جيش" الاحتلال والمستويين السياسي والأمني. لم يكن ممكناً الاستمرار بالحرب أكثر بعد ما أظهرته الأحداث خلال الأسبوعين الفائتين، الأمر الذي رفع المواجهة مع الاحتلال إلى مستوى أعلى مما كان قبل اندلاع انتفاضة القدس واستتباعها بعمل المقاومة المسلحة في غزة.

كثيرةٌ هي الانتقادات التي تعرض لها رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو في الداخل الإسرائيلي. كان واضحاً أنه يقود عدواناً عنيفاً من دون هدفٍ محدد. في السنوات السابقة، كان النقاش السياسي في كيان الاحتلال يشهد انتقادات للحروب على الفلسطينيين وكيفية شنّها. في الحقيقة، كان قادة الاحتلال يتنافسون حول ابتكار الحرب الأكثر إجراماً، لكن الحروب السابقة كانت محددة الأهداف، بينما كانت هذه المرة مجرد قصف همجي.. القتل من أجل القتل، هروباً من هزالة قدرة الكيان على ضبط الأحداث بأبعادها المختلفة، وخصوصاً من حيث رقعة الرد الفلسطيني الذي كان واسعاً وقوياً وصاخباً وزخمه.

لحظة وقف النار

بعد 11 يوماً من العنف المفرط الذي استخدمه الكيان، جاء القبول بوقف إطلاق النار بإجماع أعضاء "الكابينت" الأمني المصغر. الوساطة المصرية نجحت في إعادة الهدوء إلى الجبهة، لكنها في الجانب الإسرائيلي، مكّنت نتنياهو من النزول عن شجرة التصعيد التي صعدها من دون تطلعٍ إلى ما سيأتي بعد ذلك، وأتت أيضاً في لحظة مناسبة للمقاومة الفلسطينية التي حققت إنجازات مهمة جداً خلال هذه الجولة، فقد بادرت وصمدت وطالت المواقع التي تريدها، ثم كانت صاحبة الطلقة الأخيرة التي رسمت بها معادلة الردع للمرحلة المقبلة.

وبعد انقشاع المشهد، انجلى الغبار عن واقعٍ واضح هذه المرة أكثر من المرات السابقة. بيان حكومة العدو جاء ليقول إنهم قبلوا وقف إطلاق نار متبادلاً، ومن دون شروط، بناء على اقتراح مصري، لكن الخوف الإسرائيلي من استمرار المعركة عبَّر عنه وزير الأمن بيني غانتس، حين قال إن "الواقع على الأرض سيحدد مصير العملية العسكرية في غزة".

لقد بدت قيادة الكيان خائفة خلال هذه الحرب. الخوف هو الكلمة المناسبة التي تفسّر العنف المفرط من جهة، ودخول المعركة من دون هدف من جهة أخرى، ثم وقف إطلاق النار من دون تحقيق أية إنجازات تتعلق بإضعاف قدرات المقاومة الفلسطينية، أو الحصول على تنازلات منها حول نطاق عملها وأساليب تطوير قدراتها، أو فرض قيود من قبل السلطة الفلسطينية عليها. كل ذلك لم يتم على الإطلاق، بل كان مجرد قبول سريع بوساطة تعيد نتنياهو إلى التفكير في مصيره وفي قضبان السجن التي تلوح أمامه.

موقف المقاومة بعد الانتصار

أطلقت المقاومة في الساعات الأخيرة قبيل وقف النار رشقاتٍ مكثفة من الصواريخ باتجاه المستوطنات الإسرائيلية التي بقي سكانها في الملاجئ. أرادت المقاومة القول إنها صاحبة الطلقة الأخيرة، وكانت فعلاً صاحبة اليد العليا في ختام هذه الجولة من المواجهات، لجملة أسباب يمكن اختزالها بعناوينها: فاعلية عالية لضرباتها على المستوى العسكري من ناحية رقعة الأهداف وأهميتها ودلالاتها وانعكاساتها على مسار المعركة، وتنوع وسائل المقاومة وتزامنها، وتخبط الجبهة الداخلية الإسرائيلية.

عقلية الانتصار هذه عبّر عنها الناطق باسم "سرايا القدس" أبو حمزة قبيل وقف إطلاق النار، حين قال إن "الكلمة الأخيرة ستكون دوماً للمقاومة في الميدان، على قاعدة "وإن عدتم عدنا""، مشدداً على أن المقاومة سترد على أي خرق إسرائيلي. 

أما نجم الانتصار الجديد، الناطق العسكري باسم كتائب "القسام"، أبو عبيدة، فقد أكد أن المقاومة تمكنت من "إذلال العدو وجيشه الذي تبجحت قيادته بقتل الأطفال وتدمير الأبراج السكنية"، وأن "لديها المزيد لمواجهة الصهاينة إذا تجرَّأوا على مقدَّساتنا". بدوره، أكد المستوى السياسي لدى كل من "حماس" و"الجهاد" حتمية الرد في حال خرق العدو وقف إطلاق النار، كما شددوا على جهوزية فصائل المقاومة في هذا السياق.

لكن المعاني السياسية للانتصار الجديد لم تحتج وقتاً طويلاً حتى بدأت تظهر في تصريحات قيادات المقاومة. كلام قادة حركة "الجهاد" حول الانتصار يشير إلى مرحلة جديدة أكثر تفاؤلاً. حركة "حماس" عبرت أيضاً عن المضامين نفسها. القيادي في الحركة أسامة حمدان قال لـ"الميادين" إن المقاومة "ثبّتت انتصاراً جديداً ومعادلةً جديدة"، كاشفاً عن حصولها على ضمانات من الوسطاء بوقف العدوان، والأهم "رفع يد الاحتلال عن الشيخ جراح والمسجد الأقصى".

لكن الوصل مع ما سيأتي تُرك لرئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، الذي أكد أن هذه المعركة "سيكون لها ما بعدها"، وأنها كانت علامةً فارقة مهمة في الصراع، وأن المقاومة أقوى بكثير اليوم"، وستعدّ "لعصر ما بعد سيف القدس". وبعد أن وضع هنية كل الدماء والتضحيات التي قُدمت في طريق القدس، لم ينسَ شكر شركاء النصر في إيران، الذين "قدموا الدعم للمقاومة الباسلة، ولم يتراجعوا عن دعمها بالمال والسلاح والتكنولوجيا".

ويمكن تفسير موقف المقاومة والإحساس العارم بالنصر عند الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المناصرة للقضية بمجموعة نتائج ومعطيات تم لمسها بشكل واقعي خلال المعركة الأخيرة، وأبرزها:

- إجبار العدو على وقف إطلاق النار من دون شروط، وبسرعة فائقة مختلفة عن المعارك السابقة.

- تعطيل الاستيلاء على حي الشيخ جراح.

- حماية المسجد الأقصى من الانتهاك مجدداً.

- تحقيق مستوى جديد من التناغم والاندماج بين أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وخصوصاً الأراضي المحتلة العام 1948، ومنع استفراد العدو بالمدن والقرى، كل واحدةٍ على حدة.

- الحفاظ على آليات عمل المقاومة وقدراتها وامتداداتها السياسية والعسكرية من دون أذى، كما يبدو، وحتى اللحظة الأخيرة من المواجهة.

- دمج الحرب الافتراضية بالحرب الواقعية على الأرض، الأمر الذي يشير إلى انتصار آخر في معركة الوعي، انعكس في النقاش السياسي والإعلامي الإسرائيلي بعيد وقف إطلاق النار بصورةٍ واضحة سوف نأتي على ذكرها بعد قليل.

- تزخيم حالة التضامن الشعبي في الخارج مع القضية الفلسطينية.

- تثمين قيمة خيار المقاومة استراتيجياً في مواجهة خيار التطبيع.

- إظهار القدرة على إلحاق الضرر الاقتصادي بالعدو بصورة تفوق المرات السابقة، وخصوصاً مع اضطراره إلى إقفال مطارات ومحطات إنتاج طاقة وقطاعات أعمال واسعة...

- عدم التعهد بأي التزام طويل الأمد حول تطوير القدرات والعمل المقاوم في مقابل وقف إطلاق النار على القطاع.

- تنويع وسائل المقاومة بين الإضراب والاحتجاجات الشعبية والعمل العسكري والعمل الإعلامي والافتراضي... لقد اكتسبت المقاومة سلاحاً جديداً، وهو المعركة المتعددة والمتزامنة الأبعاد، بحيث تترافق المقاومة الصاروخية المسلحة مع حملات المناصرة في وسائل التواصل الاجتماعي، مع إضراب الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة العام 1948 في وقتٍ واحد، وفي معركة محددة، وباتجاه واحد، نحو النصر، الأمر الذي أدى إلى تظهير الانتصار بسرعة فائقة أكثر من المعارك السابقة. 

- توسيع رقعة المعركة لتشمل كل فلسطين، من الحدود اللبنانية إلى البحر الأحمر.

الموقف في كيان العدو

لم يحد نتنياهو عن عادته عند نهاية كل محطة من محطات العدوان على الشعب الفلسطيني، حين أعلن في أول تصريح له عن وقف إطلاق النار أن العملية العسكرية الإسرائيلية أضرّت بقدرة المقاومة على إطلاق صواريخ على "إسرائيل"، وأن جيشه هاجم ودمّر شبكة أنفاق "حماس" الواسعة في غزة ومصانع الصواريخ والأسلحة ومرافق التخزين، وقتل أكثر من 200 مسلّح، من بينهم 25 ناشطاً بارزاً. 

وأضاف: "حماس لا تستطيع الاختباء بعد الآن. هذا إنجاز عظيم لإسرائيل... قضينا على جزء مهم من قيادات حماس والجهاد الإسلامي. ومن لم يُقتل، يعرف اليوم أن ذراعنا الطويلة يمكن أن تصل إليه في أي مكان، فوق الأرض أو تحت الأرض". 

إذاً، وبحسب نتنياهو، هو إنجاز عظيم لـ"إسرائيل". حسناً، ماذا صرّح نتنياهو نفسه بعد عمليتي "الرصاص المصبوب" في العام 2009 و"الجرف الصامد" في العام 2014؟ لقد ادّعى بكل بساطة الادعاءات نفسها، مع التعبيرات ذاتها: "إنه إنجاز عظيم لإسرائيل، وتم القضاء على جزء كبير من قدرات المقاومة وقتل القادة وتدمير البنى التحتية"! ولكن لو صدقت تصريحات نتنياهو في 2009 و2014، ربما حينها فقط ستكون هناك فرصة لتصديقها اليوم، علماً أن الانتصار الجديد للمقاومة أكثر بروزاً من الانتصارات السابقة، كما تشير كل المؤشرات، ليس لدى الفلسطينيين ومناصريهم فحسب، بل داخل الكيان أيضاً، خلال وقف المعركة وبعدها، إذ لم ينتظر قادة معسكر اليمين دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، حتى شنّوا هجومهم على نتنياهو من باب وقف إطلاق النار غير المشروط، واصفين إياه بـ"المخجل".

لقد بدا نتنياهو نفسه غير مقتنع بأن ما جرى هو "إنجاز عظيم لإسرائيل"، لكن ماذا بقي أمامه حتى يستعيد فرصته في تشكيل حكومة، بل حتى يتجنب السجن الذي بات أقرب إليه بعد هزيمته في غزة؟ لم يستطع الرجل تقديم تفسير واضح للإسرائيليين حول مضامين وقف إطلاق النار، وإذا ما كان "حارس الأسوار" سيتمكن فعلاً من حراستها.

عضو الكنيست إيتمار بن غفير رأى أن وقف إطلاق النار "بصقة في وجه سكان الجنوب". عبارة فسرتها عبارة أخرى لرئيس حزب "أمل جديد" جدعون ساعر، عندما قال إن "وقف القتال من جانب واحد سيكون ضربة خطيرة للردع الإسرائيلي تجاه حماس". وأضاف: "مع أفضل قوة استخباراتية وجوية في العالم، تمكّن نتنياهو من اقتناص وقف إطلاق نار من دون شروط من حماس. هذا مخجل ومحرج".

لكن الهزيمة الجديدة للاحتلال أبرزت هذه المرة مؤشرات مشكلةٍ جهوية تضاف إلى مشكلات الكيان البنيوية، فرئيس بلدية سديروت (مستوطنة تقع في جنوب فلسطين المحتلة) وضع قبول نتنياهو بوقف إطلاق النار من دون شروط، ومن دون القضاء على المقاومة، في خانة التمييز بين الإسرائيليين، وتفضيل أمن سكان تل أبيب ومراكز المدن على سكان الجنوب، إذ قال: "على الرغم من الدعم والصبر والبطولة التي أظهرها سكان الجنوب منذ 20 عاماً، يبدو أن رئيس الوزراء نتنياهو والحكومة الإسرائيلية لا يريدان حقاً الإطاحة بحماس، ويفضلان ضمان الهدوء المؤقت لسكان تل أبيب ومركز البلاد".

صحيفة "يديعوت أحرونوت" قالت إن الصورة الحالية ليست صورة انتصار لـ"إسرائيل"، وإن محاولات تصوير الأمر انتصاراً في كل مرة هي محاولات واهية جداً وصبيانية وعديمة القيمة. وأضافت أن هناك حاجة لحساب إسرائيلي مع النفس، وخصوصاً مع قصف المقاومة الفلسطينية مدينة القدس، الأمر الذي لم يكن متخيلاً، فضلاً عن الاضطرابات بين الفلسطينيين واليهود في فلسطين الـ48، والتي كانت مفاجِئَة أيضاً، ولم يعد يمكن تجاهل الرابطة القوية بين فلسطينيي غزة والضفة وفلسطين الـ48.

الأصداء نفسها ترددت في "فايننشال تايمز" الأميركية التي كتبت أن المواجهة مع غزة أثبتت فشل استراتيجية نتنياهو وخطرها على "إسرائيل"، في الوقت الذي تحدثت مجلة "بوليتيكو" عن دور لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في تنظيم حرب قذرة على غزة، لكن أحد عناوين "واشنطن بوست" عبّر عن مستقبل الصراع بعد الانتصار الجديد للمقاومة: "إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن يعود كما كان سابقاً".

لقد رسم "سيف القدس" حداً فاصلاً بين زمنين.

اعتداءات إسرائيلية متكررة على الفلسطينيين في القدس المحتلة ومحاولة تهجيرهم من منازلهم، استدعت انتفاضة فلسطينية عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبعها عدوان إسرائيلي على غزة تجابهه المقاومة بالصواريخ التي تشل كيان الاحتلال.