"سيف القدس" مقابل "حارس الأسوار".. للأسماء حروبها أيضاً
تسميات المعارك ليست اعتباطية وتبقى مستمرة بعد انتهاء الحروب. أولتها الجيوش اهتماماً من زاوية الحرب النفسية. إنه صراع الخطابات.
تسميات المعارك والعمليات العسكرية ليست مسألة عابرة. تنتهي الحروب لكن التسميات تبقى مستمرة سواء في كتب التاريخ أو على محركات البحث وفي فضاء الإنترنت عموماً، كذلك في الذاكرة الجمعية. التسمية تنعكس ذهنياً في الصورة التي يكوّنها المتلقي، أي عموم الناس، عن الأحداث. المصطلح له تبعات على المدلولات. بالطبع هذا ليس عاملاً حاسماً ووحيداً في الانطباع النهائي الذي يتكّون في الذاكرة الجمعية، لكنه بالتأكيد عامل هام وأساسي.
من هنا فإن إطلاق التسميات على المعارك ليست مسألة اعتباطية ولا يجب أن يكون كذلك. يروي موقع "Global security" أنه عندما أمر الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب بغزو بنما في 1989، اتصل القائد العام للقوات المسلحة بمسؤول العمليات في هيئة الأركان المشتركة قبل أيام من انطلاق العملية ليسأله: "هل تريد أن يقول أحفادك يوماً إنك شاركت في (الملعقة الزرقاء)؟"، وعلى الفور اتفق الطرفان على تغيير اسم العملية إلى "القضية العادلة".
لماذا تطلق التسميات على المعارك العسكرية؟
تعكس تسمية المعارك تصوّر القيادة العسكرية والسياسية لطبيعتها وأهدافها. بشكل عام، ترتبط تسمية المعارك العسكرية في أحد جوانبها بالعمل الدعائي (البروباغندا) والحرب النفسية التي تدور بموازاة الحرب العسكرية. أي رسالة وأي مدلول يُراد إيصاله من خلال اسم المعركة؟ وإلى من؟ هذا السؤال الأساسي الذي تنبع منه فكرة الأسماء. وبالتالي، إن القضية هنا ليست مسألة فنية ولغوية، رغم دورها في ترسيخ المصطلح في الأذهان.
الجانب الدعائي والنفسي لا يكون موجّهاً إلى العدو بالضرورة، بل أحياناً إلى الرأي العام الداخلي، بغرض التضليل، وتبرير الغزو والحرب على بلد آخر، وصناعة صورة ذهنية معينة. الحكومة الأميركية اختارت أن تطلق على إحدى عملياتها العسكرية في أفغانستان اسم "الحرية الدائمة". أما فرنسا، فقد لجأت خلال تدخلها العسكري في أفريقيا الوسطى إلى اختيار أسماء محايدة لا تثير حفيظة الأطراف المتصارعة، مثل اسم "Sangaris"، وهي فراشة حمراء. كما اختارت اسم "Harmattan" للتدخل فى ليبيا في العام 2011، نسبة إلى رياح ساخنة فى غرب أفريقيا، و"Serval" لعمليتها في مالي، وهو نوع من القطط البرية الصحراوية.
مقاربة موضوع التسمية تنطلق في جانب منها بمفهوم الخطاب ببعده العلمي الأكاديمي. توقفت السفسطائية عند سلطة الخطاب، فيما رأى الفيلسوف والمفكر الفرنسي ميشال فوكو أن الخطاب هو ما نصارع به وما نصارع من أجله، وهو لا ينفصل عن علائق القوة والسلطة والمعرفة.
في الجانب العملي، تفرض التسمية ضرورتها انطلاقاً من الإدارة الإعلامية للمعركة، إذ تبرز حاجة الأطراف المتصارعة إليها في التصريحات والرسائل والبيانات، وتقوم بعد ذلك بتكريسها على نطاق أوسع، من خلال نقلها إلى وسائل الإعلام المواكبة لمجريات المعارك وتطوراتها الميدانية والسياسية، بحيث تحتاج الصحافة (سواء الصديقة أو المحايدة) في تغطياتها إلى اسم يدلّ على الحدث ويختصره.
على أرض الواقع، ليس ضرورياً أن تكون التسمية ناتجة من هذه العوامل مجتمعة، فقد تعكس أحياناً الظروف المناخية والجغرافية لمسرح العمليات، كما حدث في عملية "درع الصحراء"، ثم "عاصفة الصحراء"، التي شنها التحالف المشارك في حرب تحرير الكويت في العام 1991.
ومن الجدير ذكره أنّ بعض الخبراء يقلّل من أهمية التسمية، ويقدّم الجانب الميداني العسكري على كل ما عداه، لكن هذا ليس ما يعتقد البروفيسور راي هيبرت؛ ففي مقالة له بعنوان "العلاقات العامة كسلاح في الحرب الحديثة"، يقول إنّ "الاستخدام الفعال للكلمات ووسائل الإعلام اليوم هو بأهمية الاستخدام الفعال للرصاص والقنابل. في النهاية، لم يعد كافياً أن تكون قوياً فحسب، فلا بد من التواصل للفوز. واليوم، ليس المطلوب من الحكومات أن تفوز بالحرب في أرض المعركة فحسب، وإنما عليها كسب عقول جماهيرها أيضاً".
تختلف التسمية وفق اختلاف الثقافات بين الجيوش، بحيث تميل الأسماء الأميركية مثلاً إلى أن تكون واضحة، وأن تعكس طبيعة العملية، بينما تلجأ بريطانيا إلى إطلاق أسماء غريبة ومعقّدة على عملياتها. وقد اختارت اسم "غرانبي" لدورها في المراحل الثلاث من الحرب العراقية في العام 1991.
مع مرور الوقت، يصبح للاسم دور تأريخي، وخصوصاً في الدراسات والأبحاث والكتابات التي تستعيد المعركة بعد أن تصبح من الماضي.
"سيف القدس".. القوة والعزم والبوصلة
لم يجرِ دائماً، عبر التاريخ، إطلاق تسميات على المعارك والحروب في حينها (وقت وقوعها). كانت التسميات تتغيّر في وقت لاحق أحياناً. الحرب العالميّة الأولى لم تحمل هذا الاسم إلا بسبب وقوع الحرب العالمية الثانية بعدها (أي بعد 30 عاماً). وقد راج استخدام مصطلحي "الحرب العظمى" و"الحرب العالمية" لعقدين من الزمن، قبل أن يضطر المؤرخون إلى تغيير الاسم، لتصبح "الحرب العالمية الأولى".
كما أنَّ الانتفاضة الأولى في العام 1987 لم تُسمَّ باسمها إلا بعد سنوات، وذلك لتمييزها عن الانتفاضة الثانية التي اندلعت في العام 2000.
في الوقت الراهن الّذي يتسم فيه تداول الخبر بالسرعة، وبسبب وجود وسائل التواصل والفضائيات، تزداد أهمية التسمية التي تفرض نفسها للأسباب السابقة.
يُحسب لفصائل المقاومة الفلسطينية توحيد تسمية المواجهة الحالية تحت عنوان "سيف القدس"، ما أدى إلى ترسيخه أكثر واعتماده وشيوعه، بدلاً من انفراد كل فصيل بإطلاق تسمية خاصة به، كما كان يحدث أحياناً، ما من شأنه تشتيت اسم المعركة.
يوحي "سيف القدس" بعنوان المعركة وهدفها وجوهرها، فالمعركة معركة دفاع عن القدس، بما تمثّل من رمزية تختصر فلسطين والقضية، كما أن الأحداث انطلقت منها.
يرمز السيف إلى القوة والعزم والشهامة والنخوة، وهو يحمل مدلولات دينية، وأخرى مستمدة من التراث الأدبي العربي، والسيف في هذه التسمية ينبري للدفاع والتصدي وتحقيق النصر ووضع حد للتمادي. يوحي الاسم ببعد ديني، وآخر قومي وتاريخي، ويستعيد أمجاد النصر والعزة.
في المقابل، اعتمد الجانب الإسرائيلي تسمية "حارس الأسوار"، التي ربما تكون مستمدة من عنوان أغنية قامت جوقة في "الجيش" الإسرائيلي بتأديتها في العام 1977، وهي تحكي قصة جندي إسرائيلي كان يحرس أسوار القدس. هذه الأغنية لها شعبية عند الإسرائيليين.
في بعض الأحيان، يطلق "جيش" الاحتلال على عملياته وحروبه أسماء متّصلة بمناسبات دينية أو معنى توراتي أو متعلقة بالتراث الأدبي أو التاريخي اليهودي. ينطبق ذلك على عملية "عمود السحاب"، الذي يعد اسمها ذا مرجعية توراتية واضحة، و"الرصاص المصبوب" المقتبس من شاعر إسرائيلي. أما "عناقيد الغضب"، فهو اسم رواية لكاتب إسرائيلي.
بخصوص التسميات التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية سابقاً على معاركها مع الاحتلال الإسرائيلي، وتحديداً حركة "حماس"، فإن معظمها مستوحى من الآيات القرآنية، مثل "الفرقان"، و"حجارة السجيل"، و"العصف المأكول"، وهذا أمر طبيعي ومُتوقع، نظراً إلى العقيدة الفكرية لهذا الفصيل الفلسطيني ومقاتليه، وإلى الخلفية الإسلامية لبيئة المقاومة (حماس).
تختلف التسمية بين الجانبين المتقاتلين في المعركة نفسها، بحيث يبدو الأمر كأنه مواجهة على مستوى أسماء أو مواجهة بين خطابين. ومن المعروف أن المنتصر يكتب التاريخ، كما يُقال. لذا، تكتسب التسميات رمزيتها، باعتبارها معركة إرادات تتعدى الجانب العسكري إلى الصراع على الخطاب، ومن ضمنه اسم الحرب.
تختلف التسميات وفقاً لمنطق كلّ طرف، وبغرض التسويق للحرب وإكسابها شرعيّة، فما عُرف بـ"حرب الخليج" (1991 ــ 1990)، أسماه النظام العراقيّ "أم المعارك"، وأسمته قوات التحالف "حرب تحرير الكويت".
تكون التسمية موجهة إلى مستويات متعددة، فهي تأخذ بعين الاعتبار القوات المقاتلة بغرض التحفيز والتعبئة النفسية، كذلك الجبهة الداخلية لبث الأمل والشجاعة، ثم الجبهة المعادية للترهيب والردع ودب الذعر فيها. بعد ذلك يأتي عامل الإعلام والرأي العام الدولي أو العربي. تعدّد المستويات هذا، هو ما يفسّر قيام الجانب الإسرائيلي أحياناً بإطلاق نسخ متعددة من التسمية بثلاث لغات؛ الأولى مخصصة لجمهوره العبري، والثانية موجهة إلى الرأي العام العربي، والثالثة إلى الرأي العام العالمي، وتتضمن تعديلات ومواءمة، بحيث لا تلتزم الترجمة الحرفية.
كما أنّ محاولة الترهيب تفسّر أسماء العمليات التي أطلقتها "إسرائيل" سابقاً على عملياتها، مثل "الرصاص المصبوب"، و"عناقيد الغضب"، و"الشتاء الساخن"، و"حقل الأشواك"، و"دفع الفاتورة".
ورغم إسناد الجانب الإسرائيلي مهمة التسمية إلى دوائر محترفة في "جيش" الاحتلال، فلا يعني ذلك بالضرورة تفوّقه ونجاحه؛ فخلال الحملة العدوانية التي شنّها الإسرائيليون على قطاع غزة في أيلول/سبتمبر 2007، جرى تغيير الاسم مرات عدة، من "القتال من بيت إلى بيت"، ثم "دفع الثمن"، مروراً بـ"خلع الضرس"، وصولاً إلى "الشتاء الساخن".
أسماء المعارك عبر التاريخ
تطوّرت مسألة إطلاق التسميات على العمليات العسكرية في العصر الحديث، فكانت في البداية اختصاراً للرموز العسكرية، ثم غدت نوعاً من الشيفرة السرية. ولاحقاً، وضعت في إطار العلاقات العامة ضمن الجيوش، إذ ينبغي أن يكون للمعارك أسماء تستخدمها وسائل الإعلام. وكانت العلامة الفارقة مع بداية تسعينيات القرن الماضي، إذ شكلت "حرب الخليج الثانية" طفرة في متابعة الحرب على الهواء مباشرة والحاجة إلى كسب تأييد الرأي العام الدولي.
في العهد الإسلاميّ، كانت المعارك تُسمّى بأسماء مختلفة، مثل معركة "أُحد" ومعركة "اليرموك"، نسبة إلى أماكن أو شخصيات معينة، كما سمّى العرب في العصور الوسطى "الحروب الصليبية" باسمها، نسبة إلى وضع الغزاة الأوروبيين الصّليب على صدورهم.
يميل الخبراء إلى الاعتقاد بأنَّ الألمان هم أول من أطلق أسماء "كودية" على العمليات العسكرية خلال آخر سنتين من الحرب العالمية الأولى، فكانت تسميات ذات دلالات ميثولوجية، مثل "كاستور" و"بوليكس" (توأمَى إلياذة هوميروس)، وكانت الأسماء وسيلة سهلة لمتابعة سير العمليات وتعقبها ووسيلة للحفاظ على سريّتها.
ورغم المساعي الأولية لتحديد الأسماء، كانت أسماء عمليات الحرب العالمية الثانية محدودة التأثير في تشكيل مواقف الرأي العام، نظراً إلى عدم دخول التلفاز والميديا بقوة على مسرح الأحداث.
لا بدّ من التأكيد في النهاية أنَّ الاسم، مهما كانت قوّته، لا تأثير له في ميزان القوى والتطورات العسكرية على الأرض، بمعنى أنك قد تفوز لغوياً وخطابياً، ولكنك، رغم ذلك، تخسر الحرب. من الأمثلة البارزة على ذلك، عملية "عاصفة الحزم" التي أطلقتها السعودية في عدوانها على اليمن، وأتت بنتائج عكسية، بحيث باتت تثير السخرية. التسمية تحوّلت لاحقاً إلى "إعادة الأمل"، بما يعكس تغيير الرسالة التي يُراد إيصالها إلى الجمهور.