إعادة ترتيب الأوراق.. المرحلة الجديدة لسياسات أنقرة الخارجيّة

الملمح الأساسيّ لهذه المرحلة هو التهدئة ومحاولة إدارة الانخراط التركي في الصراعات الإقليمية والدولية، وكذا العلاقات مع القوى الكبرى، بروح أقل تصعيداً.

  • كانت التوجهات التركية خلال مرحلة
    كانت التوجهات التركية خلال مرحلة "صفر مشاكل" مبنية على محاولة استعادة الدور الإقليمي بشكل تدريجي.

دخلت الاستراتيجية الإقليمية والدولية لأنقرة مطلع العام 2021 مرحلة جديدة تتزامن مع تولي إدارة أميركية جديدة سدة الحكم في البيت الأبيض. الملمح الأساسيّ لهذه المرحلة هو التهدئة ومحاولة إدارة الانخراط التركي في الصراعات الإقليمية والدولية، وكذا العلاقات مع القوى الكبرى، بروح أقل تصعيداً وأكثر أتزاناً من النهج الذي كان متبعاً خلال السنوات الماضية.

يمكن قراءة هذا التوجّه الجديد بشكل واضح في المقاربة التركية الحالية للملف الليبي، وكذا العلاقات مع مصر ومنطقة الخليج، لكن قبل قراءة هذا التوجه الجديد، لا بدَّ من النظر بعمق إلى مراحل تطور الاستراتيجية السياسية التركية الموجهة إلى الخارج. بشكل عام، يمكن تقسيم المراحل التي مرت بها الاستراتيجية التركية الإقليمية والدولية منذ تولي حزب "العدالة والتنمية" للسلطة في تركيا إلى 3 مراحل:

 

المرحلة الأولى 2002-2015

هي مرحلة سياسة "صفر مشاكل" في ما يتعلق بالعلاقات الإقليمية والدولية، والانكفاء بشكل أكبر نحو استقرار الوضع الاقتصادي، وتمتين سيطرة حزب "العدالة والتنمية" على الوضع السياسي الداخلي في تركيا، وكذا المفاصل الاقتصادية والأمنية والعسكرية للدولة التركية.

كانت التوجهات التركية في هذه المرحلة مبنية على محاولة استعادة الدور الإقليمي بشكل تدريجي، بعد أن استشعرت على مدار حقبة تسعينيات القرن الماضي انحسار هذا الدور، الذي كان مبنياً بشكل شبه رئيسي على التموضع التركي في الجانب الأوروبي والأميركي خلال الحرب الباردة ودورها كقاعدة عسكرية متقدمة في هذه الحرب.

تجنّبت أنقرة في هذه المرحلة الدخول في مواجهات مفتوحة مع محيطها الإقليمي، وانكفأت بشكل كبير عن الإصلاح الاقتصادي، مع البدء باستخدام أدوات القوة الناعمة، للانفتاح على القارة الأفريقية والشرق الأوسط، وكذلك بدء مرحلة جديدة من التعاون مع الاتحاد الأوروبي، بإطلاق مباحثات الانضمام إليه في العام 2005، في محاولة للخروج من عباءة "التبعية" إلى مرحلة من التعاون والمصالح المشتركة، وهو ما انسحب أيضاً على العلاقات مع موسكو وواشنطن.

على المستوى الداخلي، بدأت حكومة حزب "العدالة والتنمية" خلال هذه المرحلة، وبشكل تدريجي، إعادة هندسة الوضع الاجتماعي الداخلي لبلاده، لتحويله تدريجياً إلى الجانب الإسلامي الأصولي، وإبعاده عن العلمانية وتوجهاتها، فبدأ بتأسيس المدارس الدينية والمؤسسات الحكومية لإعداد الدعاة، ونفّذ عدداً من الإجراءات المناهضة للعلمانية، بهدف تأسيس رأي عام مناهض لها، وجيّش كذلك الإعلام والصحافة التركيين من أجل مناهضة دعاة العلمانية المعارضين لمحاولات أسلمة المجتمع التركي وفرض هذه الأسلمة على الأقليات الدينية.

 

المرحلة الثانية 2016 - 2020

هي مرحلة سياسة "الردع الخارجي والانخراط الهجومي في الميادين الإقليمية"، التي وسعت أنقرة من خلالها انخراطها في الأزمات الإقليمية بشكل أكبر، وبمستويات متعددة، وهو ما كان له نتائج أساسية على المستوى السياسي والاقتصادي، وكذا على مستوى علاقاتها مع الدول الفاعلة الرئيسية التي تأثرت بشكل عام سلباً جراء هذا التوجه.

خلال هذه المرحلة، استشعرت أنقرة أواخر العام 2015 العزلة التي باتت تتشكَّل بشكل تدريجي حولها على المستوى الإقليمي والدولي، وخصوصاً بعد تدهور علاقاتها مع موسكو على خلفية إسقاط القاذفة الروسية في الأجواء الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وكذا تأثر العلاقات بين أنقرة والولايات المتحدة الأميركية بشأن عدد من الملفات، منها ملف منظومات "أس-400" الروسية، وملف رفع الحظر التسليحي الأميركي عن قبرص. 

لهذا، بدأت أنقرة باتخاذ نمط هجومي في علاقاتها مع الأطراف الفاعلة على المستوى الدولي، وبشكل خاص الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، ونمط صدامي في ما يتعلق بدورها في مواضع الأمن الإقليمي الخاصة بها، والتي تمثل بشكل أو بآخر الامتدادات الجغرافية السابقة للإمبراطورية العثمانية، وبدأ التوجه التركي نحو تحصيل النفوذ الإقليمي أكثر وضوحاً، وخصوصاً في آسيا.

استخدمت أنقرة خلال هذه المرحلة بشكل مكثف كل الأدوات التكتيكية المتوفرة لديها، لبسط نفوذها الإقليمي، بما في ذلك الأدوات العسكرية، ليس من أجل ضمان مصالحها السياسية في النطاق الإقليمي فحسب، بل لتحصيل مكتسبات اقتصادية مهمة أيضاً، تزايدت أهميتها خلال هذه المرحلة بعد أن بدأ الاقتصاد التركي يعاني التدهور بشكل ملحوظ. وشهدت هذه المرحلة بدء العمليات العسكرية الخارجية للجيش التركي، والتي شملت دولاً مثل العراق وسوريا وليبيا، إلى جانب التمركز العسكري الدائم في عدد من الدول.

داخلياً، عكف الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان على تعديل الأسس التي يقوم عليها نظام الحكم في تركيا، إذ حوّله إلى نظام رئاسي عوضاً عن النظام البرلماني الذي كان قائماً خلال العقود الماضية، وبدأ عقب انقلاب العام 2016 بإعادة هيكلة كاملة للمؤسسة العسكرية والأمنية.

 

المرحلة الثالثة 2021

هي المرحلة المستجدة في النهج التركي على المستوى الإقليمي والدولي. ومن خلالها، تحاول أنقرة في ضوء المتغيرات الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعانيها حالياً - والمترافقة مع شبه عزلة دولية عانتها خلال السنوات الأخيرة - أن تهدئ التوترات المحيطة بها، ولو مرحلياً، وخصوصاً في ما يتعلّق بعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي ودول شرق المتوسط والولايات المتحدة الأميركية.

يمكن اعتبار العام الجاري عاماً تستكين فيه التوجّهات التوسعية والتصعيدية التركية في كل ميادين انخراطها الإقليمي والدولي، ما بين تصريحات تركية لافتة حول التعاون مع مصر، تم تعزيزها بأول مباحثات مباشرة بين الجانبين، وكذا مباحثات حول شرق المتوسط مع اليونان، واحتمالات قوية لتحسين العلاقات مع الخليج العربي و"إسرائيل" والاتحاد الأوروبي.

هذا لا يعني بالضّرورة أن أنقرة ستتخلّى عن نفوذها أو مكتسباتها التي أنفقت فيها أموالاً طائلة، وجيّشت وحدات عسكرية كبيرة وآلاف المرتزقة، لكن يبدو مستقبل العلاقات بين أنقرة وطهران،  وبين أنقرة وواشنطن، هو الملفّ الأهم أمام صانع القرار التركي في الأشهر المقبلة، فواشنطن التي تتعامل بتجاهل وجفاء لافت مع أنقرة منذ ما قبل تولى الإدارة الأميركية الجديدة، لا تبدو منفتحة على تحسين العلاقة مع تركيا، وتلوّح حالياً بفرض عقوبات عسكرية جديدة على أنقرة، ناهيك بفتح الحزب الديمقراطي لملف حقوق الإنسان في تركيا، وهو ملف سيمثل نقطة ارتكاز أميركية لشنّ حملة من الضغوط على أنقرة.

أما طهران التي كانت على مدار السنوات الماضية على توافق تام مع أنقرة، كانت له أوجه عديدة، من بينها تطابق استراتيجيتهما حيال الوضع الكردي في العراق وسوريا، وكذا الدعم الاقتصادي الذي قدمته أنقرة لطهران خلال فترة فرض إدارة ترامب للعقوبات عليها، فقد وجدت نفسها أمام توتر مفاجئ شاب هذه العلاقات، على خلفية الدور التركي في أزمة ناغورنو كاراباخ، وتلميحات الرئيس التركي بخصوص منطقة "أذربيجان الشمالية". 

كان الغضب الإيراني واضحاً من هذا التوجه، إلا أنَّ من المرجح أن تستمر العلاقات بين الجانبين بشكلها الحالي، نظراً إلى تمكّنهما من إدارة الاختلافات السابقة بينهما، وعلى رأسها الاختلافات الجذرية في توجّهاتهما في ما يتعلّق بالملف السوري.

انعكست هذه المراحل السالف ذكرها بدرجات متفاوتة على علاقات أنقرة مع الأطراف الفاعلة في المسرح الدولي (الولايات المتحدة الأميركية - روسيا - الصين - الاتحاد الأوروبي)، وكذلك علاقاتها مع حلفائها الأساسيين على المستوى الاستراتيجي (مكونات الإسلام السياسي - قطر)، وأسلوبها في إدارة انخراطها في النقاط الاستراتيجية الأساسية إقليمياً، وخصوصاً ليبيا وشرق المتوسط.

 

التحالف التركي مع قطر وجماعات الإسلام السياسي

وجدت أنقرة في دولة قطر الحليف المثالي على المستوى الإقليمي، نظراً إلى ما تتمتع به هذه الدولة الخليجية من مقومات مالية ضخمة، وهو ما أتاح لها قدراً من السيطرة والتأثير في عدد من فصائل الإسلام السياسي وأجنحتها المسلحة. التوجهات التركية نحو قطر بدأت بمجرد تمكّن حزب "العدالة والتنمية" من الحصول على أغلبية برلمانية مريحة في العام 2002.

منذ ذلك التوقيت، أصبحت العلاقة بين البلدين تحالفية بصورة مباشرة وواضحة. على سبيل المثال، عقد الجانبان خلال العقد الأول من حكم حزب "العدالة والتنمية" أكثر من 70 اجتماعاً عالي المستوى، ناهيك بأن الدوحة كانت الوجهة الأكثر تفضيلاً من جانب رئيس الوزراء آنذاك إردوغان، وظلَّ هذا الوضع مستمراً بعد توليه رئاسة الجمهورية التركية في العام 2014.

خضع التقارب بين الجانبين خلال الفترة الماضية لعدة محددات رئيسية، أهمها تشاركهما وجهة النظر المتعلقة بالإسلام السياسي، والتي حددت توجهاتهما الإقليمية النابعة من التزاماتهما الإيدلوجية تجاه التوجهات الإسلامية الراديكالية والأصولية. 

وقد اتّسع قوس التقارب بينهما ليشمل كل مجالات التعاون، وخصوصاً المجالات الاقتصادية والدفاعية والإعلامية، إلى جانب قطاع الطاقة. هذا التحالف شكل تحدياً أساسياً للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، لأنَّ هذا التحالف لم تقتصر أدواته على الأوجه الشرعية المعلنة للتعاون بين الدول، بل تعداه إلى الدعم المالي واللوجستي للفصائل الإسلامية التوجه في الخارج.

التدخّل التركي السّريع (خلال 48 ساعة) في حزيران/يونيو 2017، لإنقاذ قطر من تداعيات قرار المقاطعة وإيقاف التواصل بين دول الرباعي العربي (المملكة السعودية - الإمارات المتحدة - مصر - المملكة البحرينية)، ومن أهمّها النقص الحادّ في السلع الغذائية في الأسواق القطرية، كان من أهم دلائل قوة العلاقة ومتانتها بين الدوحة وإسطنبول، والتي تعود جذورها الأولى إلى بداية العلاقات الدبلوماسية بينهما قبل 50 عاماً.

كان الجسر الجوي الغذائي التركي إلى الدوحة هو المظهر الأكثر بروزاً على المستوى الإعلامي بين الجانبين، لكن هناك العديد من جوانب التعاون بين البلدين، والتي وصلت درجة تقدّمها إلى حد التحالف التام بينهما وتطابق مواقفهما من القضايا الإقليمية، والأهم من ذلك التحرك في سياقات هذه القضايا باستراتيجية موحدة ومتكاملة.

 

التهدئة في ليبيا

كان الميدان الليبي من أوائل الميادين التي شهدت بدء الصراع بين محور قطر - تركيا من جانب، ومحور مقابل شمل عدة دول عربية رئيسية في المنطقة، مثل مصر والإمارات العربية المتحدة. بدأت تركيا منذ العام 2014، من خلال الأموال القطرية وصلاتها بمكونات الإسلام السياسي والميليشيات المسلحة في الغرب الليبي، بدعم الكيانات التي تمثل الإسلام السياسي في ليبيا، وتحديداً الفصائل ذات الصبغة الإخوانية، مثل تحالف "فجر ليبيا"، وهو تجمّع من عشرات الميليشيات المسلحة تتصدّره جماعة الإخوان.

وبحسب خبراء الأمم المتحدة، زوّدت شركات تركيّة قوات هذا التحالف بالسلاح والذخائر، ضمن عملية تسليح كبرى قامت بها قطر في الملف الليبي منذ العام 2011. شمل هذا الدعم أسلحة وذخائر وخبراء فنيين للتدريب والصيانة، ناهيك بطلعات مستمرة لطائرات النقل القطرية إلى مطارات غربي ليبيا.

تتبّعت تركيا خطى الدوحة في ليبيا، فطورت بشكل كبير دعمها حكومة الوفاق الوطني المتواجدة في طرابلس، والتي تضمّ بين ثناياها مكونات الإسلام السياسي في ليبيا. وكانت التحركات التركية في ليبيا مؤسسة على عدة أهداف، منها إيجاد موطئ قدم لها على المستوى العسكري في هذه المنطقة الحيوية من الساحل الأفريقي، يخدم توجهاتها في منطقة شرق المتوسط، وهو ما تم بشكل أو بآخر من خلال الاتفاقية الأمنية والعسكرية التي عقدتها أنقرة مع حكومة الوفاق في طرابلس في العام 2019، وكذا تدفق الدعم التسليحي من جانب تركيا على الميليشيات التابعة لهذه الحكومة، واستغلال أنقرة لتأثير في الميليشيات السورية المتواجدة في نطاق شمال سوريا وشمال شرقها، في إقناعها بإرسال آلاف المقاتلين إلى ليبيا، لدعم قوات حكومة الوفاق التي تلقت أيضاً الدعم اللوجستي والتدريبي التركي، وصولاً إلى تمركز دائم لعناصر من القوات المسلحة التركية، واستخدام الطائرات من دون طيار وطائرات النقل التركية للمطارات الليبية، وتدشين قاعدة جوية تركية في مطار "الوطية" غربي البلاد، والسعي لإقامة قاعدة بحرية تركية في أحد موانئ الغرب الليبي.

أرادت تركيا من خلال هذا الوضع دعم تموضعها الحالي شرقي المتوسط، وذلك تحسباً لدخولها في مواجهة ميدانية مع دول أخرى مهمة في هذا النطاق. يلاحظ هنا أن الاشتباك التركي مع كل من فرنسا والإمارات العربية المتحدة ومصر على الأراضي الليبية تم التراجع عنه من جانب أنقرة أواخر العام الماضي، في إطار السياسة التركية الجديدة السالف ذكرها، والتي تركز على التهدئة ومحاولة حلحلة الخلافات القائمة مع دول الإقليم، لكن من الواضح أنّ أنقرة لن تتخلّى بسهولة عن مكتسباتها الحالية في ليبيا.

 

التّهدئة في شرق المتوسّط

كانت المواجهة بين تركيا وكلّ من أوروبا والولايات المتحدة ودول شرق المتوسط الأكبر والأكثر استمرارية حتى الآن، إذ حملت عدة عناوين، منها ما يتعلق بالنزاع حول الجروف القارية مع اليونان وقبرص ومصر و"إسرائيل"، ومنها ما يتعلق بورقة اللاجئين التي استخدمتها تركيا ضد أوروبا، ومنها ما يتعلق بالمواجهة مع فرنسا على خلفية الملف الليبي والملف اليوناني، وكذا الخلاف القديم المتجدد مع الولايات المتحدة حول قبرص، والَّذي تعزّز بسبب شراء أنقرة منظومات "إس-400" الصاروخية الروسية.

في المرحلة الثانية من مراحل السياسة التركية الخارجية، كان الأداء التركي في ما يتعلق بملف شرق المتوسط هجومياً، وتضمن عمليات مستمرة للتنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية لكل من قبرص واليونان، واتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، و"تحرشات" عسكرية مستمرة باليونان، ومواجهة بحرية محدودة مع فرنسا، مع تكبيل أيدي الاتحاد الأوروبي، نتيجة ورقة المهاجرين الذين أطلقتهم تركيا في اتجاه الأراضي الأوروبية مطلع العام الماضي.

هذه التوجهات الصدامية كانت تأمل أنقرة من خلالها أن تنتزع تنازلات من كل دول شرق المتوسط، وتجبرهم على التحاور معها بشأن مستقبل هذه المنطقة الواعدة، لكن ما حدث هو العكس تماماً، فقد تزايدت عزلة أنقرة بشكل أكبر، وخصوصاً بعد تشكيل "منتدى غاز شرق المتوسط"، وكذا ترسيم الحدود البحرية بين مصر من جهة، واليونان وقبرص من جهة أخرى، واتفاق كل من اليونان وقبرص و"إسرائيل" على إنشاء خط أنابيب الغاز "إيست ميد". وقد تسببت السياسات التركية التصعيدية تجاه اليونان وفرنسا بإجبار أوروبا على اتخاذ خطوات عقابية حيال تركيا، تم من خلالها تعزيز القرارات الأوروبية السابقة بحظر التسليح عن أنقرة، على خلفية تدخلها العسكري في شمال سوريا.

الولايات المتحدة التي توترت علاقاتها خلال السنوات الأخيرة مع أنقرة، على خلفية اعتقالها القس أندرو برانسون في العام 2018، والعملية التركية في سوريا في العام 2019، المسماة "نبع السلام"، وشراء أنقرة منظومات الدفاع الجوي الروسية، ردت على النهج التركي التصعيدي عبر سلسلة من العقوبات التي طالت القطاع العسكري التركي وبعض الشخصيات السياسية التركية، وكذا رفع واشنطن لحظر التسليح الذي كان مفروضاً على قبرص اليونانية، وتفعيل التعاون الأميركي العسكري مع اليونان، وهذا ما فعلته فرنسا أيضاً.

على الرغم من عدم اتخاذ الاتحاد الأوروبي خطوات تصعيدية عالية المستوى ضد أنقرة، فإنه قام بإجراءات للضغط على أنقرة، مثل اقتطاع 145.8 مليون دولار من مبالغ تابعة لصناديق أوروبية كان من المفترض أن تمنح لتركيا خلال العام 2020، وذلك رداً على عمليات التنقيب التركية في المياه الاقتصادية القبرصية، وكذا فرض عقوبات على المسؤولين عن عمليات التنقيب عن الغاز في هذه المنطقة.

نتيجة لتكتّل هذه الخطوات ضدّ أنقرة، لوحظ خلال الأشهر الأخيرة أنها شرعت في سلسلة من الإجراءات التي تستهدف خفض التوتر في شرق المتوسط، فبعد أن أصرت مراراً على أنها لن تتفاوض مع اليونان بشأن المياه الاقتصادية، اضطرت في النهاية إلى عقد جولة من المباحثات مع أثينا برعاية أوروبية، تضمنت تصريحات تشير إلى رغبة أنقرة في أن تكون شريكة لدول شرق المتوسط في إدارة الثروة الغازية في هذه المنطقة.

كذلك، أعربت أنقرة عن استمرار رغبتها في دخول الاتحاد الأوروبي، وأعادت تفعيل الاتصالات معه بعد فترة من الجمود، وبدأت أيضاً بإعادة التواصل مع فرنسا من أجل تحسين العلاقات معها، بعد فترة من التوتر شابتها محاولة تركية للإضرار بفرنسا اقتصادياً، عن طريق الترويج لحملة واسعة لمقاطعة المنتجات الفرنسية، كانت تستهدف من خلالها أنقرة تسديد ضربة لباريس، رداً على مواقفها المؤيدة لمصر من جهة، ومن جهة أخرى، تخفيف التأثيرات الاقتصادية الناجمة عن حملة مقاطعة المنتجات التركية في الخليج العربي.

التوجّهات التركية للتهدئة شملت أيضاً تصريحات إيجابية تجاه دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان وطدتا في الآونة الأخيرة علاقاتهما مع اليونان على المستويات كافة. الأمر نفسه قامت به تركيا في ما يتعلق بـ"إسرائيل"، فقد أعادت تفعيل العلاقات معها، وذلك بهدف إيجاد موقع في الخطط الإسرائيلية المتعلقة بشرق المتوسط، وكذا استخدام العلاقة مع تل أبيب كوسيلة لتحسين العلاقات مع واشنطن، وهي العلاقات التي يبدو أنها ستواجه مزيداً من التعقيدات، رغم محاولة أنقرة الإيحاء بإمكانية عدم تفعيلها منظومات الدفاع الجوي الروسية بشكل كامل، نظراً إلى أن التوجهات الأميركية الجديدة تؤشر إلى أنها سوف تقلّص هامش حرية الحركة الممنوح لتركيا على المستوى الإقليمي، وستزيد دعمها لعدد من الأطراف المعارضة لأنقرة، مثل المكونات الكردية في سوريا وكلّ من قبرص واليونان.