عملية تجميل سياسية.. الجولاني "نيو لوك"

ظهور زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني بهيئة مختلفة والكلام عن عدم تشكيل تنظيمه أي خطر على الغرب يثير الكثير من التساؤلات. أي معانٍ لهذا الظهور؟ وما مستقبل التنظيم وزعيمه؟

  • بعيد اشتعال الحرب في سوريا بأشهر قليلة ظهر تنظيم جبهة
    بعيد اشتعال الحرب في سوريا بأشهر قليلة ظهر تنظيم جبهة "النصرة" إلى واجهة الأحداث.

أحجية جديدة من أحجيات الحرب السورية الطويلة تتكشّف اليوم بعد نحو 10 سنوات من الغموض الذي لطالما غلّف تجربة التنظيمات المرتبطة بتنظيم "القاعدة" وعلاقاتها ومصادر تمويلها والأدوار التي رسمتها لنفسها أو تلك التي رُسمت لها.

غالباً ما تكشف الحروب الطويلة، كالحرب التي خيضت ضد سوريا، عن مفاجآت من العيار الثقيل، لكن العادة أن تُكشف المعطيات الأمنية المرتبطة بحرب ما بعد مرور سنواتٍ طويلة على تلك الحرب، أي بعد توقف إمكانية تأثير هذا الكشف في مجريات الأمور في البلد الذي شهد المواجهات.

أما اليوم، فإن المعطيات المتراكمة حول ارتباط "جبهة النصرة" أو ما بات يعرف في السنوات القليلة الماضية بـ"هيئة تحرير الشام" بالمشروع الكبير ضد سوريا، والذي شاركت فيه مروحة واسعة جداً من الدول والمنظمات بإدارة من الولايات المتحدة الأميركية، تبدو معطيات متزايدة وشديدة الأهمية.

 

رجل سياسة "لم يشكل يوماً تهديداً للغرب"

في مطلع شهر شباط/فبراير الفائت، استقبل زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني في إدلب مراسل صحيفة "فرونت لاين" الأميركية مارتن سميث، ليكشف له عن جولاني جديد. نسخة سياسية ناعمة للزعيم الجهادي الذي نفّذت تحت أوامره آلاف عمليات القتل الجماعي والفردي أينما استطاع إلى ذلك سبيلاً. 

رجلٌ شاب ببذة رسمية غربية التصميم، بعيداً من الألبسة الشرعية الفضفاضة التي درج أقرانه على ارتدائها. إنها صورة الجولاني رجل السياسة المختلفة تماماً عن الجولاني الميداني، لكن لم تكن الهيئة الخارجية فقط ما فاجأ متابعي الحدث، بل أكثر من ذلك بما لا يقاس، إذ كان تأكيده أنه وتنظيمه لم يشكلا يوماً تهديداً للغرب هو المفاجأة الكبرى التي توضح الكثير من أهداف مشروع "النصرة" منذ انطلاقتها وسيطرتها على أجزاء كبيرة من سوريا، ومحاربتها الدولة السورية والأطراف الأخرى على الأرض، تمهيداً لمشروع سياسي يبدو أنه كان مرسوماً وموقوتاً لاستثماره في لحظة التسويات السياسية. 

اعترف الجولاني بأنه لم يشكّل يوماً تهديداً للغرب، وأنه لم يكنّ العداء لأميركا والأوروبيين، كما زعم دائماً. المرحلة الجديدة وحاجة الأميركيين إلى أوراق رابحة جديد في هذه المرحلة ربما حتمت كشف وجه الارتباط الذي يجمع مشروعها في سوريا مع مشروع الهيئة التي يتزعمها الجولاني. الصحيفة نفسها قالت إن هذه التصريحات تسعى إلى حصد قبول أوسع لمشروعه. 

المقابلة التي أجريت في الأول من شباط/فبراير الفائت لم تنشر في حينها، بل نشرت مؤخراً، لتتضمن طلب الجولاني من الغرب إزالة تنظيمه عن لوائح الإرهاب، وخصوصاً اللائحة الأميركية التي أضافت اسمه في العام 2012، ورصدت في العام التالي مكافأة بقيمة 10 ملايين دولار أميركي، في مقابل أية معلومات تؤدي إلى اعتقاله.

وقد عزّز الجولاني مطلبه هذا بالتذكير بدوره الرئيس في محاربة الجيش السّوري. قالها بالفم الملآن، واستفاض بعباراتٍ شديدة الوضوح عن "دوره في محاربة الأسد وتنظيم "داعش"، وفي السيطرة على منطقة يعيش فيها ملايين النازحين السوريين الذين من المحتمل أن يصبحوا لاجئين، "بما يعكس المصالح المشتركة مع الولايات المتحدة والغرب".

ومن تلاوة الاعترافات إلى تبيان المشتركات مع الغرب، حسم الجولاني عدم إمكانية استغلال مناطق سيطرته لتنفيذ أي "جهادٍ أجنبي" ضد الغرب، بل ذهب بعيداً بالقول إن تصنيف منظمته إرهابيةً هو تصنيف "غير عادل وسياسي". هذه المنظمة التي بدأت تحت اسم جبهة "النصرة"، وأعلنت ولاءها لتنظيم "القاعدة" ومبايعتها لأميره، تنفي اليوم أي صلة به، بل تطمح لإعلان صلتها بالغرب، وتعلن عن نيتها منح منظمات حقوق الإنسان حقّ الوصول إلى سجونها.

لمَ لا! إنها لحظة تحولات في المنطقة. دول عربية تهرول لتوقيع اتفاقيات تحالف مع الكيان الإسرائيلي. إنها مرحلة كشف الوجوه والأدوار والأوراق، والجولاني جاهز ليأخذ مقعده على طاولة المفاوضات بعد أداء فروض الطاعة العلنية للدول الغربية التي بات يعلن جهاراً أن له معها "مصالح مشتركة". 

في المقلب الآخر، تلاقي الدبلوماسية الأميركية يد الجولاني الممدودة بصورة علنية، ويكشف جيمس جيفري، الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في كل من الإدارات الجمهورية والديمقراطية، ومؤخراً كممثل خاص للمشاركة في سوريا ومبعوثاً خاصاً "للتحالف الدولي لمحاربة داعش" خلال إدارة ترامب، إنه أخبر سميث أن منظمة الجولاني كانت "رصيداً لاستراتيجية أميركا في إدلب"، وفق صحيفة "فرونت لاين".

لقد قال في مقابلة معه في 8 آذار/مارس: "إنها (هيئة تحرير الشام) الخيار الأقل سوءاً من بين الخيارات المختلفة بشأن إدلب، التي تعد من أهم الأماكن في سوريا، ومن أهم الأماكن في الشرق الأوسط حالياً".

 

مسار هيئة "نحرير الشام" وأدوارها السابقة

بعيد اشتعال الحرب في سوريا بأشهر قليلة، ظهر تنظيم جبهة "النصرة" إلى واجهة الأحداث، بوجهه العنيف وارتباطاته المخيفة الوقع على الشعب السوري، الذي أدرك بسرعة أن خبر دخول منظمة مرتبطة بـ"القاعدة" على مسار الأحداث في بلاده سيكون باباً للجحيم.

تأسس التنظيم في البداية تحت عنوان "جبهة النصرة لأهل الشام سابقاً" أواخر العام 2011، وأعلن الجولاني نفسه في مطلع العام 2012 عن التنظيم، وتبنى التوجه السلفي الجهادي على المستوى العقائدي، داعياً السوريين إلى الجهاد وحمل السلاح ضد دولتهم. وسريعاً، ضربت الجبهة بعملية انتحارية منطقة كفرسوسة في العاصمة السورية دمشق، لتظهر أسلوبها الدموي الذي زاد من عنف الأحداث.

لكن اللافت في بيان تأسيس جبهة "النصرة"، وصفه الدعوات التي خرجت يومها للاستعانة بالغرب من أجل إسقاط النظام بأنها دعواتٌ ضالة وشاذة "وجريمة كُبرى ومُصيبة عُظمى لا يغفِرُها الله، ولن يرحم أصحابَها التاريخُ أبدَ الدهر".

إن استخدام المنهج المقارن في مقابلة مواقف "النصرة" يومها مع مواقف الجولاني اليوم يؤدي إلى استنتاج أساس، وهو أن مصلحة التوسع شعبياً في تلك اللحظة كانت بالتعبير عن رفض التعاون مع الدول الغربية، واستغلال أكبر شريحة ممكنة من "أهل الشام" كما عبر بيان تأسيس النصرة، من أجل الإمساك بالأرض، بينما موقف الجولاني اليوم من "المصالح المشتركة مع الغرب في إدلب"، واعترافه بأن تنظيمه لم يكن يوماً معادياً للغرب، يوضحان حقيقة المشروع الذي أتى به إلى سوريا، ورهانه على مستقبلٍ سياسي له بدعم القوى الخارجية التي ادعى يوماً أن الاستعانة بها مصيبة عظمى.

وسريعاً بعد ذلك، استمرت "النصرة" بقضم فصائل "الجيش الحر"، وتحالفت مع فصائل إسلامية، من مثل "أحرار الشام"، ونفذت معها عمليات مشتركة. وكانت تنفذ أعمالاً ميدانية مريبة، إذ قامت بخطف عشرات الراهبات المسيحيات من بلدة معلولا في القلمون، والعشرات من قوة الأمم المتحدة العاملة في الجولان السوري المحتل من الجنسية الفيجية، وعناصر عسكريين لبنانيين.

ومع دخول حلفاء سوريا الحرب إلى جانبها، ودخول الجيش الروسي جوياً بدءاً من العام 2015، وتحرير مدينة حلب، دخلت البلاد في تطورات جديدة، وتغير الأفق المستقبلي، من المراهنة على سقوط النظام إلى ترقب استعادته السيطرة على المدن الواحدة تلو الأخرى.

ومع اقتناع الغرب بصورة متصاعدة بعدم جدوى المراهنة على إسقاط النظام، شهد موقف الجولاني وتنظيمه تحولاً أساسياً في مسيرته، عندما أعلن في العام 2016 عن فك الارتباط مع "القاعدة"، وتغيير الاسم إلى "جبهة فتح الشام"، وكانت تلك المرة الأولى التي يظهر فيها وجه الجولاني في تصريح مصور، زعم خلاله أن فك الارتباط جاء تلبية لرغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي، موضحاً أن هذه الخطوة تهدف إلى تحقيق 5 أهداف، هي "العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه، وتحقيق العدل بين كل الناس، والتوحد مع الفصائل المعارضة لرصّ صفوف المجاهدين، وتحرير أرض الشام، والقضاء على النظام وأعوانه".

إذاً، كانت خطوة تأسيسية هدفها إرضاء من؟ 

كانت تهدف إلى إرضاء المجتمع الدولي، الذي بدأ في ذلك الوقت البحث عن أوراق قوة في مواجهة روسيا وإيران والدولة السورية، الذين كانوا يستعيدون على الأرض المدن والقوى الواحدة تلو الأخرى، في مقابل انفراط عقد الجماعات المسلحة التي راهن عليها الغرب بصورةٍ علنية. ومع تقهقر هذه الجماعات، وثبوت هدر الأموال التي أنفقت عليها، بدأ تنفيذ أول عملية تجميل لجبهة "النصرة"، لتحضيرها كي تكون لاعباً سياسياً في مستقبل سوريا، من خلال فصلها عن "القاعدة"؛ صاحبة السمعة السيئة.

عملية التجميل هذه تستدعي إلى الذاكرة عملية تجميل أخرى مارسها الغرب وانتهت بصورةٍ مخيبة لآماله، وذلك عندما ضخ الإعلام الغربي مواد إعلامية وثقافية غزيرة لتلميع صورة "الخوذات البيض" على أنها منظمة إنسانية تخاطر بأعضائها لتنقذ المدنيين الذين يتعرضون للقصف، وأن على من يشاهد هذه الخوذات أن تدمع عينه لفرط التأثر بتضحياتها.

 لم تمر أشهر كثيرة قبل أن تتكشف ارتباطات المنظمة، ليتم العثور في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 على أحد أبرز مؤسسيها، الضابط السابق في المخابرات البريطانية جيمس لو ميسورييه، ميتاً في إسطنبول بصورة مريبة. تساؤلات كثيرة طرحت حول المنظمة، لكن انتهاء دورها وانكشافها كمنظمة أبرز أعضائها من مسلحي الجماعات الإرهابية العاملة في سوريا، جعل منها شيئاً مضى وورقة محروقة لا تصلح للمستقبل.

كل حفلات التلميع للمنظمة لم تفلح في محو ما تكشف عنها، إذ كشفت صحيفة "دي فولكسكرانت" الهولندية عن اعتراف لوميسورييه نفسه باختلاسه أموالاً مخصصة لها، فضلاً عن الرواتب الخيالية له ولزوجته ولمسؤول ثالث، وذلك قبل ثلاثة أيام فقط من موته في إسطنبول.

قبل ذلك، كانت المنظمة نجمة التبجيل في المحافل الدولية، وبطلة إنقاذ المدنيين من الركام في سوريا، وتم ترشيحها مرتين لجائزة نوبل للسلام، لكن كل ذلك انتهى بتكشف الحقائق.

 

الدور المريب منذ البدايات 

في شباط/فبراير 2013، أشارت تحذيرات غربية إلى تنامي التوجه الجهادي داخل المجموعات المسلحة المعارضة في سوريا. يومها، صرح وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ بأن سوريا باتت الوجهة العالمية الأولى للجهاديين. وقد أزعج هذا الإعلان المعارضة السورية، باعتباره تسويقاً علنياً لتلك الجماعات، وصك شرعية لوجودها الميداني، ومسوغاً لعدم الاعتماد على المعارضة في معركة إسقاط النظام، والاستعاضة عن ذلك بدعم خفي للجماعات المتطرفة. 

لم تكن تلك التصريحات تصدر عن بريطانيا وحدها، بل إن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون ووزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس سبقاه إليها، بالتزامن مع حملة إعلامية غربية واسعة تتحدث عن أن "النصرة" هي الفصيل الأكثر قوة على الأرض.

 يومها، نشرت جريدة "التليغراف" موضوعاً تحت عنوان "كيف تستولي جماعة جبهة النصرة الجهادية على الثورة السورية؟"، قائلةً: "هناك صراع آخر خلف الصراع الدائر بين المعارضة والنظام، وهو صراع الإيديولوجيات، إذ تقوم كل مجموعة بالتمهيد لفكرها حتى يكون في طليعة المشهد السوري بعد انهيار نظام الأسد".

قبل ذلك بعامٍ تقريباً، تحدث مقال آخر في مجلة "تايمز" عن إعجاب "الثوار" بمقاتلي "جبهة النصرة"، قائلاً: "إنهم معجبون بالنصرة بشدة ويعملون معها عن قرب". ينقل مراسل المجلة عن أحد المتحدثين باسم "الثوار" القول إن "جبهة النصرة تحمي السوريين، بينما لا تفعل الولايات المتحدة شيئاً بهذا الخصوص". لقد شكل ذلك بداية تلميع صورة الجولاني ومنظمته. واليوم، وصل إلى مرحلة الإعلان عن نفسه كرجل سياسة، لا "رجل جهاد".

في آذار/مارس 2012، اعترف السفير الأميركي السابق لدى سوريا روبرت فورد "بأن بعض الأسلحة الأميركية وقعت بين أيدي المتطرفين من تنظيم القاعدة"، كما اعترف "بوجود تنسيق بين "الجيش السوري الحر" و"جبهة النصرة" في العمليات المشتركة ضد القوات الحكومية السورية".

واليوم، ترك الجولاني البندقية في مقابلته لأول مرة، وارتدى اللباس "السياسي". وقد نشر موقع "المونيتور" الأميركي مقالاً عن الجدل الذي أثاره ظهوره، مستشهداً بكلام إعلامي وناشطين في إدلب يبررون ظهوره ويشيدون بما اعتبروه إنجازاته العسكرية والسياسية ومحاولته الانفتاح والترويج لصورة منفتحة ومعتدلة في الأوساط الدولية. على الأقل هذا ما يأملونه.