روسيا وأوروبا: خوف ومصالح
المخاوف المتبادلة ما تزال تسكن العلاقات المشتركة بين روسيا وأوروبا الغربية، ومن خلف الأخيرة واشنطن، تخرقها جهود ألمانية - روسية لتعميق العلاقات على أساس مصالح اقتصادية وسياسية.
مع الأسابيع الأولى لاستلام جو بايدن مكتبه في البيت الأبيض، عادت السياسة الخارجية الأميركية إلى تقاليدها المتبعة في أيام رئاسة الديمقراطيين، وتحديداً مرحلة باراك أوباما؛ تقاليد تضع روسيا مع الصين في قمة تصورات واشنطن لمصادر التهديد لأمنها القومي ودورها العالمي، فبعد تركيز الرئيس السابق دونالد ترامب على الخطر الصيني كمصدر رئيس للتهديد ضد بلاده، والاتهامات التي لطالما تعرض لها بمحاباة روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، تقود السياسة الخارجية الأميركية اليوم إلى تصويب الجهود على محاولة الحد من عودة روسيا إلى الساحة العالمية كقطبٍ فاعل وكبير.
إلى جانب ذلك، وارتباطاً به أيضاً، تشهد العلاقات الروسية الأوروبية ارتفاعاً في منسوب توترها. ذروة التوترات تشهدها العلاقة مع بريطانيا، أكثر الدول الأوروبية تناغماً مع سياسات واشنطن حيال روسيا، ثم بقية الدول الأوروبية الأخرى، مع بقاء مؤشرات إيجابية عديدة تمثل قدرة روسيا على اختراق المشهد الأوروبي على المستويين الرسمي والخاص، وخصوصاً من خلال قطاع الطاقة القادر على مدّ جسور إلى موسكو داخل القارة العجوز.
"تجمّد" العلاقات مع بريطانيا
مطلع الشهر الحالي، وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف علاقات بلاده مع بريطانيا بأنَّها "وصلت إلى درجة التجمد"، معيداً ذلك إلى اتّباع الأخيرة مساراً مناهضاً لروسيا خلال السنوات الماضية، مصحوباً بزيادة مستمرّة في ضغوط العقوبات.
وعلى الرغم من خروجها من الاتحاد الأوروبي وحاجتها إلى تطوير علاقاتها بالدول الأخرى خارج الاتحاد، بعيداً من التوترات التي تركها مسار الخروج، تستمرّ لندن في سياستها المناهضة لموسكو، ولا توفر مناسبةً لتوجيه اللوم إليها بخصوص قضايا تتعلق بالاهتمامات المشتركة بينها وبين أوروبا، ولا سيما قضايا الأمن الأوروبي ودور روسيا في الشرق الأوسط.
وقبل ذلك كله، تنتقد لندن موسكو في المحافل الدولية في مسائل حقوق الإنسان، وتتهمها بتسميم معارضي الرئيس فلاديمير بوتين ومحاولة قتلهم، وخصوصاً بعد سجن المعارض أليكسي نافالني عقب عودته إلى البلاد. كل هذا المسار من التوتر البريطاني إزاء روسيا لا تجد فيه الأخيرة مبرراً على الإطلاق، الأمر الَّذي أدى إلى تصدّع الثقة بين الجانبين ووصول العلاقات إلى نقطة التجمد، على حد تعبير وزير الخارجية الروسي.
وعلى الرغم من ذلك، ما تزال موسكو تحافظ على آمال تطوير العلاقات الثنائية، انطلاقاً من حاجة سياستها الخارجية إلى ذلك من ناحية، والحاجة المقابلة لدى لندن لتطوير علاقاتها مع شركاء جدد بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي من ناحيةٍ ثانية، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي.
ولطالما شهدت العلاقات بين روسيا ودول أوروبا الغربية توترات مزمنة تعود في تاريخها الحديث إلى مرحلة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحوّل توازنات العلاقات الدولية من الصراع مع الفاشية إلى الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. موسكو تتهم الدول الغربية بأنها تابعة في سياستها الخارجية للولايات المتحدة في تصويبها المستمر على روسيا وريثة الاتحاد. في المقابل، تدفع الدول الغربية بصورةٍ شاملة بخطاب يمزج بين المصلحة والقيم السياسية، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وتتهم روسيا بأنها متأخرة في هذا المجال، وأنها ما تزال تحتكم إلى نظامٍ قمعي شديد الإطباق على مقاليد البلاد.
وعلى هذا الأساس، يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على موسكو، وخصوصاً منذ استعادتها شبه جزيرة القرم وضمّها إلى البلاد قبل سنوات، يتمّ تمديدها كلّ 6 أشهر (آخر تمديد صالح لغاية 31 تموز/يوليو 2021). ولم تصل العلاقة بين الجانبين إلى المواجهة المباشرة الحادّة طوال العقود الماضية، لكنَّها أوشكت على ذلك في مرّات عديدة.
احتمالات لسيناريوات سيئة
تتطوَّر الأحداث بين روسيا والغرب في بيئة صعبة تتراكم فيها أحداث موازية بين موسكو وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وفي هذا السياق، كتب القائد السابق للقوات البرية البولندية البرية الجنرال فالدمار سكيبشاك في مجلة "ديفنس 24" عن سيناريو محتمل للحرب بين روسيا وحلف الناتو في مقاطعة كالينينغراد، متحدثاً عن أنَّ أحد "الخيارات المحتملة هو منع نقل وحدات الناتو على الأرض وفي البحر والجو في بلدان البلطيق، وكذلك دعم الجيش الروسي السادس المنتشر وراء حدودها الشرقية".
وفق هذه الرؤية، سوف يحتاج الجيش الروسي السّادس الذي ينسّق عملياته مع أسطول البلطيق من يومين إلى أربعة أيام لاحتلال بلدان البلطيق (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا). وبعد الاستيلاء عليها، يمكن أن تنتقل العمليات الرئيسة إلى الجزء الجنوبي من بحر البلطيق وفي اتجاه الساحل البولندي.
وعلى الرّغم من عدم انعكاس هذه الجهود المحتملة على أرض الواقع بالوضوح ذاته الذي يتحدث عنه العسكريون والخبراء الأكاديميون، فإنها تمثل الشغل الشاغل لهؤلاء، وهم يضعون سيناريوات قتالية كما لو أن الحرب واقعةٌ غداً. وتتركز الاحتمالات التي يضعها هؤلاء الخبراء على إقليم كالينينغراد الروسي الواقع كجيبٍ منفصل عن الأراضي الروسية، وفي قلب الساحل الشرقي لبحر البلطيق بين ليتوانيا وبولندا، لكنهم في الوقت نفسه يدركون أن أية مواجهة هناك لن تكون مقتصرةً على هذه المنطقة، بل إن مجال الحرب الواسعة المدمّرة سيكون مفتوحاً إذا ما وقعت المواجهة.
ورغم أن الدلائل السياسية والميدانية لا ترجّح حدوث ذلك في وقتٍ قريب، فإن حلف شمال الأطلسي سيحتاج، في حال وقوع مواجهة، إلى التحكم بدول البلطيق كخطٍ متقدم في مواجهة موسكو. وتعتبر دول البلطيق أكثر الدول التي تركز واشنطن عليها في اقترابها غير المباشر من موسكو، في استعادةٍ لاستراتيجية الاحتواء التي اعتمدتها مع الاتحاد السوفياتي، وهي في نسختها الجديدة تقوم على اجتذاب الدول إلى الاتحاد الأوروبي والذراع العسكرية للحضارة الغربية، المتمثلة في "الناتو"، لتعميق الفصل بين موسكو وهذه الدول.
تبقى هذه الاحتمالات نظرية إلى حدٍ ما، وهي لزوم الواجب الدفاعي الذي يسكن عقول القادة العسكريين والباحثين الاستراتيجيين، وخصوصاً أنَّ روسيا لن تهاجم دول البلطيق تحت سقف الخطوط الحمر، لتنافسها الجيوسياسي مع النفوذ الأميركي في أوروبا، لكن أية خطوات أميركية مضافة إلى هذه الخطوط قد تغيّر المعطيات، وبالتالي احتمالات المواجهة وسيناريواتها. ففي حالة ضم جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا، ستتعاظم المخاطر، ومعها احتمالات المواجهة المباشرة التي يحاول الجميع تجنّبها.
ألمانيا الأكثر قدرة على التمايز
تبرز ألمانيا كقوّة أوروبية رئيسة بسياستها المتمايزة حيال روسيا والعلاقات معها، فمواقف برلين تحوز الكثير من النقاش الأوروبي، وخصوصاً أن معظم الأوروبيين الآخرين يذهبون بعيداً على الوقع الأميركي في لوم روسيا على ملفات متعلّقة بحقوق الإنسان.
وبصورةٍ متزايدة، تستعيد ألمانيا الشخصية الأوروبية المستقلّة بمعزل عن التوجّهات الأميركية حيال القوى العالمية الأخرى، ومنها روسيا. وإن كانت هذه السياسة لم تكمل مواصفاتها التامة حتى الآن، لكنّها تشهد المزيد من المعطيات التي تتراكم لتشكّل نسقاً خاصّاً في فضاء الالتحاق الأوروبي بواشنطن على المستوى السّياسيّ، وخصوصاً مع تأرجح فرنسا بين رفض الانصياع إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في كلّ توجّهاته، وجهود الرئيس الحالي جو بايدن لاستعادة دفء العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين.
وتجد ألمانيا نفسها متّهمة أوروبياً بالتساهل مع روسيا، وتغليب سياسة التّسويات على أولويات التضامن الأوروبي من ناحية، والتضامن العابر لأطلسي من جهةٍ ثانية، لكن لهذا التمايز الألماني أسبابه السياسية والاقتصادية، وهو إن كان يتمثّل، في جانبه السياسي، في رغبة ألمانيا في الإحساس بفرادتها وقيادتها للقارة العجوز، فإنه في الجانب الاقتصادي يرتبط بالحاجة الماسة إلى مصادر الطاقة من روسيا، وبإمدادات الغاز الطبيعي عبر خط "السيل الشمالي 2"، الذي يكتمل الآن ليمدّ أوروبا عبر ألمانيا بالمزيد من الغاز الروسي اللازم للتدفئة والصناعة واستمرار النمو الاقتصادي في الجزء الغربي من القارة.
تدرك القيادة الألمانية منذ سنوات أهمية انتهاج سياسة أكثر استقلالية عن السياسة الأميركية حيال العلاقات مع موسكو. ورغم أنّ مشروع السّيل الشمالي الجديد أحدث جدلاً واسعاً بينها وبين شركائها الأوروبيين، فإنَّ ذلك لم يمنعها من متابعته حتى نهايته، نظراً إلى عوائده الاقتصادية والحاجة إلى سياقٍ سياسي أكثر هدوءاً مع العملاق الشرقي.
لقد تمسَّكت برلين بهذا المشروع في أحلك الأوقات التي شهدتها العلاقات الأوروبية - الروسية عقب إعادة شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وهو ما كان سبباً أساسياً في توتير العلاقات الألمانية الأميركي في السنوات السابقة. لقد عيّنت روسيا في سياق جهودها لتمتين مشروع السيل الشمالي المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر مستشاراً اقتصادياً للكرملين، وهو الذي أبلى بلاءً حسناً في تعميق العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وإعطائها معاني أكثر اتساعاً من مشروع مد أنابيب غاز، وصولاً إلى إعادة تمتين العلاقة السياسية وفصلها عن التأثر الشديد بسياسة البيت الأبيض تجاه موسكو.
ويحتلّ "السيل الشمالي 2"، الممتد لـ1230 كيلومتراً في مياه بحر البلطيق، اليوم، مكانة مهمة في علاقة الطرفين، فهو، بحسب قناة البث العام في ألمانيا "زد إف"، سيكون قادراً على إرسال 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً إلى 26 مليون منزل أوروبي.
هذا الخطّ ليس مصلحة روسية خالصة فقط، وإن امتلكت شركة "غازبروم" الروسية (الحكومية) 51% من أسهمه، فالألمان والهولنديون والفرنسيون، ومن خلال شركات متعددة، يملكون بقية الحصص، وهو ما يزعج أيضاً أوكرانيا وسياسييها، الذين يرون أن بلادهم تخسر كثيراً في تحول إمدادات الغاز إلى خارج أراضيهم.
لكنَّ استجابة واشنطن لهذه التطورات لا يمكن أن تكون متأخرة، فهي تدرك تماماً حجم الخطر الذي يمكن أن يشكّله تحالف ألماني - روسي من أي نوعٍ كان. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى مسألة بالغة الأهمية، وهي أنَّ العلاقات بين القوى الكبرى لطالما بدأت من ملفات تفصيلية محدودة، وتراكمت لتصل إلى التحالف الشامل الذي أدى إلى نشوء الأحلاف والأحلاف المضادة، فكيف الحال إذا كانت نقطة اللقاء الألمانية - الروسية تكتسب معاني استراتيجية كبيرة في أساسها، ليس أقلّها أمن الطاقة في الجزء الغربي من القارة والأمن الأوروبي العام على مساحة القارة، فضلاً عن فرص تحول التنسيق بخصوصها إلى تنسيق عالمي النطاق ينتقل عمودياً إلى قضايا العالم المشتعلة، وأفقياً من الاقتصاد والطاقة إلى السياسة والتحالفات الدولية الجديدة التي لم تتبلور بحدّة بعد، ولم تستعد بريق التحالفات القديمة التي وضعت العالم على شفير حربٍ عالمية ثالثة في غير مناسبة!
على هذه القاعدة، إنَّ التحالف الألماني - الروسي يمثّل خطاً أحمر لواشنطن. هذا الواقع يزيد خطورة التطورات التي تشهدها مساحة النقاش في دول البلطيق وبولندا، إضافة إلى تلك التي تشهدها مقرات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، واقتراحات العقوبات المتتالية على روسيا، والتي يراد لها أن تزيد حدة التنافر بين موسكو وعواصم الدول الأعضاء في الاتحاد، والجهود التي تبذلها بريطانيا الخارجة حديثاً من الاتحاد، وهي التي تستمرّ دائماً في تحريض دوله ومحاولة توجيهها ضد موسكو.
وبين هذا وذاك، شهدت روسيا تزايداً ملحوظاً في نشاط المعارضة التي تهدف إلى إسقاط بوتين. وإن كان الغرب قد اعتمد على الثورات الملونة في إسقاط الأنظمة المحيطة بروسيا الواحد تلو الآخر، فإن خبراً جديداً برز في الأيام الأخيرة، نشرته صحيفة "نيزافيسيمايا" الروسية، ويحتاج إلى بحث آخر، وعنوانه "الصين تعرض على روسيا محاربة الثورات الملونة معاً".