"إسرائيل" وإثيوبيا … علاقات عسكرية متصاعدة والهدف هو أفريقيا
كانت المساعدات العسكرية هي الأداة الرئيسية التي اقتحمت بها "إسرائيل" الساحة الإثيوبية، وذلك لتحقيق أهداف تتنوع بين الاقتصاد والسياسة والجيوسياسة، حتى أصبحت واحدة من أكبر موردي المساعدات العسكرية إلى إثيوبيا.
في خضم المعارك - المستمرة منذ أواخر العام الماضي - بين القوات الفيدرالية الإثيوبية من جهة وقوات جبهة تحرير شعب تيغراي من جهة أخرى، في إقليم تيغراي المهم أقصى شمال البلاد، مرّ خبر لافت مرور الكرام، ألا وهو تنفيذ وحدات الجيش الإثيوبي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي عملية خاصة لإجلاء 9 إسرائيليين كانوا متواجدين في هذا الإقليم إلى خارج البلاد. ألقى هذا الخبر الضوء على العامل الإسرائيلي المستتر في المعادلة الإثيوبية، والذي أصبح تدريجياً من العوامل الأساسية على المستوى العسكري والاقتصادي في هذه الدولة.
وعلى الرغم من أن الإسرائيليين التسعة كانوا يعملون ضمن شركات إسرائيلية تنفذ مشروعات في مجالي الري والزراعة، فإن طبيعة عمل هذه الشركات، وخصوصاً في ظل تصاعد أزمة ملف سد النهضة، ربما تحمل معاني مهمة في هذا التوقيت، ناهيك بأن الدور الإسرائيلي في دعم أديس أبابا على المستوى العسكري بات متصاعداً بشكل باتت آثاره واضحة في الواقع الحالي للجيش الإثيوبي، سواء على مستوى التسليح أو التدريب.
ستينيات القرن الماضي.. بداية التعاون بين الجانبين
بدأت العلاقات بين الجانبين بشكل فعلي باعتراف أديس أبابا بـ"الدولة" العبرية في العام 1954، وتطورت بشكل أكبر بعد افتتاح تل أبيب سفارة لها في إثيوبيا مطلع الستينيات، حيث نفذت هذه السفارة العديد من عمليات التجسس على البعثات الدبلوماسية العربية، وكذا أنشطة منظمة الوحدة الأفريقية التي كان مقرها يقع في العاصمة الإثيوبية، ناهيك بتمركز بعثة عسكرية إسرائيلية دائمة في إثيوبيا بلغ قوامها قبيل العام 1973 نحو 20 ضابطاً تولوا مهمة التدريس في المعاهد العسكرية الإثيوبية، إلى جانب تدريب بعض الوحدات الخاصة في الجيش والشرطة الإثيوبيين.
هذا الدور ظهر بشكل أوضح من خلال زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي آنذاك الجنرال حاييم بارليف إلى أديس أبابا في العام 1971، إذ تم الإتفاق خلال هذه الزيارة على استمرار تواجد المستشارين الإسرائيليين بهدف دعم الجيش الإثيوبي وحكومة الملك هيلا سيلاسي، في ظل بدء التوترات في إقليم أوجادين الصومالي، وكذا صعود حركات التحرر في أريتريا، وتعدد محاولات الانقلاب على الحكم الملكي.
كانت تل أبيب في هذه المرحلة والمراحل اللاحقة تستهدف تحقيق أهداف استراتيجية أساسية، منها تأكيد التواجد الإسرائيلي في القرن الأفريقي، بما يمثله من نقطة قوة جيو-استراتيجية على البحر الأحمر، تسمح بالاحتفاظ بأوراق تكتيكية للمناورة والتهديد الدائم للخاصرة العربية المهمة في الشمال الأفريقي. يضاف إلى ذلك تحقيق الاستفادة الاقتصادية، من خلال التعاون مع الدول الأفريقية بشكل عام. السمة الأبرز للعلاقات بين إثيوبيا و"إسرائيل" كانت دوماً "السرية".
السبعينيات والثمانينيات… علاقات عسكرية مستمرة رغم القطيعة المعلنة
بحسب كتاب للدبلوماسي الإسرائيلي الشهير آريه عوديد بعنوان "إسرائيل وأفريقيا"، فإن العلاقات بين الجانبين عقب اندلاع حرب العام 1973 ظلت قائمة، وخصوصاً على المستوى العسكري، رغم قرار كل الدول الأفريقية - ومنها إثيوبيا - قطع العلاقات الرسمية مع "الدولة" العبرية.
استمرت هذه العلاقات حتى بعد سقوط حكم الملك هيلا سيلاسي، وتولى المجلس العسكري بقيادة منغستو الحكم في العام 1974، حيث ظلت البعثة العسكرية الإسرائيلية متواجدة في أديس أبابا، وبدأت العلاقات العسكرية بين الجانبين تتركز بشكل كبير على الجانب التسليحي، إذ أمنت "إسرائيل" لسلاح الجو الإثيوبي قطع غيار وذخائر خاصة بمقاتلات "أف-5" الأميركية التي تم تسليمها للإثيوبيين من دون تسليحها الكامل، وهو ما أثر في استخدام سلاح الجو الإثيوبي لها خلال حرب إقليم أوغادين ما بين العامين 1977 و1978، وأدى هذا لاحقاً إلى تبنى إثيوبيا للتسليح الجوي الشرقي في مطلع العام 1981.
في أواخر السبعينيات، حدث توتر إضافي في العلاقات بين الجانبين، حين صرح وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق موشية ديان أن تل أبيب تقدم مساعدات عسكرية وأمنية لإثيوبيا، وهو ما أثار غضب الرئيس الإثيوبي منغستو، الذي كان يريد الحفاظ على هذه العلاقات سرية، تجنباً لغضب الدول الأفريقية والعربية التي كانت تقاطع "إسرائيل" منذ العام 1973.
تصريحات موشيه ديان أدت إلى طرد الوفد العسكري الإسرائيلي من أديس أبابا، لكن رغم ذلك ظلت العلاقات بين الجانبين على المستوى العسكري مستمرة في فترة الثمانينيات، فقد نظم كلا البلدين تدريباً على الاتصالات اللاسلكية في العام 1983.
وفي العام التالي، عاد الوفد العسكري الإسرائيلي المكون من نحو 300 فرد لتدريب وحدات من الجيش الإثيوبي والشرطة، واستقبلت تل أبيب في العام نفسه دفعة من الطيارين الإثيوبيين من أجل تدريبهم على الاشتباك الجوي.
في العام 1984، بدأت عمليات ترحيل يهود الفلاشا من أديس أبابا إلى فلسطين المحتلة. وبموازاة ذلك، تطورت بشكل واضح العلاقات العسكرية بين الجانبين، إذ بدأت أديس أبابا بتلقي مساعدات عسكرية متنوعة من تل أبيب بلغت قيمتها في العام 1985 نحو 20 مليون دولار على شكل ذخائر وأسلحة شرقية المنشأ، صادرها "الجيش" الإسرائيلي خلال غزوه للبنان في العام 1982. وتكررت هذه الشحنات من الأسلحة والذخائر، حتى وصلت قيمتها في العام 1987 إلى نحو 80 مليون دولار.
في أواخر العام 1989، اتفق كلا الجانبين على إعادة العلاقات الدبلوماسية "العلنية" بشكل كامل بينهما، وبدأ مستوى هذه العلاقات يتزايد منذ العام 1990، حيث تلقت أديس أبابا شحنات من الأسلحة الخفيفة والقنابل كمساعدات من تل أبيب، واستمرت عمليات تدريب قوات الجيش الإثيوبي على يد مدربين إسرائيليين، وبدأت تل أبيب بمساعدة سلاح الجو الإثيوبي في المجال التقني وفي مجال صيانة مقاتلاته الاعتراضية، وخصوصاً "ميج -21".
واستمرت العلاقات بين الجانبين على هذا الشكل حتى يومنا هذا، وتم تعزيزها عبر اتفاقيتين؛ الأولى تم توقيعها في العام 1998، ومنحت "إسرائيل" تسهيلات عسكرية واستخباراتية في الأراضي الإثيوبية، والثانية كانت على شكل اتفاق استراتيجي تم توقيعه في أواخر العام 1999.
منح التعاون بين الجانبين إثيوبيا ميزة مهمة تتعلق بتصنيف قواتها المسلحة بشكل عام كثالث أقوى جيش في أفريقيا، رغم التضاؤل المستمر في نسبة الإنفاق العسكري في ميزانيتها العامة، حيث بلغت نحو 0,62% في العام 2019، علماً أن الإنفاق العسكري الإثيوبي سجل أعلى مستوياته على الإطلاق في العام 1990 بنحو 790 مليون دولار، ثم انخفض تدريجياً ليصل في العام 2019 إلى نحو 350 مليون دولار.
يمتلك الجيش الإثيوبي بعض الأسلحة والمنظومات القتالية الإسرائيلية الصنع، منها البندقيات الهجومية "تافور" و"عوزي"، إلى جانب توقيع كلا البلدين في العام 2017 اتفاقاً يمنح إثيوبيا رخصة تصنيع العربات الإسرائيلية المدرعة "ثاندر". وتم بموجب هذا الاتفاق جمع 75 عربة من هذا النوع محلياً، لكن ستسعى "إسرائيل" بشكل حثيث خلال الأشهر المقبلة للدخول على خط الخطط التحديثية المقبلة للجيش الإثيوبي الذي يعاني قصوراً واضحاً في عدة فروع.
مستقبل التعاون بين الجانبين على المستوى التسليحي
يعد الجانب البحري من أهم الجوانب التي ترى تل أبيب أنها من الممكن أن تروج من خلالها لمنتجاتها، سواء في إثيوبيا أو في دول أفريقية أخرى، وخصوصاً أن إثيوبيا لها تجربة مريرة في هذا الصدد، فقد تم تأسيس سلاح البحرية الإثيوبي في العام 1955، وامتلك على مدار تاريخه نحو 40 قطعة بحرية، ولكن، وبسبب تداعيات استقلال إريتريا وفقدان إثيوبيا ساحلها الوحيد، توزعت هذه القطع بين البحرية الإريترية وموانئ اليمن والسعودية وجيبوتي، إلى أن تم حل سلاح البحرية الإثيوبي بشكل رسمي منتصف العام 1996، بعد أن تبقت قطعة بحرية واحدة من أسطوله، وهي عبارة عن زورق للدورية، تم نقله عن طريق البر للعمل في بحيرة تانا شمال غرب البلاد.
صدر عن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في نيسان/أبريل 2018 تصريح مفاجئ تحدث فيه عن بدء بلاده بإعادة النظر في قرار حل سلاح البحرية، وتبع ذلك تصريح لرئيس الأركان الإثيوبي السابق في العام نفسه، قال فيه إن بلاده تتشاور مع عدة دول من أجل إعادة تفعيل سلاح البحرية الإثيوبي، وتحديد إمكانية استغلال موانئ جمهورية أرض الصومال أو جيبوتي لتكوين قاعدة لعمل الوحدات البحرية الجديدة لإثيوبيا، وهي مهمة تراهن تل أبيب على أنها تستطيع مساعدة إثيوبيا فيها وتزويدها بزوارق الهجوم السريع وزوارق الدورية الساحلية الإسرائيلية الصنع، ما سيساهم بشكل كبير في إنعاش الصناعات العسكرية الإسرائيلية التي أشرت في مقالة سابقة إلى أنها قد تعاني ركوداً خلال السنوات المقبلة.
تفكر تل أبيب أيضاً في دعم سلاح الجو الإثيوبي الذي يمتلك بين 86 و95 طائرة عاملة من مختلفة الأنواع، موزعة على 9 أسراب. من ضمن هذه الأعداد، لا يوجد سوى 24 مقاتلة قاذفة، بواقع 10 مقاتلات قاذفة من نوع "ميج-23" سوفياتية الصنع، و 14 مقاتلة متعددة المهام من نوع "سوخوي 27" تسلمتها في العام 2004 مستعملة من سلاح الجو الروسي.
هذا الدعم قد يأتي على شكل تطوير أنظمة هذه الطائرات، ولتل أبيب خبرة في تطوير أنظمة الطائرات الشرقية المنشأ في كل من الهند وإثيوبيا، وقد يأتي على شكل دعم تسليح هذه المقاتلات أو حتى تزويد سلاح الجو الإثيوبي ببعض المقاتلات الإسرائيلية التي يراد إخراجها من الخدمة، مثل بعض نسخ مقاتلات "أف – 16".
يضاف إلى ذلك الجانب المتعلق بالطائرات من دون طيار، فإثيوبيا تطور بالفعل، بالتعاون مع "إسرائيل"، برنامجاً للطائرات الاستطلاعية من دون طيار تحت اسم "إم دي إيه في". ويتوقع في هذا الصدد أن تتزود أديس أبابا بطائرات إسرائيلية من دون طيار من عائلة "هيرميس"، إلى جانب الذخائر الجوالة الإسرائيلية الصنع التي كانت لها مؤخراً تجربة مهمة في إقليم ناغورنو كاراباخ.
هذا التعاون قد يمتد إلى الدفاع الجوي. وقد ذكر موقع "ديبكا" الإسرائيلي سابقاً أن تل أبيب عرضت على إثيوبيا منظومات "سبايدر - أي أر" للدفاع الجوي القريب، لكن لم تتوفر حتى الآن دلائل موثوقة تشير إلى حصولها على هذه المنظومات. ومن الواضح في هذا الصدد أن تل أبيب تحاول استغلال التوترات القائمة بين إثيوبيا من جهة، والسودان ومصر من جهة أخرى، على خلفية عدة ملفات، على رأسها ملف سد النهضة والخلاف الحدودي مع السودان حول منطقة الفشقة، للترويج لمنظوماتها القتالية وأسلحتها.
أخيراً، نستطيع أن نقول إن التعزيز الواضح في العلاقات بين الجانبين يأتي في سياق توجهات إسرائيلية أكبر نحو أفريقيا، ففي العام 2016، أعلن بنيامين نتنياهو عن سياسة جديدة لتل أبيب في أفريقيا، عنوانها العريض هو "العودة إلى إفريقيا"، بهدف توسيع علاقاتها مع دول مثل إثيوبيا وبدء علاقات جديدة مع دول أخرى في القارة، وهو توجه تعزز بتطور علاقات تل أبيب مع دول مثل السودان وكينيا وغيرها.
لكن في ما يتعلق بإثيوبيا، تتسم التحركات الإسرائيلية – إلى جانب الانتهازية - بالمغامرة بتلقي ردود فعل غير متوقعة من جانب مصر والسودان، فالأولى ترى في ملف سد النهضة مسألة حياة أو موت، وتمتلك القدرة على اللجوء إلى خيارات أكثر عنفاً لحل هذه المسألة، والأخرى مترددة في الأساس في المضي قدماً في تطوير علاقاتها مع تل أبيب. وقد يساهم أي تصاعد جديد للدور الإسرائيلي في إثيوبيا في إبطاء أو حتى إنهاء التوجهات التطبيعية الحالية للخرطوم.