بايدن والشّرق: عودة الاحتواء والاختراق
يطرح بدء ولاية بايدن الرئاسية تساؤلات حول ملامح سياسته المتوقّعة تجاه روسيا والصين. هذه السياسة التي ترتسم اليوم، تجد جذورها في التخطيط الاستراتيجي الأميركي، كما في التقليد السياسي الأميركي، ولا سيما مرحلة أوباما.
لم يكد الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن يتسلَّم مهامه الرئاسية في حفل مختلفٍ من ناحيتي الشكل والظروف المحيطة، حتى بدأت معالم سياساته ترتسم باتجاهاتها الأساسية، ففي اليوم الأول له في البيت الأبيض، وقع الرئيس الجديد قرارات أرادها عاجلة، بعضها يلغي قرارات رئاسية اتخذها سلفه دونالد ترامب.
ومع بقاء السياسة الشرق أوسطية للإدارة الجديدة متأرجحةً بين رغبة الديموقراطيين بإنجازات خاصّة في السياسة الخارجية، والتزامات السياسة الدائمة للمؤسسة الحاكمة في أميركا، ومصالح الديموقراطيين أنفسهم بالاستفادة من الأمر الواقع الذي أحدثته سياسة ترامب في المنطقة، تبدو ملامح سياسة بايدن تجاه عملاقي الشرق، روسيا والصين، أكثر وضوحاً.
استعادة الحلفاء
في أيامه الرئاسية الأولى، سارع بايدن إلى إطلاق نهج جديد مع الحلفاء الغربيين؛ أولئك الذين أساء ترامب إلى مكانتهم في التحالف الغربي العابر للأطلسي، ورأى فيهم دولاً ضعيفة مستندة في أمنها واستقرارها إلى حماية الولايات المتحدة ضمن المنظومة الأطلسية، وأراد بمنطق فتوات الشوارع إرغامهم على دفع جزية حمايته لهم.
أما نهج بايدن الجديد، فإنه يبدو منذ الأيام الأولى مركزاً على استعادة لغة العلاقات الدولية وأدبيات التحالف القديم بين القوى الغربية، إلى جانب نغمة العداء لروسيا، بعد أن شهدت ولاية ترامب تشديداً على أحقية الصين بالعداء من دون منازعٍ تقريباً.
اتصل الرئيس الجديد بنظرائه الأساسيين في أوروبا. البيت الأبيض قال إن هذه الاتصالات "تقليدية" في الأيام الأولى في المكتب البيضاوي، وبدأت باتصالين قام بهما بايدن بكل من إيمانويل ماكرون وبوريس جونسون، لكن ما جعلها "غير تقليدية" هو تضمّنها نيات بتغيير أجواء العلاقات التي كانت سائدة في أيام ترامب.
عبّر بايدن لنظيره الفرنسي عن رغبته في تقوية العلاقات الأميركية - الفرنسية، في الوقت نفسه الذي سيسعى إلى تعزيز العلاقات الأميركية مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
عودة لغة السياسة التقليدية إلى مباحثات الحلفاء الغربيين أعادت معها الأدبيات السابقة للحديث عن "الأولويات المشتركة". هذه المرة تم تحديدها بين الرئيسين الفرنسي والأميركي بكونها روسيا والصين، إضافة إلى الملف المزمن في الشرق الأوسط.
وإلى جانب ذلك، لم ينسَ بايدن أن يبحث مع الحلفاء الأوروبيين "الحاجة إلى التنسيق الوثيق في مواجهة التحديات المشتركة، مثل تغير المناخ وجائحة "كوفيد-19" والانتعاش الاقتصادي العالمي".
ومع جونسون، عمت "السعادة" أجواء الاتصال المشترك، بحسب تعبير الرئيس البريطاني. الأجواء الإيجابية ربطت بعودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، وتجديد الالتزام بتحالف الناتو والقيم المشتركة في "تعزيز حقوق الإنسان وحماية الديموقراطية"، ونيات التنسيق المشترك في ما يتعلق بإيران والصين وروسيا بالتأكيد.
لكن أوروبا اليوم ليست كما كانت في عهد باراك أوباما. لقد تقدم الزمن 4 سنوات، تحولت فيها أوروبا مع لكمات ترامب المتتالية إلى ساحة استثمرت فيها الصين وروسيا تحديداً، وتمكّنتا من تحقيق نتائج مهمة. ويمكن القول إن الاختراق الأهم تحقق في العلاقات الشرقية (روسيا والصين) مع ألمانيا.
لقد دفعت ألمانيا، وهي صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، نحو توقيع اتفاقية شاملة للاستثمار مع الصين، الأمر الذي أثار تساؤلات واسعة على ضفتي الأطلسي، ولا سيّما أن التنافس بين واشنطن وبكين تدور رحاه على مستويات استراتيجية مرتبطة بموضوعات الاتفاقية، ومنها أسواق التجارة والإنتاج العلمي.
ومع خلافة أرمن لاشيت لميركل في رئاسة الحزب المسيحي الديموقراطي، انطلقت مرحلة جديدة مع قائد جديد سيكون أبرز المرشحين لمنصب المستشار الألماني بعد أشهر، حين تنهي ميركل مهامها وتخرج من الحياة السياسية، كما أعلنت. وما يقلق بايدن وقادة أوروبا الغربية في هذا الشأن هو إمكانية بدء لاشيت مساره السياسي على هذا المستوى القيادي بالتقارب مع الصين وروسيا، والأخيرة تحديداً بنت لنفسها رصيداً من التشبيك السياسي داخل ألمانيا منذ أن أطلقت قبل أعوام مشروعات خطوط الغاز نحو أوروبا، ومنها "نورد ستريم".
لقد رسمت موسكو خطوط نقل غازها إلى أوروبا من 3 طرق رئيسة. في الجنوب، أطلقت "ساوث ستريم" و"بلو ستريم"، الأول يمر عبر المجر، والثاني عبر تركيا، ويطلق عليه أيضاً اسم "السيل التركي". أما الخطّ الثالث، فهو "نورد ستريم" أو سيل الشمال، الذي استتبع في الأشهر الماضية بخطة لمدّ خط رابع هو "نورد ستريم 2"، وكلاهما ينزل من بحر الشمال إلى ألمانيا، ومنها إلى أوروبا الغربية.
لقد أسّست روسيا من خلال هذه الخطوط لعلاقات مع سياسيين ألمان، بينهم لاشيت حاكم ولاية وستفاليا صاحبة أكبر اقتصاد بين الولايات الألمانية، ومانويلا شفيزيغ، حاكمة ولاية مكلنبرغ وسترن بوميرانيا المنتمية إلى الاشتراكيين الديموقراطيين، وهي من المتحمّسين لخطّ أنابيب "نورد ستريم 2"، الذي سيجلب الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر ولايتها.
إن هذه التشابكات السياسية بين روسيا وألمانيا والعلاقات المتطورة باطراد مع الصين تمثل معطيات جديدة لا بد لسياسة بايدن تجاه موسكو وبكين من أخذها بعين الاعتبار، فكيف تبدو ملامحها مع بداية الولاية الرئاسية؟
مرحلة جديدة
لقد اختار بايدن أنتوني بلينكن لوزارة الخارجية، وهو دبلوماسي خبير وصاحب تجربة واسعة في العلاقات الدولية، ويعرف أصول السياسة الخارجية الأميركية، وسبق له العمل مع أوباما وبايدن خلال الولايتين الرئاسيتين الأخيرتين للديموقراطيين، لكن عمله إلى جانب بايدن كان متمحوراً حول مسائل الأمن القومي. ونحن هنا نتحدّث عن أكبر خطرين على الأمن القومي الأميركي بحسب الديموقراطيين، هما الصين وروسيا، لكنّ توجّهات الأمن القومي في المرحلة الجديدة لا تقتصر على خبرة بلينكن في هذا المجال، وضرورة امتدادها إلى الخارجية التي سيديرها، بل إنّها ترتسم مع تعيين مستشار الأمن القومي لبايدن جيك سوليفان.
مباشرةً بعد تعيينه، أعلن سوليفان عن استعداد الإدارة الأميركية الجديدة للعمل مع المسؤولين الأوروبيين بشأن القضايا المتعلقة بالصين وإيران وروسيا. وفي رؤيته، الأولوية اليوم هي لتعزيز التحالفات عبر الأطلسي والعمل مع الحلفاء الأوروبيين بشأن القضايا المشتركة.
لقد أدار سوليفان في الأسبوع الأول من ولاية بايدن نقاشات واسعة النطاق مع ممثلي فرنسا وألمانيا وبريطانيا واليابان. لقد كانت هذه المحادثات الهاتفية مناسبةً لطرح موضوعات مهمة، مثل سبل مواجهة جائحة "كوفيد 19"، لكنها في عمقها شكّلت موضوعات أكثر تهديداً على المدى الأبعد، مثل كيفية مواجهة الصين والقضايا الإقليمية المرتبطة بها، كمسائل بحر الصين الجنوبي والأوضاع في كوريا الشمالية.
وعلى مستوى البنتاغون، يرسم الجنرال المتقاعد لويد أوستين، وهو الذي اختاره بايدن لإدارة وزارة الدفاع، الملامح الرئيسة للمقاربة الأميركية الجديدة تجاه روسيا والصين. أوستن صارح مجلس الشيوخ بأنه سوف يبحث عن السبل لتجنب التصعيد الخطير وحماية مصالح وقيم الولايات المتحدة بحزم، وأنه سيترك الباب مفتوحاً للتعاون مع روسيا في المجالات ذات الاهتمام المشترك، لكنه اعتبر أن من بين المجالات المحتملة للتعاون الرقابة على الأسلحة ومحاربة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل وتسوية النزاعات العسكرية في المناطق التي تعمل فيها القوات الأميركية والروسية على مقربة من بعضها البعض، وأن تمديد معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية "ستارت-3" مع روسيا يصبّ في مصلحة واشنطن.
في المقابل، يعود أوستين إلى سكة التناغم مع أفكار الأمن القومي، فهو مؤمن بمهمة رئيسة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهي "ردع روسيا والحد من عملها ضد المصالح الحيوية الأميركية"، بما في ذلك حماية حلفاء أميركا من العدوان العسكري.
وتشتمل هذه النظرة التي تتبنّاها واشنطن بإدارتها الجديدة حول روسيا على ادعاءات بانتهاك موسكو القانون الدولي، وبانتهاج سلوكي تناقض مع المصالح الأميركية، إضافة إلى السعي الدائم للحفاظ على القدرات العسكرية التقليدية والنووية لأميركا في مواجهة روسيا.
احتواء الصين؟
ومع عودة الديموقراطيين إلى البيت الأبيض، وبدء تبلور السياسة الجديدة باتجاه موسكو وبكين بما يقترب من نهج أوباما، الذي اعتمد سياسةً شبيهة بسياسة الاحتواء التي انتهجتها واشنطن في مواجهة الاتحاد السوفياتي، من خلال محاصرته بإسقاط امتداداته في الدول المحيطة به، وهي التي كانت تعبر عن بعده العالمي ودوره كقطب عالمي وقوة عظمى.
الآن، تبدو الإدارة الأميركية مندفعة نحو سياسة مشابهة، وخصوصاً مع حديث أوستين عن تأثير الصين بصورةٍ متزايدة في الدول الضعيفة اقتصادياً في الشرق الأوسط، "من دون أن تعزز حضورها العسكري بعد"، الأمر الذي يشكل خطراً على النفوذ الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي الأميركي في المنطقة.
إن "ردع" الصين عبارة تكرّرت في تصريحات أغلب المسؤولين في الإدارة الأميركية الجديدة، لكن القضايا السياسية التي تتصدر عناوين التحليلات حولها لا تتطابق مع عمق التنافس الحقيقي بين الدولتين.
على الرّغم من تأكيد بايدن في اليوم الأخير من السنة المنصرمة أن الولايات المتحدة يجب أن تكيّف أولوياتها الدفاعية على خلفية "التعقيدات الاستراتيجية المتزايدة التي خلقتها روسيا والصين"، وتركيزه على الجوانب الدفاعية الصلبة، ما يشمل تحديث الأولويات الدفاعية، وتفضيله الابتكار وإعادة التفكير في التهديدات المتزايدة في مجالات جديدة مثل الفضاء الإلكتروني" بدلاً من الاستثمار الجديد في القطاعات الدفاعية، فقد أعلن عن خطط لصياغة نهج جديد في ما يتعلق بروسيا وإيران والصين ودول أخرى. على الرغم من ذلك كلّه، فإن مكمن الصراعات مع روسيا والصين يتمحور حول المسائل نفسها التي اهتمّ بها ترامب، وخصوصاً في الحالة الصينية.
إنَّ عمق الخلاف مركّز على مسائل الحرب التجارية والخطر الكبير الذي تشعر به واشنطن من النمو الاقتصادي الكبير للصين، وخصوصاً مع محافظة الأخيرة على معدلات نمو مرتفعة، حتى في ظل الخسائر الهائلة والنمو السلبي الذي سجّلته معظم الاقتصادات الكبرى بسبب جائحة كورونا.
وفضلاً عن ذلك، تلوح أمام إدارة بايدن عقد كثيرة يتوقّع أن تشكل قلقاً استراتيجياً كبيراً في المستقبل القريب والمتوسط، أبرزها بدء تطبيق الاستراتيجية الخمسية الجديدة للصين، الهادفة إلى تحقيق السيادة التكنولوجية والاستغناء عن التكنولوجيا المنتجة في الغرب وإنتاج كل ما تحتاجه البلاد في اقتصادها.
يُضاف إلى ذلك خطط الصين المتعلقة بتطوير السوق الداخلية للاستهلاك بدلاً من الاعتماد على عوائد التجارة الخارجية التي حقّقت لها فوائض هائلة بنت عليها مجدها. إنها حرب الملكية الفكرية ومستقبل الإنتاج العلمي، ومحاولة أميركا منع انتقال دفة الإنتاج العلمي إلى الشرق، كما هو متوقّع.
اختراق روسيا
بالنّسبة إلى المقاربة المتوقّعة تجاه روسيا، فإن عودة سياسة شبيهة بتلك التي انتهجها أوباما تبدو متوقّعة اليوم، مع تحوير جديد لها مرتبط بالتبدلات التي طرأت منذ الأخير عن البيت الأبيض، فلطالما ركزت دعاية الديموقراطيين على الخطر الروسي، وعلى الصراع مع بوتين شخصياً، كرمزٍ لعودة روسيا إلى ساحة التنافس الدولي. وبعد فوز بايدن، يبدو طبيعياً أن تعود واشنطن إلى التركيز على روسيا، وعلى محاولة إضعاف بوتين تحديداً، حتى إزاحته عن السلطة إن أمكن.
لقد شهدت العديد من المدن الروسية تظاهرات معارضة لبوتين خلال الأسبوع الأول من بدء ولاية بايدن. ورغم أنَّ هذه التظاهرات ليست جديدة، وهي بمعناها الداخلي جزء من الحراك السياسي، فإنها تبقى محطة من سلسلة الضغوط السياسية التي تمارس في الداخل على الرئيس بقيادة المعارض المقرب من الغرب أليكسي نافالني.
إنَّ إعادة إطلاق المسار المعارض لبوتين قبل أشهر من الانتخابات التشريعية في روسيا تشير في ناحية من نواحيها إلى مقاربة بايدن لمسألة التدخل في روسيا، فالسفارة الأميركية لدى موسكو قامت بنشر خرائط مفصّلة للتظاهرات في كل المدن التي جرت فيها. وقد توجَّست روسيا وصرّحت عبر الناطقة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا بأنها ستحقّق في ما إذا كان هذا العمل يعبّر عن توجيهات أو أوامر عمليات ميدانية للمعارضة للتحرّك.