وشمٌ مرعب على وجه الديموقراطية الأميركيّة

ما يزال المشهد الصادم لاقتحام مناصري ترامب مبنى الكابيتول يتفاعل في دلالاته العميقة. معانٍ وأبعاد داخلية مختلفة، وانعكاسات متنوعة بين الداخل والخارج. أية نتائج؟ وكيف تأثرت صورة أميركا بما جرى؟

  • كان اقتحام الكابيتول خطوةً شبه يائسة تحاول إطلاق الرصاصة الأخيرة في معركة الرئاسة.
    كان اقتحام الكابيتول خطوةً شبه يائسة تحاول إطلاق الرصاصة الأخيرة في معركة الرئاسة.

في مشهد مسرحي يكاد لا يصدّق، اجتاح مناصرو الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب مبنى الكابيتول؛ مقر الكونغرس الأميركي. المظاهر المسرحية لم تقتصر على قرون الثيران، والوشوم، واللحى الطويلة، والأجساد شبه العارية، والأزياء الغريبة، إنما شملت المشهد كله، بلا معقوليته، وبغرابته القافزة من اللامتوقع إلى ساحة الحقيقة الملموسة. 

 

مشهد من العالم الثالث

المئات من ميليشيات المؤيدين لرئيس الدولة يقتحمون مقر السلطة التشريعية التي تجمع مجلسي النواب والشيوخ، وفيها تسن القوانين التي تعطى للعالم على أنها خلاصة دروس الديموقراطية التي ترسم أصول انتقال السلطة عبر العالم، وتحدد المعايير، ويقاس عليها، فينتقى المتمثلون بها على أنهم الديموقراطيون، بينما يقذف المختلفون معها بأوصاف من قبيل "المارقين" أو "الشمولين"، مهما كان ما تشير إليه آلياتهم الدستورية الخاصة من سبل تأسيس الحكم على أرضية حكم الشعب.

لا شك في أنه مشهد غير مألوف في الديموقراطيات الكبرى، ولا يشبه ما تسوّقه دول العالم الأول الغربية عن حقيقتها، ومختلف تماماً عن مضامين الدروس اليومية التي تنشرها عبر وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية، والتي توبّخ الحضارات المختلفة التي تعبر عن ديموقراطياتها وفق تجربتها الخاصة. 

إنّ الدقة تفترض وصف هجوم الكابيتول باقتحام ترامب لمقر السلطة التشريعية، وليس اقتحام مناصريه للكونغرس، فالرجل الذي حاول التنصل من آثار الحدث، ووصف الهجوم بالشنيع، ودعا المقتحمين إلى الانسحاب، كان يعلم وكان يبدو مهدداً ومتفاخراً بما سيحدث عندما قال أثناء اتخاذ صورة لفريق وزارة الدفاع في البيت الأبيض إن الهدوء الذي يسود (أثناء الوقوف لاتخاذ الصورة) هو ذلك الذي يسبق العاصفة، ومن ثم الرد على التساؤل حول معنى هذه العاصفة بالقول: ستكتشفون!

إذاً، ويا للغرابة، نحن نتحدث عن رئيس أميركي مدركٍ لما يفعل قبيل توجيه مناصريه لاقتحام مقر السلطة التشريعية، وفي ذلك تجربة جديدة للديموقراطية الأميركية التي لم تعرف مشهداً مشابهاً في تاريخها المعاصر. وبعد هذا المشهد في قلب واشنطن، لم يعد جائزاً لأحد مساعدي معاون نائب وزير إحدى الوزارات الأميركية التندر على عراك في برلمان إحدى دول العالم الثالث، ودعوة أهلها وقادتها إلى احترام "معايير" العالم الحر وإرادة الناخبين وحرمة المؤسسات الدستورية.

 

إشارات الهدف والأسلوب

لكن لا بد لهذا الخيار الواعي الذي اتخذه الرئيس من أن يكون منضوياً في سياق هدفٍ مطلوب، ولا بد أيضاً من أسلوبٍ وآلية لتحقيق الهدف. وبعد ذلك، ستأتي النتيجة.

في الهدف: 

كان اقتحام الكابيتول خطوةً شبه يائسة تحاول إطلاق الرصاصة الأخيرة في معركة الرئاسة. لقد أعلن ترامب قبل إعلان النتائج النهائية أنه لن يقبل بسرقة الانتخابات. وبعد ثبوت خسارته، أعلن أنَّ من المبكر الاستسلام والإقرار بالهزيمة، ثم بعد ذلك، وقبيل ساعات قليلة من حدث الكابيتول، حاول مخاطبة نائبه مايك بنس، بدعوته إلى وقف عملية تثبيت فوز جو بايدن بالرئاسة.

لقد كانت آخر آمال ترامب معلقةً على بنس، والأخير اختار الانحياز إلى التقاليد السياسية الأميركية، وإلى الموجة المؤسسية العارمة التي اجتاحت البلاد عقب خطوة ترامب اليائسة. كانت عملاً فاقعاً ذا وقعٍ مستفز لأبناء النظام الأميركي من الحزبين. والقادة الجمهوريون الذين وقفوا ضد ترامب، لم يقفوا مع بايدن، ولا إلى جانب الديموقراطيين، بل إلى جانب انتظام الآليات الدستورية، وتحت وقع الرعب الذي تعرفه الإمبراطوريات في أوقات اهتزازها عند أول دورة على منحدر المقلب الآخر من القمة.

 

في الأسلوب:

وهنا المفارقة الكبرى، أن الرئيس الأميركي، رئيس الولايات المتحدة الأميركية؛ قائدة العالم الحر في كل أدبياتها، وراعية محور "مكافحة الإرهاب"، وسيدة تحالفات الراغبين في القضاء على الإرهاب الدولي، أيضاً وفق مندرجات خطابها في مرحلة الأحادية، رئيس هذه الدولة هو نفسه من يستخدم أسلوب إرهاب نواب الكونغرس، لدفعهم إلى عدم التصديق على نتائج الانتخابات، والتحول إلى اتجاه آخر يقر بالادعاءات الترامبية التي تقول إن الانتخابات سرقت. 

الإرهاب هو التهمة التي أعلن وزير الدفاع رايان مكارثي إنه تم فتح ما لا يقل عن 25 قضية بخصوصها (قضايا إرهاب محلية) على خلفية هجوم أنصار ترامب على مبنى الكونغرس، مؤكداً أن "وزارة الدفاع تعمل مع سلطات إنفاذ القانون المحلية والاتحادية لتنسيق الاستعدادات الأمنية".

أراد ترامب من خلال الأسلوب والموقع وهوية المشاركين وطبيعتهم وأشكالهم وأزيائهم، ومن خلال سيميائية المشهد برمته، أن يرهب النواب، أي بثّ الرهبة في نفوسهم وإخافتهم وأخذهم تحت تأثير وقع الحدث وشكله ومؤثراته البصرية والسمعية الصادمة إلى خيارٍ سياسي أخير لم يكونوا ليذهبوا إليه من دون إحداث صدمةٍ نفسية بحدثٍ من خارج المألوف. 

فعل أقصى ما يمكن فعله لتعريضهم لصدمة. إنّ عقيدة الصدمة التي مارسها على شعوب العالم، ومارستها إدارات أميركية سبقته، وأُخذت في طريقها بلادٌ، وراح في سبيلها عبادٌ، استخدمت بذاتها في حدث اقتحام الكابيتول، ولكن وفق المقادير المعقولة في الداخل الأميركي، فالصدمة هنا التي أُريد لـ"قرون شانون" تحقيقها، لا يمكن لطائرات "ب 52" تحقيقها في الداخل، إنما في الحالتين، المطلوب واحد، والأسلوب واحد، والأدوات مختلفة.

لكن، وفي مفارقةٍ معاكسة في الاتجاه، تحقق هدف تخويف النواب فعلاً، ولكن الخوف كان من واقع أن يسمحوا لرئيس مثل ترامب بالبقاء في سدة الرئاسة والتحكم بمصير بلادهم. أراد ترامب إخافة الديموقراطيين من التصديق على فوز بايدن، فأخاف الجمهوريين مما يمكن لجنونه أن يفعل، وكان أول رد فعلٍ منطقي وطبيعي على ذلك، مسارعة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى التواصل مع وزارة الدفاع للتأكد من عدم إمكانية استخدامه للرموز النووية، أي أن تقدير الموقف في لحظتها كان يشير إلى أنه يمكن أن يشعل حرباً نووية من أجل البقاء في الرئاسة.

في النتيجة، يبدو أن ترامب انتحر سياسياً. أدت خسارته ما تبقى من قادة الجمهوريين بعد إحراجهم بخطوته اليائسة إلى صعوبة ترشحه في الانتخابات المقبلة، وتحول إلى عبءٍ على مؤيديه، باستثناء المتطرفين منهم، الذين ما يزال تطرفهم يشكل خطراً على أمن البلاد. 

وعلى الرغم من تأييد ما يقارب 74 مليون أميركي له في الانتخابات الأخير، فإنَّ خطوته الأخيرة أثبتت لمن اقترع لمصلحة بايدن أنه كان على حق، وأدت من دون شك إلى تقلص عدد المؤيدين من بين ناخبي ترامب نفسه. إذاً، خسر ترامب قسماً لا يمكن تحديده الآن من هؤلاء المؤيدين، ويرجّح أن ينحو الحزب الجمهوري باتحاه معاكس لمصلحته من الآن وحتى الانتخابات النصفية بعد عامين، حفظاً لفرصه المتبقية بعد خسارته الرئاسة والأغلبية التشريعية. 

 

صورة أميركا وخيارات الديموقراطيين

لقد كان الحدث خطراً على الأمن الأميركي برمّته، فقد استخدمت الغطرسة الأميركية للمرة الأولى ضد النواب الأميركيين أنفسهم، وفي هذا تحول خطر لم يحدث من قبل. لقد اتخذ الانقسام الذي فجّره ترامب في المجتمع الأميركي أبعاداً عرقية وجهوية، وأسّس لأحقادٍ جديدة، وأعاد إحياء القديم منها. وكان خياره على مستوى العالم يقوم على القسمة إلى اثنين: معسكر في وجه معسكر، ثم يستخدم الابتزاز والتهديد لإخضاع المعسكر الآخر. لقد بدأها مع حلفائه في الخليج ونجح، ثم فعلها مع حلفائه في منظومتي الناتو والاتحاد الأوروبي، ولم يحقق النجاح المطلوب، وأعاد الكرّة مع الصين وفشل، وكرّرها مع إيران وفشل أيضاً، وكانت آخر المحاولات مع الأميركيين أنفسهم، ومن بينهم واضعو القوانين.

لقد امتزجت الأبعاد السياسية والمصلحية التي حرّكت ترامب في هذه الخطوة بالأبعاد الشخصية. أراد من خلال الأمر باقتحام الكابيتول إهانة بيلوسي نفسها، الأمر الذي تم التعبير عنه بجلوس بعض أنصاره بأقدامهم على مكتبها وسرقة منبرها، لكن ذلك مكّنها من تسديد الضربة القاضية في مواجهته، وهي الضربة المشحونة بالبعد الشخصي نفسه الذي يتخوف الأميركيون اليوم من تأثيره في أمن البلاد واستقرارها الداخلي، بدلاً من أن يتم انتقال السلطة بصورةٍ سلمية تعبر عن سمعة التقاليد الديموقراطية المتوارثة في النظام.

وجّهت بيلوسي رسالة إلى النواب الديموقراطيين بشأن قرار عزل ترامب، وأعلنت فيها المضي في تمرير قرار يدعو نائب الرئيس مايك بنس إلى تفعيل المادة الخامسة والعشرين لعزل الرئيس. لقد شرعت عملياً بإجراءات العزل داخل الكونغرس قبل أقل من عشرة أيام من نهاية ولايته. 

وبذلك، لا يستند الديموقراطيون إلى إمكانية تجريم ترامب وأنصاره فحسب، بل إلى إمكانية إدانتهم بتهمة الإرهاب أيضاً. النائب الديموقراطيّ جيسون كرو قال إن وزير الدفاع مكارثي أبلغه بأن البنتاغون كان على دراية بمزيد من التهديدات المحتملة التي يشكلها "الإرهابيون" في الأيام التي تسبق تنصيب الرئيس المنتخب، حيث تم العثور على بندقيات وقنابل حارقة وعبوات ناسفة.

على المستوى العالمي، راهنت دولٌ وقيادات على ترامب باعتباره قدراً محتوماً، وأنه لن يرحل عن الحكم في يومٍ من الأيام. قبل عامٍ من الانتخابات، كثر قالوا إنه متجه إلى أن يغير نمط تداول الرئاسة في أميركا، واعتقدوا أنه سيثبّت نمطاً شبيهاً بذلك الذي تشهده كل من روسيا وتركيا وألمانيا، مع حفظ الفروقات بين التجارب الثلاث، أي ديموقراطية وانتخابات، لكن مع سيطرة تامة لمشروعٍ رئاسي واحد على الحكم لدورات عديدة. 

تأثرت صورة أميركا في الخارج بشدّة بحدث اقتحام الكابيتول. ورغم أنّ الديموقراطية الأميركية ما تزال تحاول امتصاص ما حدث والظهور بمظهر المنظومة العميقة المتينة والمستندة إلى إرث طويل متجذر من الأصول السياسية والدستورية والأعراف والبروتوكولات، فإنَّ اهتزاز هيبة القوة العظمى الأولى على مستوى العالم له ثمنه الذي لم يتضح بكامل أبعاده بعد، فالذي يزيد من المعاني المباشرة للحدث، وقوعه في لحظة التنافس الاستراتيجي المحتدم مع الصين على المستويات السياسية والاقتصادية والعلمية، وتحول هذا التنافس إلى حرب تجارية في عهد دونالد ترامب. 

ورغم أن رحيل ترامب يحمل معنى إيجابياً بالنسبة إلى الديموقراطيين وإلى عموم معارضيه بين الأميركيين، فإنَّ الخسائر المتوقع أن تتكبّدها أميركا من فترة حكمه على المستوى الدولي ستستمر بالتبلور لوقت طويل على الأرجح.

 سيغيب ترامب عن حفل تنصيب الرئيس بايدن، وذلك لأول مرة منذ 150 عاماً، يوم فعلها قبله الرئيس أندرو جاكسون، وستكون واقعة الكابيتول حدثاً حياً مؤثراً في هُوية المرشحين الذين يقدمهم الحزبان لمعركة الرئاسة في المستقبل، كما سيتذكره الناس حول العالم كلّما خرج مسؤولٌ أميركي ليعلّم العالم الديموقراطية.