"إسرائيل" تتسلّل إلى جامعاتنا.. مكتبة غير بريئة

مخطوطات عربية نادرة ومراجع إسلامية نفيسة في حوزة المكتبة الصهيونية. هكذا يجري السطو على التراث وتقديمه للباحثين العرب والمسلمين على أنه خدمة للإنسانية، لكنه في الحقيقة في خدمة التطبيع.

  • وفق اتفاقيات الأمم المتحدة يُمنع الإتجار بالموروث الثقافي وينبغي أن يعود إلى بلده الأم.
    وفق اتفاقيات الأمم المتحدة يُمنع الإتجار بالموروث الثقافي وينبغي أن يعود إلى بلده الأم.

 

منذ بضعة شهور، أعلنت "المكتبة الوطنية الإسرائيلية" عن مشروع رائد جديد. أكثر من 2500 كتاب ومخطوطة نادرة سيكون متاحاً باللغات العربية والتركية والفارسية خلال ثلاث سنوات. صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" احتفت بالخبر، ومعها صحف عبرية وأخرى غربية. الصحف ركّزت بشكل خاص على هذه القطع "النادرة"، وعلى "أهميتها" في اجتذاب باحثين إسلاميين وفي "توحيد الساعين إلى المعرفة رغم الخلاف السياسيّ".
تتميّز المجموعة، بحسب المسؤولين عن المشروع، بتغطيتها بعض التخصصات الإسلامية الرئيسية والتقاليد الأدبية. هذه المخطوطات تعود، بحسب موقع مجلة "سميثسونيان" الأميركية، إلى الفترة الممتدة بين القرن التاسع والقرن العشرين. المكتبة زعمت أن محتوياتها جُمعت من مكتبات ملكية مملوكية ومغولية وعثمانية.
تتعزّز خطورة هذه المشاريع العلمية والبحثية في ضوء المستجدات السياسية في المنطقة. غالباً ما تترافق اتفاقيات التطبيع المستجدة بين الكيان الصهيوني وبعض الدول العربية والإسلامية مع تفاهمات وتعاون في ميادين الثقافة والتراث والبحث العلمي. 
ليس هذا أخطر ما في الأمر إذا ما علمنا أنَّ المكتبة تحتوي اليوم أكثر من 150 ألف مجلد عربي، من بينها أكثر من 300 مصحف نادر يعود بعضها إلى القرن التاسع ميلادي. هذه المصاحف، إضافة إلى ما تكتنزه المكتبة الصهيونية من مراجع إسلامية نادرة ومسروقة، تتساوق مع بروز الحديث في الفترة الأخيرة عن مسارات روحية جديدة يجري تصنيعها وإعدادها في المنطقة، ومن ضمنها "الدين الإبراهيمي". 
هذا "الدين" ليس إلا بوابة "شرعية" من بوابات التطبيع، يجري التعبير عنه بشكل موارب أحياناً داخل أنظمة الخليج. الحديث عن "أولاد العمومة" أصبح دارجاً على لسان المطبّعين الإماراتيين والبحرينيين، وسبقه تمهيد "شرعي" في السعودية على لسان المفتي وإمام الحرم المكي عن جواز الصلح مع اليهود.

 

خطورة الموقف


رغم أهمية الموقف المتمثل باستيلاء الاحتلال على هذا المخزون الثقافي والتراثي، فإنَّ خطورته تتعزّز في ضوء إتاحته رقمياً على شبكة الإنترنت بموازاة الترويج لمرجعيته العلمية البحثية باللغة العربية. محرك البحث "غوغل" بات يقترح اسم "المكتبة الوطنية الإسرائيلية" عند البحث عن الكتب والمراجع في عدد من التخصّصات. المكتبة الصهيونية كانت أطلقت في العام 2012 مشروع رقمنة للعديد من الكتب والمخطوطات العربية النادرة، موّله الاتحاد الأوروبي. 
بمجرد الدخول إلى موقع المكتبة باللغة العربية، تجد رسالة ترحيب ودعوة للمشاركة في استبيان يبدو بريئاً في الظاهر، حيث يؤكّد أنّ "الإجابة عن هذه الأسئلة تساعد في تطوير الأدوات الرقمية باللغة العربية"، ولكن لا يخفى على المتخصصين أن مثل هذه البيانات من شأنها أن تقدم معلومات مهمة وقيّمة حول شريحة نخبوية من دول عربية وإسلامية، يسهل في ضوئها اتخاذ قرارات تطبيعية أو بالحد الأدنى امتلاك معرفة وافية حول المواضيع المطروحة في الاستبيان في أوساط الباحثين العرب.
الشهر الماضي أثار الأكاديمي المصري عاطف معتمد خطورة هذا الموضوع على صفحته في "فايسبوك". يقول معتمد إنه وجد بين الكتب الحديثة في "المكتبة الوطنية الإسرائيلية" عنوانين من مؤلفاته التي صدرت في القاهرة وبيروت قبل 10 سنوات.
ويرى أن المكتبة الإسرائيلية الناطقة بالعربية هي أحد الأسلحة الناجحة جداً التي تتبناها "إسرائيل" للوصول إلى الجمهور العربي بلغته الأم، وبخدمات ربما دفعت البعض إلى الامتنان النفسي المضمر الأكثر أثراً والأطول استدامةً من الامتنان المعلن.
ويقول إنه حين تتطور المكتبة الصهيونية الناطقة بالعربية، وتصبح مصدراً للكتب الحديثة والقديمة، ومرجعاً للفهرسة والأرشفة العربية، فإنها بهذا تتسلل إلى خدمات الباحثين والقراء العرب الذين يجدون إشكاليات في خدمات المكتبات العربية.


كيف حصلت المكتبة على هذه المقتنيات؟


أمينة مجموعة الإسلام في المكتبة الصهيونية راحيل أوكليس تقول إن المكتبة بدأت تجمع المواد العربية منذ أكثر من 90 عاماً. هذا يعني منذ ما قبل ثلاثينيات القرن المنصرم، أي قبل نشوء كيان الاحتلال رسمياً بنحو عقدين على الأقل، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف حصلت المكتبة على هذه المقتنيات النفيسة والنادرة؟ ومن أين جمعتها؟ 
هنا، يبرز تناقض في كلام أمينة المكتبة بين حديث مصوّر منشور في موقع "يوتيوب" وحديث منقول ضمن مقال نشرته مجلة "جويش كرونيكل" الأسبوعية، وهي أقدم صحيفة يهودية في العالم. تروي أوكليس في المقال رواية مزعومة وغير مدعمة بأي إثباتات. وفي الحديث المصوّر، تزعم أن المخطوطات التي تعود إلى المجموعة الأخيرة تبرّع بها رجل يهودي يدعى أبراهام يهودا (1877-1951). هذا الادّعاء ينسجم مع ما جاء في بيان المكتبة، والذي يعرّف عن يهودا بكونه باحثاً موسوعياً مولوداً في القدس، اهتم بجمع المخطوطات الإسلامية والنصوص اليهودية العربية من العصور الوسطى.
لكن المقال في المجلة المذكورة يشير إلى أنَّ يهودا انتقل من القدس إلى أوروبا، وانتهى بالدراسة مع يهودي مجري هو إسحاق غولدزايهر، الذي كان أحد كبار المتخصصين في اللغة العربية والإسلام. وعندما توفي غولدزايهر في العام 1921، بحسب المقال، كانت لديه واحدة من أهم مجموعات الإسلام والكتب العربية، فهل تعود المجموعات إلى يهودا أو إلى غولدزايهر؟
يبدو هذا تفصيلاً في ضوء ما سيأتي لاحقاً. يبدو أن يهودا حاول إقناع الحركة الصهيونية باقتناء مجموعة غولدزايهر، وفق ما تقول يوكليس. كانت حجته آنذاك استغلال تلك المجموعة لجذب "العلماء اليهود والعرب الذين يجلسون معاً كإخوة في الحكمة وأصدقاء في المعرفة". تقول أوكليس إن كلمات يهودا تنطبق على توجهات المكتبة في المرحلة الحالية.


أكبر عملية سرقة للكتب


موضوع سرقة الكتب الفلسطينية والعربية والاستيلاء عليها بطرق غير مشروعة من قبل السلطات الإسرائيلية ليس جديداً. عدد من المصادر والمراجع تحدث عن هذا الأمر، بما فيها مراجع علميّة إسرائيليّة، ومن ذلك كتاب "بطاقة ملكية: تاريخ من النهب والصوان والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية" للباحث الإسرائيلي غيش عميت الذي صدر في العام 2014. الكتاب عبارة عن أطروحة دكتوراه في جامعة بئر السبع، وقد صدرت نسخة عربية منه عن "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية" في العام 2015. 
يؤكد  الكتاب ما سبق أن قاله مئات الفلسطينيين منذ النكبة الفلسطينية حول نهب عشرات آلاف الكتب الفلسطينية النفيسة والفريدة من بيوت الفلسطينيين. أعمال السرقة هذه تمت تحت حماية العصابات اليهودية و"جيش" الاحتلال وبمراقبة ومساعدة أمناء "المكتبة الوطنية الإسرائيلية".
وتذكر صحيفة "هآرتس" أن المقالات العلمية التي نشرها غيش عميت لفتت انتباه المخرج الإسرائيلي، بني برونير، الذي يعيش في هولندا، والذي أنتج أفلاماً تناولت الصراع العربي الإسرائيلي، ومنها "دولة مع وقف التنفيذ" و"النكبة".
يقول برونير للصحيفة في هذا السياق: "ظننت أنني أعرف الكثير عن 1948، وأن الموضوع يتلخص باللاجئين والقرى الفلسطينية، ولكنني أدركت إثر مقالات عميت أن العام 48 كان عام الهدم الثقافي للفلسطينيين. لم يتحدث أحد عن هذا الأمر. هكذا وُلد الفيلم".
ومن المفيد الإشارة إلى أنه وفق اتفاقيات الأمم المتحدة، يُمنع الإتجار بالموروث الثقافي، وينبغي أن يعود هذا الموروث إلى بلده الأم في حال تهريبه.
ومن أبرز المكتبات الخاصّة المسروقة التي تعود إلى كتاب وأدباء فلسطينيين، المكتبة الخاصة بخليل السكاكيني، ومكتبة عائلة المؤرخ والصحافي الفلسطيني الراحل ناصر الدين النشاشيبي في القدس، فضلاً عن مكتبات ووثائق الهيئات الفلسطينية العامة والمدارس والكنائس.
ومن الأفلام التي توثّق هذه السرقات الفيلم الوثائقي "سرقة الكتب الكبرى" (2012)، الذي يكشف عن سرقة 70 ألف كتاب من بيوت الفلسطينيين خلال النكبة، إلا أن سرقة المكتبة الصهيونية، كما هو واضح من محتواها ومما ورد آنفاً، لا تقتصر على مكتبات ومقتنيات الفلسطينيين فقط. في هذا الإطار، ثمة من يشير إلى نهب متحف بغداد إثر الاحتلال الأميركي في العام 2003، وما فُقد نتيجته من مخطوطات نادرة ونفيسة. 
أستاذ الأدب في جامعة القاهرة الدكتور محمد خليفة حسن سبق أن لفت في العام 1981 إلى أن الصراع بين العرب و"إسرائيل" سيكون فكرياً، والغلبة فيه لمن يملك أدوات البحث العلمي، وحذّر في كتابه "الحركة الصهيونية طبيعتها وعلاقتها بالتراث الديني اليهودي" من سرقة التراث، مستشهداً بسرقة الصهيونية للتراث الشعبي الفلسطيني والعربيّ وتقديمه للعالم على أنه تراث يهودي.