السعودية.. احتمالات الخطيئة النهائيّة

في خضم التحولات الهامة في المنطقة يأتي لقاء ابن سلمان مع نتنياهو، وتشارك "إسرائيل" في مؤتمر المنامة وتعود قطر إلى البيت الخليجي. أية مخاطر يأتي بها السعوديون إلى الخليج؟

  • السّعودية.. احتمالات الخطيئة النهائيّة
    السّعودية.. احتمالات الخطيئة النهائيّة

في ظل التحولات الدراماتيكية التي تشهدها المنطقة والأحداث المؤثرة فيها على حدٍ سواء، من خسارة دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية أمام جو بايدن، إلى الانسحاب الأميركي العسكري من المنطقة، ثم العودة المحدودة والموجهة، وصولاً إلى تصعيد سياسة "الضغوط القصوى" إلى أشدّ طاقتها التدميرية، والتي ترجمت باغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، ثمة مسارٌ آخر يتمّ تزخيمه لاستكمال الأهداف الكبرى للمسار الأول، يتمثّل بتحقيق تحالفٍ معلن بين دول عربية في الخليج والكيان الإسرائيلي.

قبل أيام، عقدت في العاصمة البحرينية المنامة قمة الأمن الإقليمي الـ16 المعروفة بمؤتمر "حوار المنامة". والغرض منها، بحسب منظميها، هو مناقشة السياسات الأمنية والخارجية، إضافة إلى التحديات التي تواجه الشرق الأوسط حول السياسة الأمنية والخارجية وقضايا المنطقة. شارك في المؤتمر حوالى 3 آلاف شخصية بين رؤساء ووزراء وشخصيات عسكرية وأمنية من مختلف دول العالم، إلا أن اللافت هذا العام كان دخول "إسرائيل" على خط الجهات الفاعلة في رسم المشهد الإقليمي من منصة المنامة بصورةٍ علنية عبر عدد من الخبراء، من بينهم الرئيس السابق لمخابرات الجيش الإسرائيلي عاموس يادلين.

وقد بات واضحاً من خلال التطورات الأخيرة أن البحرين والإمارات، ومعهما السعودية، تريد تغير قواعد اللعبة في المنطقة، من خلال تحويل طبيعة الصراع ووجهته من صراعٍ عربي مع "إسرائيل" إلى صراعٍ عربي - خليجي - إسرائيلي ضد إيران. 

أميركياً، حرص وزير الخارجية مايك بومبيو على تظهير هذا الجانب الأساس من الجهد الخليجي - الإسرائيلي المشترك، فقد أعلن أمر المهمة للتحالف الجديد: "يجب أن يظل العالم بأسره واضحاً بشأن الحاجة إلى التصدّي حقاً للتهديد الواسع الذي يشكله النظام في إيران اليوم".

مصالحة قطر واغتيال فخري زاده

معطى آخر ينضم إلى المشهد، ليكمل احتمالات المشروع الجديد المستعر ضد إيران على بعد أسابيع قليلة من رحيل ترامب عن البيت الأبيض (وهو عاملٌ يبرر تسريع الوتيرة)، فقد قادت الولايات المتحدة جهوداً حثيثة للمصالحة بين السعودية وقطر، وتمكّنت الكويت من أداء الدور الذي كانت تحاول تحقيقه بإعادة قطر إلى البيت الخليجي وإنهاء الأزمة الخليجية. 

لقد ساهمت نيات بايدن بالعودة إلى الاتفاق النووي وحماسة الأوروبيين لبحث سبل العودة إلى تنفيذه، في تسريع الإدارة الأميركية الحالية، ومعها "إسرائيل"، لمسار "اتفاقات أبراهام" وجهود إتمام المصالحة الخليجية، بغرض توحيد الجبهة الخليجية، وتحضير البيئة الخليجية لمرحلة جديدة تحتاج فيها إلى مواقف منسقة، طمعاً بتقوية موقفي نتنياهو وترامب بوجه إيران خلال الأسابيع المتبقية للأخير في الرئاسة.

وفي وقت لم يعد يفلح نفي السعودية خبر لقاء نتنياهو بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي أكدته كبريات الصحف العالمية، ليس آخرها مجلة "إيكونوميست" في عددها الصادر في 28 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، يبدو أنَّ الخوف والأزمات يقودان مساراً جديداً من مسارات التطبيع في المنطقة، فاللقاء الذي تم بحضور بومبيو لم يكن اللقاء الأول، بحسب ما كشفته قناة "كان 11" الإسرائيلية.

لقد تزامنت أخبار الإعلان عن لقاء نتنياهو وابن سلمان في الفترة نفسها مع حدث اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، وهو اغتيال أشارت السلطات الإيرانية بأصابع الاتهام في شأنه إلى "إسرائيل". وفي السياق ذاته، تم الإعلان عن نجاح الجهود الأميركية والكويتية لإتمام المصالحة الخليجية.

وإذا كانت المصالح القطرية من المصالحة معروفة، بالإشارة إلى طبيعتها وتحالفاتها وحجمها ودورها ومواردها، فإن موقف المملكة العربية السعودية من الخيار الجديد بالتقرب من "إسرائيل" لا يزال غير مفهومٍ منطقياً ولا يمكن تبريره،  فلطالما كانت المملكة مستبعدةً في السابق من احتمالات فتح العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، بل كانت تصر في أدبياتها السياسية على إظهار صورةٍ مختلفة حرصت على رعايتها طوال السنوات الماضية، قبل أن تبدأ الصورة المختلفة بالبروز إلى الواجهة في السنوات الأخيرة وإزاحة الصورة القديمة من المشهد. لقد تكاثرت في السنوات القليلة الماضية - بالتوازي مع صعود نجم ابن سلمان - أخبار اللقاءات السرية بين مسؤولين من السعودية والكيان.

كانت الصورة الأولى التي تحاول السعودية الحفاظ عليها وترويجها هي صورة المملكة القائدة في العالم الإسلامي؛ مقر الرسالة النبوية وحاضنة الحرمين الشريفين. ملكها خادمهما، وخطاب قادتها يشدّد على هذا الدور الإسلامي الذي كان يستوجب بطبيعة الحال خطاباً متناسباً مع هذه الهوية على مستوى القضايا الإسلامية الكبرى، وفي طليعتها القضية الفلسطينية والعداء لـ"إسرائيل".

لقد سعت السعودية في السابق إلى مبادراتٍ تقوم على حل الدولتين، وقدمت في قمة بيروت العربية في العام 2002 مبادرة السلام العربية التي رفضتها "إسرائيل" ودمرتها في ما بعد، وشهدت القمم العربية اللاحقة إدانة عربية للرفض الإسرائيلي للالتزام بالمبادرة، على الرغم من كون الأخيرة لا تمثل وجدان الشعوب العربية، ولا تحاكي سقف طموحاتها القومية، فضلاً عن حقوقها المهدورة والمغتصبة.

اليوم، تنظر الشعوب العربية إلى الموقف السعودي بدهشة وحزن، فما كان استنتاجاً وتحليلاً، أصبح حقائق منشورةً يصعب دحضها، لكن لماذا السعودية؟

لا شك في أن التحول السعودي المعلن يرتبط بسياقٍ عريض من التطبيع بين "إسرائيل" ودول عربية في الخليج. هو تطبيع في الاصطلاح الإعلامي، لكنه يشبه التحالف في مضامينه السياسية. لقد وصلت السعودية مع محمد بن سلمان إلى وضعية إقليمية لا تحسد عليها، فهي تعيش مأزقاً تلو آخر وأزمةً بعد أزمة منذ أن لمع نجم الأمير الشاب. وقد دخلت في نفق حرب اليمن، ولم تتمكَّن من الخروج منه بعد، وهي عالقةٌ في دوامة من القتل اليومي الذي تمارسه هناك بالرصاص والتجويع. لا تستطيع التقدم، ولا تتمكَّن من التراجع. لقد دخل ابن سلمان نادي المأزومين، وسبقه إليه نتنياهو في "إسرائيل". 

لقد جاءت خسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية لتهدد المستقبل السياسي لشخصيتين في الشرق الأوسط، هما ربما أكبر ثنائي متضرر من رحيل ترامب في العالم. إنهما محمد بن سلمان وبنيامين نتنياهو. ما العمل؟ يجب أن يلتقيا ليستبقا رسم جوزيف بايدن وسكرتيره للسياسة الخارجية أطر السياسية الخارجية الأميركية الجديدة في المنطقة.

كلاهما يخاف من عودة بايدن إلى "عقيدة أوباما". بايدن والديموقراطيون يعتبرون الاتفاق النووي الذي تم توقيعه مع إيران في العام 2015 إنجازاً كبيراً. ما العمل إن عاد الرئيس الأميركي الجديد إلى الاتفاق؟ ما العمل إن رفعت العقوبات عن إيران وعادت الآلية المالية مع الأوروبيين إلى العمل؟

لقد صفعتهما الانتخابات الأميركية ووضعتهما أمام لحظة الحقيقة. نتنياهو يواجه أكبر أزمة في مسيرته السياسية قد تؤدي به إلى السجن بعد ترك منصبه. إنه مأزق يطال مجمل الحياة السياسية الإسرائيلية التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى سلسلةٍ من الأزمات المتتالية، مع تدهور في نوعية القادة السياسيين لم يشهده الكيان في السابق.

ابن سلمان الذي تمادى كثيراً في محاولاته للإمساك بمفاصل الحكم، ارتكب كل ما يمكن ارتكابه من أجل السلطة. لم يكتفِ بوهب ترامب ثروات بلاده دفعةً واحدة. ثروة الحاضر ومقدرات الأجيال المقبلة جمعها ابن سلمان كلها وقدمها لترامب مقابل الحكم. واليوم، ذهب الأخير، فكيف يبقى الحكم؟ لقد ساعده ترامب في حمايته حتى الآن من الغضب العالمي الذي صب على رأسه بعد إقدامه على قتل وتقطيع المعارض السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، فماذا سيفعل الآن مع إدارةٍ ديموقراطية؟

سبب آخر يجيب عن سؤالنا: لماذا السعودية؟ إن السعودية ببعدها الإسلامي، وبثقلها الديموغرافي والتاريخي والاقتصادي في منطقة الخليج، تمثل وفق الرؤية الإسرائيلية قفزةً في مسار التطبيع إلى حدود نقطة اللاعودة، فمع انضمام المملكة إلى البحرين والإمارات، ودخولها فلك "الدول المرشحة للتطبيع"، كالسودان والمغرب الآن، تكون تل أبيب قد قسمت العالم العربي إلى نصفين؛ نصف متحالف معها تحت غطاء التطبيع، وقسم آخر لا يزال يرفض التطبيع، وسيواجه بالضرورة ضغوطاً من القسم المطبع الذي سيحاول اجتذاب العرب الآخرين إلى خياره لتبريره. 

سيتحول النقاش العربي العام - وفق هذه الرؤية - إلى سياق ضغط على القوى الرافضة للتطبيع والمتمسكة بالحقوق العربية، في حين ستشعر الدول المنخرطة فعلياً في المقاومة بأنها معزولةً ومعاقبة ومستبعدة من النظام الإقليمي الذي يرسم للمنطقة. 

هذا على الأقل ما يحاول ابن سلمان ونتنياهو فعله اليوم، قبل أن يصل بايدن إلى البيت الأبيض. لقد كلّف التقرب من ترامب ابن سلمان حوالى نصف تريليون دولار والكثير من السيوف المذهبة والرقص والقهوة والابتسامات لكوشنر وزوجته. الآن، لا يبدو بايدن متحمساً لمثل هذه الافتتاحية الخارجية. لقد وصف السعودية وابن سلمان بأبشع الأوصاف، وقال إنهم يجب أن يعاقبوا، فكيف يمكن إرضاؤه؟ في الحقيقة، لم يعد هناك مال. أخذ ترامب كل شيء.

أما علاقة ما يجري باغتيال فخري زاده، فهي مسألة أخرى يجب التنبه إليها، فاغتيال العالم الإيراني الكبير جرى هذه المرة في ظلِّ أجواء مختلفة؛ أجواء تحالفية تظلل العلاقات الإسرائيلية مع كل من الإمارات والسعودية والبحرين، فيما تستفيد تل أبيب منها لتزيد حدة اعتداءاتها داخل الأراضي الإيرانية.

وهنا، تبرز إلى الواجهة مخاطر جديدة: هل تتحول الدول الخليجية القريبة من إيران إلى منطلق للأعمال العدائية الإسرائيلية ضدها؟ وأي فائدة يمكن أن تحصدها هذه الدول من إتاحة أراضيها لتنفيذ الجرائم الإسرائليية ضد جيرانها من الدول الإسلامية؟ أي خيار هذا الذي تدفع دول التطبيع باتجاهه؟ وهو سؤال يبقى صالحاً للمستقبل بصرف النظر عن استفادة تل أبيب من هذه العلاقات لتنفيذ عملية فخري زاده.

خسائر السعودية من التطبيع

يمكن إضافة النقطة الأخيرة إلى ملف خسائر السعودية من التطبيع الذي لم يعلن بعد، لكنه حين يتم ويخرج السعوديون والإسرائيليون مبتسمين معاً، سيكون ارتداده على المملكة مختلفاً عما كان عليه الأمر بالنسبة إلى الإمارات والبحرين. ليس التطبيع فحسب، بل إنَّ أخبار اللقاء هذا سيؤثر أيضاً بصورةٍ كارثية في السعودية من وجهة نظرٍ استراتيجية.

جزء أساسي من الاقتصاد السعودي يقوم على عائدات موسم الحج ومحطات العمرة والسياحة الدينية إلى المدن والمعالم الإسلامية الشهيرة. إنها عاصمة إسلامية أساسية وموطن الكعبة الشريفة والمدينة المنورة ومكة المكرمة، وهي بخطوة ابن سلمان هذه، تخسر بصورةٍ تلقائية مشروعية ريادتها للمشروع الإسلامي على المستوى الديني والثقافي، وخصوصاً بعد خسارة الوهابية معركة السمعة والصورة على مستوى العالم الإسلامي، فضلاً عن انهيار الخطاب الإسلامي السياسي في المملكة بعد سلسلة من الإخفاقات والتدخلات وتورط المجموعات الحاملة للعقيدة الوهابية في الإرهاب الذي ضرب المنطقة والعالم.

اليوم، ومع تخلّي الرياض عن ماء الوجه بدعم القضية الفلسطينية، تخسر آخر مداميك مشروعيتها الإسلامية لمصلحة الدول التي تعتقد أنها تتحصَّن ضدها بهذا التحالف المتكشف شيئاً فشيئاً مع "إسرائيل"، حتى لو لم تظهر ردود الأفعال الكاملة بعد. وإن كان صحيحاً عدم انتظار الكثير من الدول الإسلامية لناحية مواجهة الرياض ومنعها من الذهاب بعيداً في مسار التطبيع، لكن الجميع باتوا يعلمون موقع المملكة واتجاهها المستقبلي مع ابن سلمان، والمصير الذي ستواجهه من خلال ترك العالم الإسلامي والالتحاق بـ"إسرائيل"، لكنها تبدو فرصةً للدول الإسلامية المصرة على حمل لواء فلسطين. 

خطرٌ متوقع

لقد راهن ابن سلمان على حصان ترامب الخاسر بكل ما يملك وما لا يملك. وقد بدَّد ثروة الشعب السعودي الراهنة، وأضاف إليها ثروات الأجيال المقبلة، ووضعها في جيب ترامب من أجل مساعدته على الإمساك بالسلطة واعتقال عائلته وأقربائه والتنكيل بهم، وخسر الرهان.

أما اليوم، فهو يراهن على حصان أكثر هزالةً. لقد خرج ابن سلمان من حضن ترامب إلى حضن نتنياهو. ولأنه لا يملك ما يعطي، فإنه سيعطيه، كما يبدو، توقيعاً على اتفاقية تطبيعية تساعده على مواجهة خصمه الشرس بيني غانتس، ترتد على ابن سلمان تثبيتاً في الحكم. إن هذه المعطيات لا تبرر طلب السعودية حصول اللقاء بين نتنياهو وابن سلمان، بحسب الصحافة الإسرائيلية، فالخوف من تفعيل الاتفاق النووي مع إيران لا يمكن أن يكون مبرراً كافياً لدولة كالسعودية لتذهب بعيداً نحو التطبيع. 

إن خشية الرياض من العودة إلى الاتفاق النووي، كما خروج ترامب وبومبيو مطرودين من واجهة الأحداث، وتعزز فرص المحور الآخر من خلال عودة بايدن المرتقبة إلى المسار السياسي مع إيران - سواء ترجم ذلك بالعودة إلى الاتفاق النووي أو العودة إلى مفاوضات سياسية - إضافة إلى الفشل الكارثي لابن سلمان في اليمن، كلها عناوين تندرج ضمن خسائر المملكة اليوم، لكن الخطر الكبير يأتي من كثرة المآزق التي أدخل ابن سلمان السعودية فيها، فهل تجنح دول التطبيع - وتحت عنوان حاجتها إلى الحماية - إلى فتح الخليج أمام خطر بدء تواجد عسكري إسرائيلي هناك؟ قد تكون تلك آخر الخطايا.