مونديال الانتخابات الأميركية.. ترفيه على هامش السياسة
الفضول، التشويق، الترقّب، طبيعة النظام الانتخابي الأميركي، شخصية ترامب الجدلية، الأحداث التي رافقت الحملات الانتخابية.. عوامل تضافرت لتجعل من انتخاب الرئيس الـ46 لأميركا حدثاً درامياً تلفزيونياً. إنها مُشاهدة لأجل الترفيه حوّلت السياسة إلى "مونديال".
خلال الأيام الماضية، تحوّل جون كينغ إلى نجم تلفزيوني و"تراند" في وسائل التواصل الاجتماعي. يمكن القول إنه أحد النجوم الذين أفرزتهم الانتخابات الاستثنائية الأميركية 2020. كينغ هو كبير مراسلي قناة "CNN". رغم حرفيته، لم يكن نجمه ليشعّ لولا "جداره السحري"، كما وصفته صحيفة "الغارديان". "الجدار" المذكور ما هو إلا الشاشة التي كان يستعرض من خلالها النتائج المحدّثة لاستطلاعات الرأي وفرز الأصوات. بحسب "لوس أنجلوس تايمز"، إن جهود كينغ ونظرته الثاقبة جعلته يتحوّل إلى "أفضل لاعب" في الانتخابات.
على الأغلب، لم تكن هذه الإشادة لتُمنح له لولا مجموعة من الظروف والشروط التي رافقت العرض show: الشكل الجذاب على المستوى البصري، وطبيعة الاستقطاب الحاد والشحن التي رافق الانتخابات، والطلب المرتفع على التماس المعلومات ومواكبة المستجدات.
إضافة إلى هذه العوامل، ثمة أسباب أخرى دفعت الملايين إلى التسمّر أمام الشاشات والضغط على الهواف الذكية، ليس داخل الولايات المتحدة فحسب، إنما في جميع أنحاء العالم. جاذبية العرض الأميركي المستمر تدفع إلى الحديث عن التسلية والترفيه أكثر من السياسة، وإليكم أبرز الأسباب وراء ذلك.
"اللعبة" الديموقراطية الأميركية
ثمة عملية تخادم متبادلة بين النظام السياسي والانتخابي وبين التلفزيون في الأنظمة الليبرالية التي يحكمها السوق. على رأس هذه الأنظمة "الحرة" تتربع الولايات المتحدة الأميركية. كلاهما يسعى إلى الربح، الأول عن طريق ترسيخ صورة إيجابية حول النظام السياسي، والآخر يسعى إلى الربح المادي من خلال استقطاب المشاهدين.
من المبالغة حصر كل ما جرى ويجري على امتداد تغطية الانتخابات الرئاسية الأميركية بالترفيه والتسلية. هذا يقودنا إلى التمييز بين شرائح متنوعة من المشاهدين والمتابعين. هناك النخبة السياسية حول العالم (السلطات والقادة) التي كانت تتابع ما يجري انطلاقاً من انعكاس شخصية الرئيس الأميركي وتأثيرها في مجرى الأحداث والملفات الشائكة حول العالم. هذه الشريحة تختلف في مقاربتها واهتمامها عن الرأي العام الواسع بكل تلاوينه ومن ضمنه المسيّس وغير المسيّس.
هناك أيضاً فرق شاسع بين المشاهد الأميركي المعني عموماً (هنا أيضاً يجوز التمييز) بما يجري بصورة مباشرة باعتباره ناخباً، والجمهور غير المحدد وغير المرئي والمتعدد المشارب والاهتمامات خارج الولايات المتحدة.
يجوز الافتراض أن الجدية التي تطبع عملية انتخابية استثنائية ومفصلية في تاريخ أميركا لا تفترق كلياً عن دراما يساهم التلفزيون في صنعها وتقديمها ويتفاعل معها الجمهور. من قال إن السياسة لا تنطوي على ترفيه أو تسلية؟!
في النهاية، يختار المشاهد الطريقة والبرنامج الذي يزجي به وقته (وقت الفراغ) آخر النهار. بمعزل عن أي برنامج يتوجه إليه، فإن الهدف هو تمضية الوقت غالباً. يشكّل الفضول وطبيعة الاهتمامات دافعيين قويين إلى التماس المعلومات.
كان لافتاً وصف مرشد الجمهورية الإسلامية للانتخابات الأميركية بـ"الاستعراض". لاحقاً، أضاف السيد خامنئي عبر "تويتر": "الوضع في الولايات المتحدة وما يصفون به انتخاباتهم هو مسرحية".
هذا التوصيف لا يشذّ في الواقع عن خلاصة مجموعة من الدراسات والكتب التي تنتقد طبيعة الانتخابات في الأنظمة الديموقراطية الغربية. يتعزز هذا الموقف في ضوء شهادات من داخل النظام الأميركي. رالف نادر، المرشّح أربع مرات إلى انتخابات الرئاسة، سبق أن شنّ حملات سياسية على ما أسماه "ديكتاتورية الحزبين". يصف مجمل العملية الديموقراطية الأميركية بالقول: "إنّها عمليّة شاذّة، حيث الذين يملكون الثروات الطائلة، لكنّهم عديمو الكفاءة، يعتلون خشبة المسرح.. إنّهم يحوّلوننا إلى مُشاهدين، وتتحوّل الانتخابات إلى تسلية". (راجع: لماذا تفتقر الديموقراطية الأميركية إلى الألوان؟)
من دون الغوص كثيراً في شرح النظام الانتخابي الأميركي، فإنه يتمحور حول منازلات داخل كل من الحزبين الديموقراطي والجمهوري. لاحقاً، تتحوّل العملية إلى منازلة بين ممثل عن كل حزب. تتعزز هذه العملية من خلال التلفزيون الذي اقترن منذ اختراعه بالتسلية والترفيه. يمكن تشبيه مسار هذه العملية بمونديال كرة القدم. ترتفع نسب المشاهدة اطراداً كلما اقتربت التصفيات من الأدوار المتقدمة، وتبلغ ذروتها في الدور النهائي. تشبه المباراة النهائية مرحلة فرز الأصوات وما يرافقها من تحديثات على الشاشة.
يؤدي التلفزيون دوراً محورياً في مجمل هذه "اللعبة" الانتخابية. يغذيها بقدر ما يستفيد منها في استقطاب المشاهدين، ويحولها إلى ما يشبه مسابقة من مسابقات "تلفزيون الواقع". في المرحلة التي يبدأ فيها عرض الأصوات على الشاشة تباعاً، تُحبس الأنفاس ويرتفع الترقّب و"الأدرينالين".
من أجل هذا الاستقطاب، تسعى وسائل الإعلام، ولا سيما الأميركية، إلى تقديم المعلومات بطرق مختلفة. الهدف هو خلق الفضول والتشويق لقراءة القصة أو متابعة الخبر أو مشاهدة التقارير. يدور الحديث هنا عمّا يسمى بـ"المعلومة المرفّهة" (infotainment). هي عبارة عن تقارير وقصص تغلّف الأخبار الجدية بطابع مثير ومشوّق. من شأن هذا التوجه استقطاب شرائح جديدة من المتابعين من خارج النادي التقليدي لمتابعي الأخبار.
في كتابه "Le pouvoir des medias" (سلطة الميديا)، يرى غريغوري درفيل (Grégory Derville) أننا نشهد تحولاً في مركز ثقل الحياة السياسية نحو الإعلام، من خلال "المسرحة المتأصلة في ممارسة السلطة السياسية"، إذ يتم دعم الاتصال السياسي من قبل المتخصصين بما لديهم من أدوات وتقنيات اتصال. يشير بشكل خاص إلى استخدام السياسيين للتسويق السياسي.
المناظرات والتسويق وتلفزيون الواقع
لم يكن مستغرباً أن يرفض دونالد ترامب بشكل قاطع قرار لجنة المناظرات الاستعاضة عن المناظرة المباشرة التي كانت مقررة منتصف الشهر الماضي بمناظرة افتراضية. لم تكن شروط الأخيرة لتوافق مصلحته، ولا نقاط التفوق التي ربما يعتقد أن الأولى تتيحها له مقابل خصمه العجوز.
قال: "لن أضيع وقتي في مناقشة افتراضية. المناظرة لا تكون كذلك". يدرك ترامب الآتي من خبرة عريقة في برامج "تلفزيون الواقع" أهمية المناظرة المباشرة التي أصبحت من تقاليد الديموقراطية الأميركية. فرصة كهذه تتيح له على الأرجح التفوّق أمام الجمهور على غريمه الذي لطالما وصفه بـ"النعسان".
رغم ما تتيحه المناظرات للناخبين من فرصة لتحديد خياراتهم، فإنها تحوّلت مع الوقت إلى أضخم "شو سياسي" في العالم. في العام 2016، جذبت المناظرة الأولى بين كلينتون وترامب نحو 84 مليون مشاهد، وفقًا لمركز "نيلسن ريسيرش"، فيما حققت المناظرة الثالثة 71.6 مليون مشاهدة.
لكن الأمر لا يتعلق عند هذا المستوى بالديموقراطية فقط. لقد دخلت تقنيات التسويق منذ عقود إلى الديموقراطية الأميركية وحوّلتها إلى سلعة. كتاب "Le marketing de la peur" للكاتب سيرج ميشال (Serge Michels) واحد من عشرات الكتب التي تستعرض كيف غيّر التسويق واقع الحياة السياسية، وأدّى إلى انحدار في الممارسة السياسية. لا يختلف التسويق السياسي هنا عن تسويق المنتجات، وتطبَّق فيه جميع تقنيات تسويق السلع، من دراسة السوق، إلى التموضع، إلى الإعلانات، إلى تحسين الصورة، إلى الشعارات، وغيرها.
المناظرات الانتخابية الأميركية الحديثة بدأت في العام 1960 بين المرشح الديموقراطي جون كينيدي والجمهوري ريتشارد نيكسون. تعدّ هذه التجربة مثالاً بارزاً على أهمية المناظرات والتسويق السياسي و"العرض" (show) الديموقراطي الأميركي الذي يتفوّق فيه الشكل على المضمون.
يرى باحثون أن أحد الأسباب التي أدّت إلى خسارة نيكسون حينها يرجع إلى أنه بدا متوتراً أمام كاميرات التلفزة. رفض وضع "الماكياج" المناسب على وجهه، وبدأ يتصبب عرقاً، وبدا مرتبكاً ومرهقاً أمام الشاشات، مقابل كينيدي الذي بدا هادئاً ونشيطاً ومتماسكاً وأنيقاً.
المفارقة أن نتيجة المناظرة بالنسبة إلى الذين استمعوا إليها عبر الراديو ولم يشاهدوها على التلفزيون كانت لصالح نيكسون، إلا أن استطلاعات الرأي جاءت لصالح كينيدي، وكان التأثير الأكبر في ذلك للصورة التلفزيونية، وليس للصوت عبر الراديو.
وفق غريغوري درفيل، تعزز وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي مكانة كبار القادة السياسيين وشرعيتهم، ولا سيما خلال فترة الانتخابات، بحيث يمارس المرشحون خلال هذه الفترة ما يسميه الـ best-sellerisation، بمعنى الأعلى مبيعاً، وهو تعبير مستعار من التسويق التجاري، وترجمته إلى السياسة هي الحصول على أعلى نسبة من الأصوات.
مع دخول التسويق السياسي إلى عملية الاتصال السياسي، بات هدف رجل السياسة إقناع الجمهور وبيع نفسه تماماً مثل المنتجات. يتم تسويق السياسي عبر بناء صورته من قبل مستشارين ومتخصصين في الاتصال والتسويق السياسي (Spin doctors). يصبح الأهم كيف يرى ويتلقّى الجمهور ظهور السياسي على التلفزيون أكثر مما يقوله.
لا يمكن لكل ذلك أن يقلّل من قيمة اعتبارات أخرى شهدتها الانتخابات الرئاسية الأخيرة داخل الولايات المتحدة. من ذلك التحوّلات المجتمعية العميقة والانقسام الحاد حول الخيارات والتوجّهات السياسية وبرامج الرئيسين، ولا سيما ترامب.
كل ذلك لا يحول دون قاعدة أساسية: لا يمكن أن يُنتخَب أي مرشح من دون التلفزيون، فالتلفزيون يصنع الرابح.
شخصية ترامب الجدلية
لا ريب في أن شخصية دونالد ترامب الجدلية صنعت الاستثناء وشكّلت العلامة الفارقة التي وسمت انتخابات العام 2020. إنه الرئيس "المجنون" في نظر العالم، والذي ساهم التلفزيون بشكل خاص في تشكيل صورته النمطية. صورة لم يعتدها جمهور المشاهدين عبر العالم سوى في الأفلام. رئيس خارج اللياقات الدبلوماسية المعتادة، لا يتورّع عن إهانة حلفائه علناً، يؤدي حركات بهلوانية، يسخر بشكل لاذع، يصافح بطريقة غريبة، يرفض وضع قناع الوقاية من كورونا، ولا يتوانى عن اقتراح وصفات غريبة مثل المطهرات والمعقمات، ويرفض الإقرار بفوز منافسه، ويتشبّث بالسلطة حتى آخر رمق.
إنه شخصية كاريكاتورية ساهم الإعلام المناوئ له إلى حد كبير (القطاع الوازن من الإعلام الأميركي) في تلوينها وتشكيلها وتصديرها إلى الرأي العام الأميركي والعالمي.
سياسته الخارجية الخشنة والفظّة وانعكاساتها المباشرة والملموسة على الشعوب والدول، شكّلت دافعاً قوياً إلى متابعة الانتخابات الأميركية وترقّب النتائج. هو الرئيس الأميركي الذي أحدث ثقوباً في صورة أميركا "الديموقراطية والحرة" التي تريد تصديرها إلى العالم.
خلع القفازات الدبلوماسية وقناع أوباما الناعم، وأهدى خصوم أميركا وأعداءها ما لم يسبقه إليه أي رئيس أميركي. لولاه لما أقدم الرئيسُ الفنزويليُّ نيكولاس مادورو على تأكيد رفضه أنْ تُعطيَ واشنطن دروساً في الديموقراطيةِ لشعوبِ العالم.
لا شكّ في أن ترامب سيترك بصمته الخاصة في سجلّ رؤساء الولايات المتحدة الأميركية. مثل هذه الشخصية الإشكالية وما أفرزته من مواقف وآراء تشكّل من دون شكّ مادة جاذبة للقراء والمشاهدين.
الأحداث التي سبقت الانتخابات ورافقتها
أدّت التطورات المثيرة وغير المسبوقة التي شهدتها أميركا دوراً فعالاً في تقصي الأخبار وتتبع التطورات. بلغ التشويق والفضول أوجه خلال الانتخابات مع تواتر الحديث عن احتمالات جدية لاندلاع مواجهات وحروب أهلية روّجها الإعلام الأميركي وبعض الكتاب المخضرمين من مثل توماس فريدمان.
الغرابة والإثارة عاملان محرّضان على المتابعة والمشاهدة، فكيف إذا أضيف إليهما الغموض والأسباب السالفة الذكر؟
انتشار الميلشيات المسلّحة وأعمال العنف، بالتوازي مع تصاعد حدة الخطاب السياسي الانتخابي وحديث ترامب عن التزوير والتآمر وتلميحه إلى العنف، وامتداد عمليات فرز الأصوات، ولّدت موجات من الدراما السياسية، وأعطت زخماً مضاعفاً للتطورات المرتقبة.
بناء على ذلك، كان لمجريات الأحداث انعكاسات مباشرة على السياسة والاقتصاد العالميين. أشار خبراء البنك الاستثماري العالمي "غولدمان ساكس"، على سبيل المثال، إلى أن فوز بايدن ووصول الديموقراطيين إلى مجلس الشيوخ الأميركي قد يدفعهم إلى تحديث توقعاتهم بشأن الاقتصاد.
وزيرة الدفاع الألمانية أعربت عن قلقها "من وضع متفجر جداً" في الولايات المتحدة، إذ أعلن ترامب فوزه قبل انتهاء فرز الأصوات.
السكرتير الصِحافيُّ للرئيسِ الروسيِّ ديمتري بيسكوف أعلنَ أنَّ عدمَ اليقينِ في نتائجِ الانتخاباتِ في الولاياتِ المتحدةِ ستكون لهُ عواقبُ سلبيةٌ محتمَلةٌ على الشؤونِ الدَوليةِ والاقتصاديةِ.
وزير الخارجية الألماني هايكو ماس دعا إلى ضرورة "التحلي بالصبر وانتظار" انتهاء عمليات الفرز.
مثل هذه التصريحات كان من شأنها أن تضفي شرعية على "استثنائية" ما يحصل وأن تدمغه بـ"غير العادي"، وبالتالي دفع المشاهد وتحفيزه على المتابعة.
الجمهور المسيّس حول العالم كان الأكثر اهتماماً حكماً بنتائج هذه الانتخابات وتداعياتها، لكن البعد الجغرافي يؤدي دوراً حاسماً هنا في تحديد طبيعة الاهتمام ودرجته. قد تُشجّع المنتخب البرازيلي أو الألماني على بلوغ الأدوار النهائية والظفر بكأس العالم. في كلا الحالتين، سواء ربح فريقك أو خسر، أنت تعلم أنها ليست مسألة حياة أو موت. رغم ذلك، أنت تشاهد لأجل المتعة والترفيه.