أميركا التي لم تعد "عظيمة".. ترامب وحده قادر على ذلك
تُعتبر السنوات الأربع الفائتة من حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب كارثيةً على مستوى سمعة البلاد وصورتها كإمبراطورية قائدة للحضارة الغربية، وتدميره لنموذج أرض "الحلم الأميركي" الذي لطالما شكل الصورة اللامعة لمشروع واشنطن لقيادة العالم.
لم تعد مظاهر التسلح وانتشار الميليشيات الشعبية المسلحة في شوارع المدن الكبرى والأرياف حكراً على دول العالم الثالث. لقد انتقلت هذه الظاهرة لتطال دولاً في العالم الأول مع انتشار موجة السياسات الشعبوية والتطرف اليميني في هذه الدول. لكن اللافت في الآونة الأخيرة، هو انتشار المسلحين في شوارع المدن الأميركية التي تشهد أشدّ موجة عنف سياسي باتت تهدد الولايات المتحدة بمصيرٍ قاتمٍ في أمنها الاجتماعي، واستقرارها السياسي، وموقعها القيادي على مستوى العالم. ماذا فعل ترامب بأميركا؟
أرض الأحلام والفرص
لقد ساهمت السياسات التي اعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في زيادة منسوب التوتر في المجتمع الأميركي إلى حدودٍ قياسية لم تعرفها البلاد منذ عقودٍ طويلة.
فلطالما تفاخر الأميركيون بأن بلادهم هي أرض الحريات، وجنة الديمقراطية، وأسسوا لدعاية سياسية واجتماعية واقتصادية تبرز تفوّقهم الحضاري على بقية العالم، تحت عنوان كبير ولامع هو "الحلم الأميركي".
وفي الحقيقة، فإن هذه السياسة المروّجة عبر كبريات وسائل الإعلام التقليدي وعبر ماكينة "هوليوود" العملاقة، أثّرت إلى حدٍ كبير في شرائح واسعة جداً من شعوب العالم. فتهافت الناس من كل حدبٍ وصوب على طلب الهجرة إلى أرض الأحلام التي تضمن معايير حياةٍ أفضل، ومستويات مرتفعة من الرخاء والنمو الاقتصادي والأمان الاجتماعي والفرص التي لا تنتهي.
لقد تميزت الإمبراطورية الأميركية عن الامبراطوريات الحديثة الأخرى كالامبراطورية البريطانية بقوّتها الناعمة المضافة إلى القوى العسكرية والاقتصادية. وكانت الحجّة المُقَدّمة لتمييزها عن الامبراطورية البريطانية نوعية من ناحية شمولها لقوة "البرمجيات"، وتبعاً للمنظّر الأميركي جوزيف ناي، عميد مدرسة كينيدي التابعة لجامعة هارفرد وصاحب نظريّة القوة الناعمة، فإنه يمكن لدولة ما الحصول على النتائج التي تتوخاها في عالم السياسة لأن الدول الأخرى تريد اتّباعها، والتعبير عن الإعجاب بقيمها، ومحاكاة نموذجها، والطموح لمستواها من الرخاء والانفتاح؛ أي أن القوة الناعمة التي اعتمدتها الولايات المتحدة كنظريةٍ لنشر تفوّقها الامبراطوري تعني الحصول على ما تريده دون اللجوء إلى "القوة أو الإقناع أو الحث"، إما العصا أو الجزرة: "إنها القدرة على الإقناع والاجتذاب، من دون جهد، وهي تنبثق في جزئها الأكبر من القيم".
وفي الحالة الأميركية تأتي القوة الأميركية بحسب ناي من كونها "مدينة متلألئة على قمة التل"، "أورشليم جديدة مغرية من ناحية الحرية الاقتصادية والسياسية". لقد آمن ناي بأن استخدام الولايات المتحدة للقوة الناعمة في عصر ما، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي هو العمل المطلوب للحفاظ على تفوّق الامبراطورية الأميركية.
لكن ما الذي جرى بعد ذلك؟ لقد أتى جورج دبليو بوش بحروب الراغبين، وبنظرية من ليس معنا فهو ضدنا، واجتاح دولاً باستخدام القوة العسكرية الفتاكة، وأودى بالسمعة والصورة الأميركيتين إلى هاوية التقدير الشعبي العالمي، جاعلاً من بلاده غولاً مكروهاً غير مُهاب. ذلك أنّ ما من مكان في هذا العالم إلا وتجرأت قوة فيه على تحدي الامبراطورية العظمى في التاريخ، فخسر المشروع الأميركي المعركة تلو الأخرى، من أفغانستان إلى العراق، ومن جنوب لبنان إلى أميركا اللاتينية، ومن صعود القوى الناشئة إلى تضخم قوة الصين الناعمة على حساب أميركا الجمهوريين غير الناعمة.
تراجع الامبراطورية ومحاولات أوباما
لقد اعتمد نموذج "الحلم الأميركي" على النمو المستدام على المستوى الاقتصادي، وهذا الأخير استند بدوره في البداية إلى الاستقرار السياسي والانعزال الجغرافي عن صراعات العالم التي لطالما كان للولايات المتحدة يد طائلة في قيادتها وتوجيهها وتسعيرها واستخدامها في تغذية نموذج التفوّق الأميركي.
لكن الامبراطورية الأميركية تدهورت بسرعة فائقة لا يماثلها أي تدهور لامبراطورية من الإمبراطوريات المعروفة عبر التاريخ. إنها مسألة سنواتٍ قليلة فقط، مرّت منذ انتصارها على المعسكر السوفياتي، لتبدأ بعدها واشنطن بالمعاناة على مستوى قيادتها للعالم. عام 2003 واجهت رفضاً عارماً حول العالم لنواياها في اجتياح العراق. لكنها ذهبت مع حلفاء مختارين واجتاحته، ودفعت فيه أثماناً مادية وبشرية كبيرة، ومن ثمّ اضطرّت إلى الانسحاب منه.
لقد أودت سنوات حكم بوش بهيبة الولايات المتحدة على المستوى العالمي، وجاءت الأزمة المالية العالمية التي بدأت من أميركا لتكمل ما بدأه بوش الإبن في موضوع تقهقر القيادة الأميركية في العالم، فصعدت قوى ناشئة بوجه واشنطن، وتشكّلت "بريكس" بين عامي 2008 و2009، ووصل باراك أوباما إلى السلطة ليحاول ترميم الكوارث الاستراتيجية التي تسببت فيها سنوات بوش الثمانية في البيت الأبيض.
رفع أوباما في حملته الانتخابية شعاراً خلاّقاً يُحاكي هواجس تلك السنوات "نعم، نستطيع". لقد كان شعاراً بالغ التأثير في الناخبين حيث أعاد الأمل إلى صفوفهم بعدما سئموا من تهّور المحافظين الجُدد ورئيسهم جورج دبليو بوش.
منذ الولاية الأولى، حاول أوباما أن يحقّق الإنجاز الذي عجز عنه أسلافه. فأطلق جهوداً مُكثفة في مراتٍ متكرّرة للوصول إلى سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، غير أن جهوده اصطدمت بسرعة بتعنّت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لقد حرص أوباما على تقديم صورة الوسيط غير المنحاز بين الطرفين فأصبح أداء نتنياهو أكثر تطرفاً وعدائية ضد أوباما نفسه. حتى أن المتحدّث باسمه ران براتس استخدم الاتهامات الجاهزة لبروباغاندا مُعاداة الساميّة ضدّ أوباما شخصياً ووصف وزير خارجيته جون كيري بالمهرّج. وعلى الرغم من عدم تمكنه من تحقيق هدفه بالوصول إلى اتفاق بين الطرفين، إلا أن الرئيس الأميركي تمكن نسبياً من الحفاظ على صورة الوسيط النزيه، ليبقى الملف الفلسطيني-الإسرائيلي بيد واشنطن في المرحلة المقبلة.
كما تمكن من التوصل لتوقيع اتفاق مع طهران والدول الخمس الأخرى حول الملف النووي الإيراني، ثبّت من خلاله قدرة بلاده على التفاهم مع خصوم تاريخيين، وثبّتت إيران في المقابل حقها في استخدام الطاقة النووية لأغراضٍ سلمية. لقد أعطى هذا الاتفاق أملاً جديداً في المنطقة، وفتح باب الاستثمار أمام الشركات الغربية لتدخل السوق الإيرانية وتعمل فيها، حيث الفرص الكبيرة والمجالات غير المستغلة، والأفق إيجابية على مختلف الصعد. لقد كان سلوك أوباما للاتفاق مع إيران واقعياً ويعبّر عن فهم عميق لطبيعة النظام الدولي وتوازن القوى في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى فهم لموقع الولايات المتحدة واتجاهها الانحداري، ولضرورات حفظ القوة وتقنين استخدامها، والاستعاضة عن المخالب بمضامين القوة الناعمة التي تحدّث عنها ناي.
لقد أجرى أوباما تحولاً كبيراً في اتجاهات الأمور، فربح جائزة نوبل للسلام. إنها صورة مناسبة لرئيس الإمبراطورية العظمى الساعية للسلام. ثم تقدّم أوباما نحو معالجة شؤون أخرى على الساحة الدولية، محتفظاً بكامل الهيبة المتبقية من عهد بوش الإبن. فذهب بذلك إلى كوبا، وأنهى سنواتٍ طويلة من القطيعة والعداء. لقد عادت أميركا لتبدو عظيمة مجدداً، بعد سنوات من جموحها غير المبرر وغرقها في الحروب التي أعادت من وراء البحار آلاف التوابيت الملفوفة بعلمها.
لقد انسحب أوباما من العراق وأفغانستان؛ ثم توجّه إلى هافانا في الوقت الذي لم يتوقّع أحد هذه الخطوة. عشرات السنوات من العداء انتهت، مد الرئيس الحاذق يده ليحاول احتواء نظيره الكوبي راوول كاسترو بحركةٍ تُظهر أميركا العظيمة بصوة لا تعادي الاختلافات.
وعلى الرغم من تعرّضه لحربٍ ضروس من قِبَل معارضيه في الداخل على خلفية اعتماده ما اعتبروه "نهجاً انسحابياً"، إلاّ أن الأميركيين يحسبون له تنفيذ تعهده بملاحقة أسامة بن لادن حتى آخر الأرض وقتله.
لقد أوقف أوباما التدهور الاقتصادي الذي أعقب الأزمة المالية العالمية عام 2008 ، مما زاد من تدخّل الدولة في تدعيم الأوضاع المعيشية للمواطنين. فبعد تدخّله لنجدة المؤسسات المُتعثرة بفعل الأزمة، شكّل برنامج "أوباما كير" لإصلاح نظام الرعاية الصحية محطة أخرى تُعبّر عن أسلوب الرئيس ومشروعه لتوفير التأمين الصحي الإلزامي للأميركيين بتكلفة منخفضة، ومنع شركات التأمين الصحي من رفض تغطية أفراد يعانون من مشكلات طبية حالية أو سابقة. وعلى الرغم من توجيه الجمهوريين الضربات تلو الأخرى لهذا المشروع فإن ذلك لم يمنع تحوّل أوباما إلى منقذٍ عند ملايين الأميركيين الذين كانوا يحلمون بتقاعدٍ آمن.
وإلى جانب ذلك كله، وصل مؤتمر باريس إلى اتفاقية حول الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري تاريخياً. وقد شكّلت الموافقتان الأميركية والصينية على الاتفاق أهمية قصوى، كون الدولتين هما من عارضتا لسنوات طويلة الصِيَغ المطروحة لخفض الانبعاث تحت ذريعة الحاجة إلى النمو، وحجم الاقتصاد الوطني لكل منهما وحجج أخرى. لقد بدت أميركا إمبراطورية مؤمنة بالحفاظ على الكوكب على الرغم من الكلفة العالية لذلك على مستوى التنافس حول النمو الاقتصادي. لكن كيف أكمل ترامب مسار الإمبراطورية؟
ترامب وتعرية النموذج
منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى البيت الأبيض، بل قبل ذلك، منذ خطابات حملته الرئاسية الأولى، بدأ الرئيس الجمهوري مسار تدمير صورة أميركا الديمقراطية وصاحبة التفوق القيمي، وقائدة الحضارة الغربية، ورائدة الحريات المتربعة على رأس العالم الأول، والقوة العظمى القادرة على قيادة العالم من خلال جاذبية نموذجها الحضاري، كما كان جوزيف ناي يحبّ أن يعتقد.
لقد انسحب ترامب من الاتفاقيات التي أنجزها أوباما، الواحدة تلو الأخرى. بدأ بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ففجّر الشرق الأوسط، وسعّر الصراعات التي كانت تتجه نحو الاستقرار، ونسف دور بلاده وصورتها التي جهد أوباما في تقدميها، كوسيطٍ نزيه لحل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فانحاز بصورةٍ فضائحية إلى الطرف الإسرائيلي، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، متجاوزاً كل قرارات الأمم المتحدة، والمواقف العربية والأوروبية والعالمية الرافضة لذلك، بل أنه تجاوز كل تاريخ المواقف الأميركية المؤكدة على حل الدولتين، ليزرع بذور توتر جديدة في بيئة الصراع الذي لم يهدأ يوماً. وأوغل في ضرب الحقوق العربية في فلسطين ولبنان وسوريا، من خلال دعمه لاتفاقيات التطبيع ولسيطرة "إسرائيل" على الأراضي المحتلة في الجولان وجنوب لبنان، والضغوط التي تمارسها بلاده على القوى المقاومة لهذا الظلم الموصوف. إنها محطة ستضرب صورة أميركا في الشرق الأوسط لسنواتٍ طويلة.
بعد ذلك، انسحب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، فأعطى صورةً عن عدم إيمان بلاده بخفض الانبعاثات الملوثة، وبالتالي إضافة محطة جديدة من محطات ضرب الدعاية الأميركية التاريخية.
لقد ساهمت سياسات ترامب وأسلوبه غير المنضبط وغير اللائق في الكثير من المناسبات، وشهرته بعدم احترام الدول الأخرى، من الحلفاء والخصوم على حد سواء، في ضرب كل مكاسب الدعاية الأميركية للنموذج المتفوّق حضارياً وقيمياً، والذي دأبت هوليوود على نشره عبر العالم، لإقناع البشر بأن الأميركي متحضر بطبيعته، وأنكم جميعاً يجب أن تسلّموا بتفوّقه وتتركوا له قيادة العالم، لا بل أنكم جميعاً يجب أن تحاولوا تقليده. واليوم، يمكن القول إن الذين يرغبون في العيش في ظل نموذج أميركي يشبه ترامب أقل من الذين كانوا يرغبون بعيش النموذج الأميركي قبل أربع سنوات. إن شعوب العالم تنفر من النموذج الذي قدّمه عن بلاده.
ومع انتشار فايروس "كوفيد 19"، بدت كارثية الحملة التي خاضها الجمهوريون ضد باراك أوباما وبرنامجه واسع الشعبية بين الأميركيين "أوباما كير"، وبدا أيضاً فشل أميركا ورئيسها في مواجهة هذه الجائحة وحماية صحة الأميركيين، ليستعيض الرئيس عن العمل لوقف الجائحة، بالإصرار على إلقاء اللوم على الصين للتهرب من مسؤولياته.
لقد هدد ترامب الدول والمنظمات وعاقبها، وعاقب الأفراد، وشن الهجمات، وقتل بصورةٍ مباشرة الخصوم السياسيين، وقضى على الحريات في بلاده، وأوصل أميركا إلى حال مخيفة من التوتر المجتمعي، وقضى على الاستقرار الاجتماعي والأمني الذي كانت تتغنى به البلاد. إن شوارع الولايات الأميركية الخائفة من النزول إلى الاقتراع تُعتبر أوضح صورةٍ عن أميركا اليوم. إنها إمبراطورية عنيفة لا تحترم الحريات، بل تقتل مواطنيها الملونين خنقاً في الشوارع، وتهدّد ميليشياتها بالقتال وبعدم تسليم السلطة في حال خسارة ترامب.
لقد اشتهرت منذ القرون الوسطى نظرية تداول الحضارات، والتي اعتبر ابن خلدون في مقدمته أنها صيرورة لابد منها، وأنّ الدول تبدأ صغيرة ثم تنمو وتنطلق وتكبر وتقوى ثم تشيخ وتضعف وتنتهي، والإمبراطوريات كذلك.
واليوم ومع تعرية ترامب للدعاية الأميركية، وإظهاره لصورة النظام الحقيقي في أميركا، فإن الأمور تسير على نحوٍ سيءٍ وربما تتحول دراماتيكياً إلى مصير قاتم. لكن أحداً من منظّري ما بعد انتصار الرأسمالية على الاشتراكية، لم يكن ليتوقع أن تسود الفوضى المجتمع الأميركي، وصولاً إلى مشارف الحرب الأهلية. ترامب وحده قادر على فعل ذلك.