من انقلاب الليثيوم إلى بوليفيا المستقبل
الانتخابات تعيد حزب موراليس إلى السلطة في بوليفيا، وتوقف موجة الانقلابات المدعومة أميركياً، فهل تطلق مساراً معاكساً؟
لم يعش الانقلاب الذي دعمته الولايات المتحدة الأميركية في بوليفيا لأكثر من عامٍ واحد. إنها إشارة مهمة جداً على كل المستويات، لكن أهم ما فيها هو أنّ الانقلاب الأميركي هناك لم ينتهِ بانقلاب مضاد، بل بانتخاباتٍ شعبية أعادت حزب الرئيس السابق إيفو موراليس إلى السلطة عبر مرشّحه لويس آرسي، والَّذي بات اليوم الرئيس الجديد للبلاد، متسلّحاً بفوز مدوٍ.
قبل عام، استقال موراليس الذي كان رئيساً منتخباً لولايةٍ رابعة، وتسلَّمت جانيني أنييس إدارة البلاد، حيث تلقت دعم القوى اليمينية والجيش. وفسرت تلك الخطوة على أنها استكمالٌ للاجتياح الأميركي لأميركا اللاتينية، من خلال انقلابات تطيح بالرؤساء اليساريين لمصلحة آخرين من حلفاء واشنطن. أما اليوم، فيعود حزب الحركة من أجل الاشتراكية إلى الحكم، من خلال فوزه في انتخابات رئاسة البلاد عبر آرسي، وفي مجلسي النواب والشيوخ.
وإذا كانت واشنطن تفضّل التعاطي مع دول أميركا اللاتينية بأسلوبين، أولهما الانقلابات العسكرية، وثانيهما الضغط الاقتصادي، فهي اليوم أمام فوز رئيس بوليفي جديد صنع اسمه وصعد سلّم التأثير السياسي والتحشيد الشعبيّ من خلال إدارته وزارة الاقتصاد لثلاث دورات متتالية في عهد الرئيس السابق موراليس.
لذلك، هذا الفوز لا تنحصر آثاره داخل بوليفيا، بل إنه يشكل مؤشراً مهماً على هشاشة الأدوات التي تنصّبها واشنطن حكاماً في القارة الجنوبية أمام الاحتضان الشعبي للحكام الاشتراكيين المنبثقين من تجارب تلك الشعوب، والذين صنعوا معجزات اقتصادية في البرازيل وبوليفيا وغيرهما، أوصلت البرازيل على سبيل المثال إلى أن تكون واحدة من أكبر الاقتصادات الناشئة في العالم، وإحدى دول "بريكس" الخمس، فكيف اعتادت واشنطن أن تدير سياستها الخارجية في أميركا اللاتينية؟
السّياسة الأميركيّة في أميركا اللاتينيّة
في مطلع شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، رسم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خلال خطاب له في مركز ماكونيل التابع لجامعة لويزفيل في ولاية كنتاكي، الأطر العامة والملامح المحددة للسياسة الجديدة للولايات المتحدة تجاه أميركا اللاتينية.
ووصف بومبيو السياسة التي تديرها إدارة الرئيس دونالد ترامب بأنها ترتكز على "الواقعية الدبلوماسية وضبط النفس والاحترام في أميركا اللاتينية"، معتبراً أن بلاده ترى "الطبيعة البشرية كما هي، لا كما نتمنى أن تكون"، في إشارة منه إلى تقبل الاختلافات الثقافية والسياسة بين الأميركيتين، لكن ذلك لم يكن ملموساً على الأرض، إذ سعت واشنطن تحت إدارته لوزارة خارجيتها إلى الإطاحة بأكبر عددٍ ممكن من الأنظمة التي تعبّر عن هذا الاختلاف، والذي يقول بومبيو إنه يتعاطى معه كما هو، لا كما يحبّ أن يكون.
وتبدو الانحرافات المنطقية في كلام بومبيو عن أميركا الجنوبية واضحة، فهو يعتقد أن "العديد من الدول اللاتينية تتقدم نحو الأفضل، وخصوصاً في مجالات الديموقراطية والرأسمالية والحكم الرشيد، بعيداً من الدكتاتورية وما يتبعها من فساد في السلطة"، كما عبّر. والمقصود بذلك هو تلك الأنظمة التي أسَّستها بلاده عبر الانقلابات العسكرية، والتي تعود الشعوب اليوم لترفضها في صندوق الاقتراع، فهل من الممكن أن ترفض الشعوب "التقدم في مجالات الديموقراطية والحكم الرشيد"، وتعود لتأييد "الديكتاتورية والفساد في السلطة"؟
حين أسقط الجيش المدعوم من واشنطن موراليس قبل عام، رأى ترامب أن ما حدث "أمر مهم بالنسبة إلى نصف الكرة الغربية"، وأن الرئيس البوليفي "تجاوز إرادة شعبه"، وأن استقالته "فتحت طريقاً جديداً لإسماع أصوات شعبه للعالم أجمع". أما اليوم، فها هي الإرادة الحقيقية لشعب بوليفيا مناقضة لما زعمه ترامب قبل عام واحدٍ فقط.
ولواشنطن في أميركا اللاتينية تاريخ طويل جداً من دعم الانقلابات، فهي دبّرت ودعمت ونفَّذت انقلابات وتدخلات عسكرية عديدة هناك، فانطلاقاً من دعمها الجيش لإجبار الرئيس موراليس على الاستقالة في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، يمكن العودة بالتاريخ لتتبّع تاريخ واشنطن في هذا السياق الذي يعود إلى أكثر من مئة عام.
قبل تلك الأعوام المئة، احتلّت واشنطن كوبا وبورتوريكو، ثم دعمت القوات الانفصالية في كولومبيا لتسيطر على مشروع قناة بنما، ثم اعترفت بانفصال بنما عن كولومبيا في العام 1903 لتحصل على القناة، وحافظت على نفوذ لها هناك. وحين تضاربت مصالحها مع الجنرال مانويل نورييغا، احتلّت بنما في العام 1989.
كما احتلَّت نيكاراغوا في العام 1912، وعادت واحتلّتها في العام 1934، ودعمت قوات "كونترا" اليمينية للإطاحة بالحكومة اليسارية في العام 1981، الأمر الذي أدى إلى مواجهات دامية. وفي المكسيك، في أميركا الوسطى، دعمت واشنطن انقلاباً عسكرياً في العام 1913 أطاح بالرئيس ماديرو، وأتى بالجنرال فيكتوريانو هويرتا رئيساً.
وفي العام 1915، احتلَّ الجيش الأميركي هايتي، ودعمت واشنطن نظام العبودية بقيادة الديكتاتور جان فيلبرون غيوم، ثم انسحبت في العام 1934 قبل أن تعود وتحتلّها بعد ستين عاماً، إثر انقلاب أطاح بنظام جان برتران أريستيد. وفي العام 1954، أطاحت برئيس غواتيمالا المنتخب ديموقراطياً خاكوبو آربنز بعملية عسكرية، ونصّبت كارلوس كاستيو أرماس مكانه، ليفتتح سلسلة من الديكتاتوريات المدعومة أميركياً.
أما جمهورية الدومينيكان، فكانت لها حصةٌ أيضاً من التدخل الأميركي، إذ دعمت واشنطن الديكتاتور ليونيداس تروخيو مولينا ليحكم منذ العام 1930 وحتى اغتياله في العام 1961. وفي العام 1965، تدخَّلت للإطاحة بالحكومة اليسارية المنتخبة، عبر جنرالات موالين لها، واضطرّت إلى التدخّل المباشر واحتلال البلاد.
كما احتلّت جزر غرينادا في العام 1983 لمواجهة النفوذ السوفياتي في المنطقة، ولتبقي الجزيرة تحت النفوذ الأميركي. وفي تشيلي، ساندت في العام 1973 انقلاب أوغستو بينوشيه، بحسب وثائق للمخابرات الأميركية تم الكشف عنها في العام 2000.
ولأميركا حكاية طويلة أيضاً مع فنزويلا. وليست خفيةً السياسة التي تمارسها واشنطن اليوم ضد حكم الرئيس نيكولاس مادورو، وقبله المحاولات العديدة الفاشلة التي حاولت من خلالها الإطاحة بالرئيس السابق هوغو تشافيز. وبعد فشل كلّ تلك المحاولات، ها هي واشنطن اليوم تهدّد عبر رئيسها دونالد ترامب بالقول إنَّ "إرسال قوات أميركي إلى فنزويلا يبقى خياراً مطروحاً".
وإضافةً إلى تلك الانقلابات، دعمت واشنطن انقلابات أخرى عديدة خلال فترات زمنية مختلفة في دول بوليفيا، البرازيل، الأرجنتين، كوبا، الدومينيكان، السلفادور، غواتيمالا، غيانا، الهندوراس، المكسيك، وبنما، وذلك عبر حركات متطرفة ومعادية للديموقراطية وديكتاتوريين دمويين.
من انقلاب الليثيوم إلى بوليفيا المستقبليّة
لقد كشف الرئيس السابق موراليس عن السبب الحقيقي الذي يزيد حماسة الولايات المتحدة للتدخّل في بوليفيا، وبالتالي السبب الرئيس للانقلاب الذي دعمته واشنطن ضدّه، وهو، بحسب قوله، السيطرة على ثروة بوليفيا الضخمة من الليثيوم.
وحين دعمت واشنطن الانقلاب عليه، كان موراليس يسعى إلى إبرام اتفاقيات لاستخراج الليثيوم مع روسيا والصين. إنه انقلاب ضد الليثيوم، على حد وصف الرئيس البوليفي السابق، لأنَّ الدول الصناعية "لا تريد أية منافسة". لقد كانت بوليفيا على وشك أن تحدّد سعر الليثيوم في السوق العالمي، وهي دولة صغيرة لا يتخطّى عدد سكانها 10 ملايين نسمة.
لقد استعاد موراليس بلاده من براثن التدخّل الخارجي لأسباب اقتصادية وجيوسياسية، وأعطت بوليفيا نموذجاً من خلال هذه الانتخابات لبقية الدول الجارة، من خلال إعادة خيارها السياسي إلى السلطة، على الرغم من محاولات واشنطن منع ذلك بالوسائل كافّة، ووجود ترامب المتحفّز دائماً للابتزاز السياسي في البيت الأبيض، فهل تتأثر الدول اللاتينية الأخرى بانتخابات بوليفيا؟
دومينو لاتينيّ؟
لقد عكفت السياسة الخارجية الأميركية في أميركا اللاتينية على ممارسة التدمير الاقتصادي لدول المنطقة، لاستتباعها والسيطرة عليها بأقل جهد ممكن، وهي تحاول إعادة هندسة الأنظمة هناك سياسياً واقتصادياً. لقد كانت البرازيل إحدى الدّول المهمّة التي تضع الولايات المتحدة عينها عليها، كعملاق اقتصادي في أميركا الجنوبية قد يمارس دوراً كبيراً في محيطه، في ما لو تمكَّن من الاستقرار على المستوى السياسي.
في آب/أغسطس 2019، أعلن ترامب أنَّ دولة البرازيل هي الحليف الأكبر للولايات المتحدة خارج منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأمر الذي اعتبر على نطاقٍ واسعٍ أنه أحد المواقف المسرحية التي عادةً ما يطلقها ترامب المعروف بأسلوبه الفريد، لكنّ التبحّر في موقع البرازيل وحجمها ودورها الإقليمي، والدولي الآن، يبرز الجوانب المخفية من تصريح ترامب.
وعلى الرغم من ذلك، جاءت الردود يومها من الداخل الأميركي، إذ اعتبر جنرالات وسياسيون أنَّ البرازيل غير قادرة على أن تكون حليفاً أساسياً في منظمة حلف شمال الأطلسي لأسباب جغرافية وعقائدية وفكرية، إذ إن العقليتين الأوروبية والغربية مختلفتان كلياً عن العقلية في القارة اللاتينية، لكن اعتبار واشنطن أن البرازيل حليفتها الكبرى لم يكن ليحدث في عهد ديلما روسيف أو لولا دا سيلفا، إنما في العهد الحالي للرئيس جاير بولسونارو.
وبعد فشل السياسة الأميركية في بوليفيا اليوم مع عودة حزب الحركة من أجل الاشتراكية إلى السّلطة، فإن موجة قلب الأنظمة الاشتراكية بدعم أميركيّ لا تبدو قادرة على الاستمرار أمام الإرادة الشعبية التي يتمّ التعبير عنها في الانتخابات، بل من المرجّح أن تعود الأحزاب اليسارية بقوّة إلى السلطة في القارة اللاتينية لثلاثة أسباب أساسية:
يرتبط السّبب الأول بفشل هذه الأنظمة الحليفة لواشنطن في تحسين حياة المواطنين، علماً أنها أتت بانقلابات أو بانتخابات على ظهر خطابٍ اقتصادي بالدرجة الأولى ينتقد الحكم اليساري وآلياته، ويعد بالنموّ والرفاه للمواطنين.
أما السّبب الثاني، فيرتبط بفشل هؤلاء الحكام اليمينيين بأغلبيتهم في مواجهة جائحة كورونا وآثارها الصحية والاقتصادية. ومن بين هؤلاء بولسونارو نفسه، الذي درج على الاستخفاف بالوباء القاتل، والمجاهرة بعدم أخذه على محمل الجد، تماماً كما يُتّهم ترامب من قبل خصومه.
ويتعلّق السبب الثالث بامتداد النموذج البوليفيّ إلى دول الجوار، وفي طليعتها البرازيل، ذلك أنّ الرسالة الأساسية التي أعطاها البوليفيون لجيرانهم تتمثّل بواقعية الإصرار على تحقيق إرادتهم، في مواجهة الإرادات الخارجية والمشروعات الأميركية التي تحاول اليوم إخماد شعلة اليسار في القارة اللاتينية، والتي لا تلبث أن تعود فتشتعل عند كلّ استحقاق ومناسبة.
تراهن الولايات المتّحدة على البرازيل بقيادتها الحاليّة كمحطَّة أساسية في القارة الجنوبية. لقد وقّعت برازيليا وواشنطن قبل أيام مذكّرة تفاهم لتوثيق روابطهما التجارية، تعهّدت في إطارها الولايات المتحدة بتقديم مليار دولار لتمويل واردات البرازيل من منتجاتها، في محاولة لإقناعها بمنع شركة "هواوي" الصينية من تطوير شبكات الجيل الخامس على أراضيها. ويجد ترامب دعماً قلَّ نظيره عند نظيره البرازيلي الذي قال بعد توقيع الاتفاق: "بإذن الله، آمل بأن أحضر حفل تنصيب رئيس الولايات المتحدة الذي سيُعاد انتخابه قريباً".
لكنَّ البرازيل ليست بعيدة على الإطلاق عن السيناريو البوليفي، فاليسار فيها متجذّر. أما بولسونارو، فإن الأسباب الثلاثة السالفة الذكر قد تطيح به، ولا سيَّما أن بقاء ترامب نفسه في السلطة بات على المحكّ، وذلك ضمن سياق مرتدّ على القيادات اليمينية التي أتت ضمن موجة واحدة، وقد ترحل في موجة شبيهة، لكن معاكسة في الاتجاه.