أحداث قرغيزستان تحت مجهر الجيران

الأوضاع المستجدة التي تشهدها جمهورية قرغيزستان تطرح أسئلةً مهمَّة عن مستقبل البلاد السياسي، وعن تأثير الاضطرابات الحالية في الدول المجاورة، ولا سيما روسيا والصين، اللتين تسعيان إلى أكبر قدر من الاستقرار في الفناء الإقليمي المتاخم لهما.

  • تظاهرات في قرغيزستان (أ ف ب)
    تظاهرات في قرغيزستان (أ ف ب)

منذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر، تشهد جمهورية قرغيزستان الواقعة في آسيا الوسطى أوضاعاً غير مستقرَّة واحتجاجات تطوّرت إلى اشتباكات، أساسها الخلافات بين أحزاب ومقاطعات جهوية وعشائر، في صراع طويل ومحموم على السلطة. 

وعلى الرغم من عرض الرئيس سورونباي جينبيكوف الاستقالة بمجرَّد تعيين حكومة جديدة، فإنَّ البلاد لم تهدأ، الأمر الّذي ينذر بالمزيد من المخاطر، وخصوصاً أن المنطقة المحيطة بها تغلي على وقع التوتر الكبير بين أذربيجان وأرمينيا والاصطفافات الإقليمية إلى جانب كلّ منهما.

يمكن إعطاء تفسيرات كثيرة للأحداث المتسلسلة التي شهدتها البلاد، لكنّها في شقّها الداخليّ ترجع في الأساس وفي عمقها إلى الصراعات بين المقاطعات والقبائل. لقد تمكَّنت المكونات الشمالية - التي تقول إنه تم تهميشها من قبل الائتلاف الحاكم الذي يهيمن عليه أبناء الجنوب - من قلب الطاولة، وإجبار الرئيس على إبطال نتائج الانتخابات، وعلى وضع استمراره في المنصب السياسي الأعلى في البلاد في مهبّ الريح أيضاً.

وتعرف قرغيزستان بأنها الدولة الأكثر انتظاماً من ناحية استقرار الحياة الدستورية بين جيرانها، وربما تكون أكثرها شفافية نسبةً إلى المعايير الدولية والتقارير التي تعدّها الصحافة العالمية عنها.

رغم ذلك، بقيت المسألة الجهوية والقبلية حاضرة في قلب الحياة السياسية في بشكيك، وصولاً إلى الانتخابات الأخيرة. كان الشماليون منزعجين من ضعف تمثيلهم في البرلمان الجديد بصورة فادحة، وقد عزوا ذلك إلى التلاعب بالأصوات الانتخابية على نطاق واسع. إنه صراع نموذجي بين المقاطعات والقبائل. 

وقد اكتسحت الانتخابات عائلات الرئيس جينبيكوف، مؤسّس حزب "بريمديك" (الوحدة)، وريمبك ماترايموف، الذي يقال إنه المموّل الرئيسي والشخصية الأكثر نفوذاً في حزب "مكينيم قيرغيزستان"، وكلاهما ينتمي إلى المنطقة الجنوبية، لكن ما هي المعاني الخارجية لأحداث قرغيزستان؟ وهل لتلك الأحداث علاقة بالأجواء الملتهبة في محيطها؟

أزمة داخلية تحت مجهر الجيران

لقد دخلت الجمهورية السوفياتية السابقة في ما يمكن وصفه بالفوضى السياسية، بعد استقالة رئيس الوزراء التي أعقبت الاحتجاجات على نتيجة الانتخابات التي ألغيت بعد صدورها. جماعات المعارضة سيطرت على البرلمان، بدعوى أنَّ الانتخابات تم تزويرها، وأخرجت القادة المعارضين من السّجن.

في العقدين الأخيرين، تمت الإطاحة برئيسين للبلاد. وإذا كان معلوماً أنَّ للرئيس الحالي سورونباي جينبيكوف علاقات طيبة مع روسيا، فإن المعلوم أيضاً لمتابعي الشأن القرغيزي أنَّ لموسكو علاقات مماثلة ليست أقل دفئاً مع بقية الأطراف الأخرى في البلاد، لأن قرغيزستان تعتبر واحدةً من الدول الخمس في آسيا الوسطى، التي لطالما كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق من ناحية، وهي اليوم تمثل مصلحة حيوية على المستويات الأمنية والجيوسياسية من ناحية ثانية، إضافة إلى ما تمثله هذه الدول من أهمية اقتصادية في المنطقة الواقعة على خطوط المشروعات الكبرى للصين والولايات المتحدة الأميركية. 

لقد أعربت روسيا سريعاً عن قلقها من تطوّرات الأزمة في بشكيك، لكنها حتى اللحظة تتعاطى بتروٍ مع تلك التطورات، على قاعدة مصلحتها القائمة مع أي طرفٍ يتسلّم مقاليد البلاد، فما يهمها من قرغيزستان أكثر أهمية من أن تخاطر بتحالفٍ مع طرف واحد فيها. ما يهمّها من قرغيزستان هو قرغيزستان نفسها.

من جانبها، أعربت الصين أيضاً عن الموقف نفسه. هي قلقة من أحداث بشكيك أيضاً، وهي القوة الكبرى الصاعدة نحو أداء دور قيادي على مستوى العالم، في الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة إشعال أو تغذية صراعات عديدة في جوارها الإقليمي، وفي داخل أراضيها، من أزمة بحر الصين الجنوبي، إلى الصراع المتجدد في المنطقة الحدودية مع الهند، وصولاً إلى قضايا الإيغور وميانمار وملفات حقوق الإنسان التي تستخدم لإحراجها بصورةٍ مستمرة، وتصويرها على أنها لا تتمتع بالمواصفات المطلوب توفرها في القوة القائدة للعالم، وخصوصاً أن الإمبراطورية الأميركية قامت في الجانب الثقافي منها على دعاية أنها الحضارة الضامنة للحرية وكقائدةٍ لـ"العالم الحر".

ويعود الاهتمام المتبادل بين بشكيك وموسكو باستمرارية العلاقات الطيّبة بينهما إلى واقع أنَّ موسكو لا تريد خسارة أيّ من الدول السوفياتية السابقة المتبقية في نطاق تأثيرها لمصلحة الجهود الأميركية والأطلسية لاختراق هذه الدول. ولذلك، فهي تعزّز وجودها السياسي والدبلوماسي، إضافة إلى امتلاكها قاعدة فيها. وفي الجانب المقابل، تعتمد بشكيك بشكل كبير على روسيا اقتصادياً، فيما تربطها شراكة اقتصادية متطوّرة أيضاً بالصين.

لقد علّق الكرملين على الأوضاع في قرغيزستان بأنه "قلق للغاية"، وهي العبارة نفسها التي علقت بها الخارجية الصينية على الأوضاع نفسها، فيما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه يأمل إيجاد حلٍ سلمي للأزمة، وإن "العمليات الديموقراطية الطبيعية ستستأنف... في أقرب وقت ممكن".

موقع قرغيزستان الجيوسياسي

تقع قرغيزستان على الحدود الغربية لجمهورية الصين الشعبية، وتحيطها من جهات ثلاث كل من طاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان، وهي دولة صغيرة نسبياً بمساحة 199.900 كيلومتر مربع (77.182 ميلاً مربعاً)، وتعدّ ثاني أصغر دول آسيا الوسطى الخمس. 

كانت تعرف بجمهورية القرغيز السوفياتية الاشتراكية عندما كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وحصلت على اسمها الحالي - رسمياً جمهورية قيرغيزستان - بعد إعلان الاستقلال عن الاتحاد في العام 1991. في العام 2005، أطاحت انتفاضة بالرئيس عسكر أكاييف، بينما أطاحت انتفاضة أخرى في العام 2010 بالرئيس كرمان بك باكييف.

توجد في البلاد موارد اقتصادية، أهمها النفط والغاز وقطاع تعدين ذهب متطوّر ونشط، لكنها تعتمد في حاجاتها الطاقوية على الاستيراد، نظراً إلى عدم كفاية المنتجات المحلية لسدّ حاجات البلاد. لقد امتد الاستياء من انتشار الفقر والانقسامات العرقية بين الشمال والجنوب، وتحوّل إلى أعمال عنف، وأدى السخط الشعبي من أداء السلطة إلى الإطاحة بأول رئيسين للبلاد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

في التاريخ، استقرَّت قبائل قيرغيزستان في جنوب سيبيريا في القرن السابع عشر، وكانت المنطقة واقعة تحت حكم قوى إقليمية مختلفة قبل أن تخضع للحكم الروسي ثم السوفياتي، رغم أنَّ معظم سكانها البالغ عددهم ستة ملايين نسمة هم من المسلمين المتحدرين من القومية التركية، مع وجود أقلية متنوعة من المسيحيين وأتباع العقائد الأخرى. إضافةً إلى ذلك، يتحدَّث سكان البلاد لغتهم الأم، وهي اللغة القرغيزية واللغة الروسية.

في العام 2014، أغلقت قيرغيزستان قاعدة عسكرية أميركيّة كانت تزود القوات الأميركية في أفغانستان بالأفراد والبضائع منذ العام 2001، في الوقت الذي تحتفظ روسيا بقاعدة جوية عسكرية في البلاد.

أفق الأزمة: روسيا لن تسمح بالانهيار

لقد تجمَّعت حشود كبيرة في العاصمة بيشكيك مباشرةً بعد صدور نتائج الانتخابات، وطالبت بإقالة الرئيس سورونباي جينبيكوف الّذي ألمح في ما بعد إلى أنه مستعدّ للتنحّي، حين قال: "مستعد لإعطاء المسؤولية لقادة أقوياء"، من دون أن يوضح هُويتهم.

كانت الانتخابات بحدّ ذاتها موضع جدل، فقد شهدت، وفقاً لنتائجها، فوز الأحزاب المتحالفة مع جينبيكوف بأكبر حصّة من الأصوات، وسط اتهامات بعمليات شراء جماعية للأصوات. ينصّ الدستور القرغيزي على ولاية واحدة للرئيس مدّتها 6 سنوات. وقد فاز بها جينبيكوف في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2017، ليصبح خامس رئيس لقيرغيزستان بعد فوزه بأكثر من 54 في المئة من الأصوات، ليحلّ محلّ الزعيم المنتهية ولايته ألمازبيك أتامباييف.

ويعتقد جينبيكوف أنَّ الهدف الرئيس للمتظاهرين لم يكن إلغاء نتائج الانتخابات، إنما إقصاؤه من السلطة. وقد صرّح لوكالة أجنبية أنَّ الأفضل اليوم هو أن يعود جميع الأطراف إلى "المجال الشرعي"، والعمل معاً لتجنّب الاضطرابات السياسية التي حدثت في الماضي، معرباً عن استعداده من أجل حلّ المشكلة، "لإعطاء المسؤولية لقادة أقوياء، بغض النظر عن المجموعة التي ينتمون إليها"، وهو يقول إنه مستعدّ لمساعدتهم. 

وفي السياق نفسه، كان الرئيس قد اتهم في وقت سابق "قوى سياسية معينة" باستغلال نتائج الانتخابات من أجل "خرق النظام العام". وقال "إنهم لم يطيعوا إنفاذ القانون، وضربوا العاملين في المجال الطبي، وأتلفوا المباني".

في الأفق المقبل للأزمة، يبدو جينبيكوف وكأنه فقد جزءاً أساسياً من نفوذه. قد يكون هذا الجزء حاسماً في إخراجه من السلطة سريعاً، لكن ليس واضحاً حتى الآن من يمكن أن يحلّ محلّه. التحليلات حول الأوضاع في البلاد تشير في معظمها إلى انقسام المعارضة على نفسها. يتسابق قادتها على محاولة تحصيل أهم المواقع الأساسية في الحكومة التي سوف تدير البلاد، وليس واضحاً تماماً كيف سترسو الأمور قبل أن تهدأ الجمهورية الصغيرة، وتستقر السلطة على رجال مقبولين شعبياً. 

لقد أعادت الانتفاضة الحالية خلط الأوراق في الحياة السياسية القرغيزية، مع تمكّنها من إخراج معارضين عديدين من السجون، مثل الرئيس السابق أتامباييف (محكوم بالسجن 11 عاماً بتهم فساد)، والمعارض جاباروف، الذي كان يقضي عقوبة بالسجن 11 عاماً لاختطاف حاكم إقليمي خلال احتجاج للمعارضة قبل سبع سنوات. 

لقد عاد الهدوء إلى شوارع العاصمة نسبياً، إذ أعلنت وزارة الداخلية عودة المؤسَّسات إلى العمل بصورةٍ طبيعية، لكن التوتر السياسي والغموض حول مستقبل البلاد لا يزالان على أشدهما. مدَّد رئيس البلاد حالة الطوارئ التي أعلنها في البلاد وانتشار الجيش في العاصمة إلى 21 تشرين الأول/أكتوبر، وفي وقت يترقب الجميع الحدث الأبرز الذي أعلن عنه رئيس الوزراء الجديد صدر جباروف، وهو أن رئيس الدولة سيقدّم استقالته خلال يومين أو ثلاثة.

ووسط الهشاشة السياسية التي تشهدها البلاد التي أغلقت حدودها مع الخارج، تخوفاً من انتشار الفوضى وهروب مسؤولين عن تدهور الأوضاع، وحين بدا الفراغ السياسي والأمني مهدداً لاستقرار البلاد، كشفت روسيا عن أهمية قرغيزستان بالنسبة إليها، حين قالت إنها لن تسمح بانهيار الوضع في هذه الجمهورية السوفياتية السابقة.

واعتبر الكرملين على لسان المتحدث باسم الرئاسة، ديمتري بيسكوف، أن قرغيزستان تشهد حالة من الفوضى، وأن روسيا لديها التزامات بمنع انهيار الوضع كلياً فيها.

الخطوات الأمنية التي ترمي إلى إعادة الاستقرار في البلاد واستعادة النظام العام، بدأت بتوقيف الجنرال كورسان حسنوف، نائب وزير الداخلية السابق، الذي كان قد أعلن نفسه قائماً بأعمال وزير الداخلية وقائداً عسكرياً للعاصمة بيشكيك خلال الاضطرابات.

في المحصّلة، ومع التسليم بأنَّ الأزمة في قرغيزستان مرتبطة بصورة أساسية بحساباتٍ داخليةٍ وبموازين القوى بين الأحزاب والمقاطعات والقبائل ومراكز النفوذ، ولكنَّ ذلك لا يلغي الاهتمام الدوليّ والإقليميّ بأوضاع البلاد الواقعة في منطقةٍ مهمّة، وخصوصاً في المرحلة الراهنة التي تشهد أكثر من حدثٍ في الدول المحيطة، فإلى الغرب من قرغيزستان، يشتعل إقليم ناغورنو كاراباخ، وتحاول روسيا إطفاءه بأقل قدر من الخسائر، ثم تنحو قرغيزستان نحو الفوضى في وسط آسيا، فتسارع موسكو أيضاً إلى إطفاء بوادر الحريق. وجنوباً، تتوتّر الحدود الصينية - الهندية إلى مستوى ينذر بتوسع مساحات النزاع الحدودي بينهما. مسارات تفجيرية متصاعدة تواجهها كل من روسيا والصين بعقلية الإطفائيّ أكثر مما هي عقليّة المقاتل، فالنار هنا في قلب البيت أكثر مما هي في الفناء الخارجي.