الغواصات النوويّة البريطانيَّة.. عراقيل الحاضر وتحدّيات المستقبل
في حقبة ما بعد الحرب الباردة، أخذت البحرية البريطانية تستشعر مخاطر فقدانها المزيد من أوراق الردع العسكرية، وتحديداً ورقة الغواصات النووية، التي تتراجع أعدادها باستمرار، وتواجه عمليات بناء أعداد جديدة منها مشاكل جدية ومتزايدة.
أثار التوتر البحري الذي جرت أحداثه في منتصف آب/أغسطس الماضي قرب السواحل الغربية لإيرلندا، الجدل مرة أخرى في الداخل البريطاني حول مستقبل الردع البحري للمملكة المتحدة، وخصوصاً في مجال برنامج تحديث الغواصات النووية الذي يواجه مصاعب مالية وإدارية متزايدة.
وقد أعلنت السلطات البريطانية مؤخراً أنها تشتبه في نشاط متزايد للغواصات الروسيّة قرب الساحل الجنوبي الغربي لإيرلندا، وتحديداً قرب مقاطعة كيري، حيث تعتاد تلك الغواصات خلال رحلتها الطويلة من القواعد البحرية الروسية باتجاه بحر البلطيق، مروراً ببحر الشمال، التواجد لفترات غير محددة في الساحل الجنوبي الغربي للمملكة المتحدة بصفة عامة، وقرب السواحل الإيرلندية بصفة خاصَّة.
وقد اتهمت بريطانيا بصورة غير مباشرة البحرية الروسية بمحاولة تنفيذ عمليات تجسّسية في هذه المنطقة، واستهداف كابلات الإنترنت المارة في اتجاه الساحل الإيرلندي، وخصوصاً أن عدة طائرات روسية مخصّصة للاستطلاع والتواصل مع الغواصات من نوع "تي يو -142"، تم رصدها قرب ساحل مقاطعة كيري في آذار/مارس الماضي.
هذه الحوادث أدت إلى تسليط الضوء أكثر على الواقع الحالي لأسطول الغواصات النووية البريطانية، التي كانت لعقود مضت المنظومة الأساسية ضمن استراتيجية الردع البريطانية في مواجهة الخطر السوفياتي/الروسي، وذلك عن طريق إدامة الدوريات القتالية في المسطحات المائية القريبة من الأراضي الروسية.
الغواصات النووية.. سلاح الردع الأول للمملكة
لا شكَّ في أن سلاح البحرية البريطاني يمثل نقطة ارتكاز عسكرية مهمة ضمن الاستراتيجية الدفاعية العامة للمملكة المتحدة، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. خلال هذه الفترة، تيقنت لندن من أهمية احتفاظها بسلاح بحرية متفوق عدداً وعدة، وذلك لحماية مصالحها حول العالم، وخصوصاً في حقبة كان التاج البريطاني فيها يحكم مناطق عديدة في آسيا وأفريقيا.
هذه الأهمية اتضحت أكثر من خلال المواجهات البحرية بين بريطانيا وألمانيا النازية، والتي تكبَّدت فيه بريطانيا خسائر فادحة، وخصوصاً في عديد سفنها التجارية التي أغرقت الغواصات الألمانية المئات منها خلال سنوات الحرب، بشكل وضع بريطانيا بشكل دائم في شبه حصار اقتصادي.
بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت المواجهة البحرية لتصبح بين الاتحاد السوفياتي من جهة، وبريطانيا والولايات المتحدة من جهة أخرى، وكانت الغواصات النووية والطرادات العملاقة، من أهم وسائط تحقيق ما يعرف بـ(توازن الردع)، لكن استشعرت لندن منذ ثمانينيات القرن الماضي، أن هذا التوازن أصبح حصراً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وأن قوة بريطانيا البحرية النووية، باتت تتقلص تدريجياً بحكم عوامل كثيرة، ناهيك عن ظهور مشكلات عديدة في الأداء البحري البريطاني على المستوى العسكري، وتمثل هذا بشكل واضح في مجريات حرب (فوكلاند)، بين بريطانيا والأرجنتين، والتي تمكن فيها سلاحا الجو والبحر الأرجنتينيان، من تحقيق خسائر بحرية مهمة في البحرية البريطانية، رغم تفوق هذه الأخيرة تقنياً.
عقب الاختراقات الروسية المتزايدة للسواحل البريطانية، ارتفعت عالياً التساؤلات حول القدرة الحالية للبحرية البريطانية على إدامة قدرة الردع المتوفرة لها في أعالي البحار، بعد نحو 51 عاماً من بدئها بتنفيذ الاستراتيجية المسماة "الردع البحري المستمر في أعالي البحار"، المعروفة اختصاراً بـ"سي أيه أس دي"، وهي الاستراتيجية التي ضمنت للمملكة المتحدة تواجداً دائماً في معظم البحار الرئيسية، في مواجهة التواجد البحري السوفياتي والروسي.
هذه التساؤلات بدأت في وقت مبكر من العام الماضي، عقب تزايد التقارير حول المشكلات الفنية التي يعانيها الأسطول البريطاني من الغواصات النووية الحاملة للصواريخ الباليستية، سواء تلك العاملة في الخدمة الفعلية أو التي تم بناؤها مؤخراً وبدأت عمليات اختباراها.
أسطول الغواصات البريطاني يتكون حالياً من 3 غواصات متقادمة من فئة "ترافلاجار"، دخلت إلى الخدمة في الفترة ما بين العامين 1985 و1987، ويتوقع أن تخرج من الخدمة في وقت قريب، أسوة بأربع غواصات أخرى من الفئة نفسها خرجت من الخدمة خلال الأعوام السابقة. تتسلّح غواصات هذه الفئة بصواريخ الكروز الأميركية "توماهوك".
الثقل الرئيسي الحالي لقوة الغواصات النووية البريطانية يتركّز في 4 غواصات نووية من فئة "فانجارد" دخلت إلى الخدمة خلال الفترة ما بين العامين 1993 و1999، ويتسلح كل منها بنحو 16 صاروخاً عابراً للقارات من نوع "ترايدنت"، يتجاوز مداها الأقصى 12 ألف كيلومتر.
وتعدّ هذه الغواصات الأربع هي القوة الرئيسية المنوط بها تنفيذ دوريات أعالي البحار، إذ حرصت البحرية البريطانية على أن تقوم كل منها بالمداورة بتنفيذ دوريات تمتد لنحو 3 أشهر في بحار بعيدة عن الأراضي البريطانية، لكن هذه الخطة تعرضت مؤخراً لبعض المشاكل، نظراً إلى عدة عوامل كشفت عن بعضها مؤخراً لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني في آذار/مارس الماضي، إذ أفادت بأن غواصتين من الغواصات الأربع من هذه الفئة لم تنفّذا أية مهام منذ أكثر من عام، نتيجة لتأخير طرأ على عمليات الصيانة الخاصة بهما، بسبب تداعيات جائحة كورونا، ما قلص عدد الغواصات المتوفرة لتنفيذ دوريات أعالي البحار إلى اثنتين فقط.
خطورة عدم الجاهزية التي تتسم بها نصف الغواصات النووية الرئيسية في البحرية البريطانية يضاف إليها مشاكل أخرى، منها حقيقة أن غواصات هذه الفئة قد تظل في الخدمة إلى ما بعد العام 2030، وهذا يتعدى فعلياً العمر الافتراضي لهذه الفئة من الغواصات، والمقدر بـ25 عاماً. ويرجع سبب ذلك إلى تأخر عمليات الإنتاج في برنامجي الغواصات النووية الجديدة من الفئتين "دريدنوت" و"أستوت".
مشاكل برنامج الغواصات النووية الجديدة في بريطانيا
برنامج الغواصات النووية من فئة "أستوت" يعد البرنامج الرئيسي لتحديث أسطول الغواصات في البحرية البريطانية، وهو يضم 7 غواصات جديدة حاملة للجيل الرابع من صواريخ الكروز الأميركية "توماهوك"، دخل منها إلى الخدمة حتى الآن 4 غواصات، كان آخرها الغواصة "أوداكيوس"، التي بدأت تجارب الإبحار في نيسان/أبريل الماضي.
وكانت البحرية البريطانية تستهدف الإسراع قدر الإمكان في عمليات تصنيع الغواصات الثلاث المتبقية في هذه الفئة، وذلك من أجل إخراج غواصات الفئة "ترافلاجار" من الخدمة، بسبب تآكل بدنها بشكل متسارع نتيجة تقادمها.
لكن يبدو أن عمليات التصنيع تواجهها مشاكل كبيرة، فإضافة إلى تأثير جائحة كورونا، أدى التأخير في إنتاج أول غواصة من فئة "أستوت"، والتي تحمل الاسم نفسه، بعد نحو 10 سنوات من إنتاج آخر غواصة من فئة "فانجارد"، إلى إحداث فجوة في قدرات الإنتاج ومتانة التصميم، أدت بالتبعية إلى تكاليف تصنيع أكبر، وتأخير في جداول التسليم الزمنية، إذ تجاوزت كلفة تصنيع كل غواصة من هذه الفئة ملياراً وأربعمائة ألف جنيه إسترليني، واضطرت الشركة المصنعة لهذه الفئة، وهي شركة "بريتش إيروسبيس"، إلى تدريب أطقم تصنيع جديدة، وكذا إعادة تأهيل منشآت التصنيع، نتيجة لتقادم المنشآت الموجودة بالفعل وتقاعد الأيدي العاملة الخبيرة خلال الفجوة الزمنية بين انتهاء العمل في آخر غواصات الفئة "فانجارد"، وأول غواصة من فئة "أستوت".
وبعد تصنيع أولى غواصات هذه الفئة وإدخالها إلى الخدمة أيضاً، واجه طاقم هذه الغواصة مشاكل في التشغيل، منها ضيق الحيز الداخلي فيها، وتصاعد درجات الحرارة داخل قمراتها، وظهور بعض المشاكل في عمليات تشغيل المفاعل الذري الخاص بها، والذي يعدّ مطابقاً لتصميم مفاعلات غواصات الفئة "فانجارد"، وبالتالي لم تتطابق بعض مكونات هذا التصميم مع بدن غواصات الفئة الجديدة. وقد تكلَّلت كلّ هذه المشاكل بجنوح الغواصة الأولى من هذه الفئة خلال تجارب الإبحار التي تمت عليها في العام 2007.
رغم هذه المشاكل وتأخر عمليات إنتاج الغواصات الثلاث المتبقية من هذه الفئة، فإنَّ هذا النوع من الغواصات يمتلك مزايا عديدة، أهمها البصمة الرادارية والمغناطيسية المتطورة، والحواجز العازلة للصَّوت الموزّعة على بدن الغواصة، ومنظومات تبريد المفاعل الذري المتطوّرة التي تقوم بسحب مياه البحر من أجل تبريد نواة المفاعل، وكذا آلية استخراج الأكسجين من مياه البحر، والتي تتيح للغواصة عدم الصعود إطلاقاً إلى السطح خلال رحلاتها.
البرنامج الثاني ضمن عمليات تحديث أسطول الغواصات البريطاني هو برنامج "دريدنوت"، الَّذي يعاني من تأخير أكبر في عمليات التقدّم فيه، إذ بدأت بريطانيا في العامين 2016 و2019 ببناء أول غواصتين من هذه الفئة التي تستهدف البحرية البريطانية بناء 4 غواصات منها. تقدر الكلفة الإجمالية لهذا البرنامج بنحو 31 مليار جنيه إسترليني (37 مليار دولار أميركي)، يضاف إليها 10 مليار جنيه إسترليني (12 مليار دولار أميركي) للطوارئ.
لكنَّ التأخير الكبير في عمليات التصنيع يجعل من الصعب إدخال أول غواصة من هذه الفئة إلى الخدمة قبل العام 2030. وبما أن غواصات هذه الفئة ستكون مخصّصة لحمل صواريخ "ترايدنت" الباليستية، فحتى تدخل كامل الغواصات الأربع من هذه الفئة إلى الخدمة، ستضطر البحرية الملكية إلى إبقاء غواصات الفئة "فانجارد" في الخدمة، وهو ما يجعلها لسنوات طويلة معتمدة على عدد محدود جداً من الغواصات النووية، في حين تمتلك روسيا حالياً 35 غواصة نووية حاملة للصواريخ الباليستية، وهو ما يجعل ميزان الردع الاستراتيجي يميل بشدة في اتجاه موسكو.