التّعاون الصينيّ – الإيرانيّ.. تأسيس لمستقبل يقلق الغرب
مشهد المواجهة الأميركيّة الصينيّة يتوسّع ليطال ويشمل مناطق جديدة، ويتداخل في الشرق الأوسط مع الحصار الذي تقوده واشنطن ضد إيران. ومع محاولات الأخيرة لكسره والاستمرار في سياساتها السياديّة، يبرز اتفاق استراتيجي صيني - إيراني يستجيب لهذه المعطيات ويقلق الغرب.
لم تعد المواجهة بين الصّين والولايات المتحدة الأميركية محصورةً بالحرب التجارية الدائرة منذ سنوات، والمتصاعدة مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس دونالد ترامب في المكتب البيضاوي، بل امتدَّت لتكون أكثر شموليةً وحماوةً، لتدخل في سياقها ملفات بالغة الحساسية والخطورة، منها الصّراعات العرقية التي تحاول الولايات المتحدة تفجيرها في الصين وفي جوارها، والصّراعات الإقليميّة والشيطنة الدوليّة، وغيرها من أساليب الحرب الكبرى الدائرة على قمة العالم.
واحد من هذه الصراعات ترسمه الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط حالياً. صراعٌ كبير محموم اتهم في سياقه وزير الخارجية الصيني وانغ يي الولايات المتحدة بأنها فقدت عقلها وأيّ أخلاقٍ وثقة، وأنها تعمد عبر سياستها إلى إثارة مواجهة إيديولوجية، وتعيد إحياء عقلية الحرب الباردة، من خلال سياستها ضد بكين هذه المرة.
لكنّ كلام الوزير الصيني الذي جاء خلال اتصال هاتفي مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، اكتسب زخماً وحدّة أكبر حين اتهم واشنطن بخلق بؤر ومواجهات ساخنة في العلاقات الدولية، وبانتهاج سياسة ذات أنانية متطرفة وأولوية لبلادها بشكلٍ علني، وسياسة الإجراءات الأحادية الجانب والترهيب. إنها "المكارثية" مجدداً وعقلية الحرب الباردة في نظر الصين.
وانغ يي وضع هذا التوصيف لمآل المواجهة مع الأميركيين في خانة ما يوجب تشكيل تحالف عالمي قادر على مواجهة واشنطن. قالها بشكلٍ شبه مباشر، لكن كلامه في أذن لافروف عن وجوب تطوير العلاقات الروسية الصينية، استناداً إلى هذا الفهم الصيني للأداء الأميركي، يؤكد هذه النية بوضوحٍ أكثر. لقد قال إن على بكين وموسكو تطوير العلاقات الثنائية، والعمل أيضاً مع الدول الأخرى التي تتخذ موقفاً موضوعياً وعادلاً لمواجهة أيّ إجراءات تنتهك النظام الدولي.
تراكم استراتيجي صيني - إيراني
ومن منطلق هذه الرؤية الصينية لسبل مواجهة الولايات المتحدة، والتقائها بحاجة طهران إلى مواجهة استراتيجية الضغوط القصوى عليها من قبل واشنطن، وتأسيساً لعلاقاتٍ استراتيجية مهمة للبلدين الساعيين إلى أداء سياسيٍ وطني مستقل عن الإرادة الأميركية الدائمة التدخل، أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عباس موسوي عن خارطة طريق للتعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران، تمّ توقيعها خلال زيارة الرئيس الصيني الأخيرة إلى طهران، مشيراً إلى أن الهجمات على اتفاقية الربع قرن تقف وراءها أيادٍ أجنبية.
وترى إيران أنها والصين، باعتبارهما بلدين مهمين في غرب آسيا وشرقها، لهما علاقات تاريخية عريقة وروابط تقليدية ممتازة، وأن ما جرى خلال زيارة الرئيس الصيني الأخيرة إلى طهران هو قرار واتجاه استراتيجي لوضع خارطة طريق للتعاون الاستراتيجي بين البلدين.
سريعاً، بدأت ردود الفعل الغربية والإسرائيلية ضد هذا التطور المهم في العلاقات الإيرانية الصينية، في ما يبدو أنه ناجم عن خوف الدول المساهمة في حصار إيران من أن يؤدي الاتفاق إلى إفشال الضغوط وآثار الحظر المفروض عليها.
إن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين إيران والصين لم تكن سراً، فقد تناولها المسؤولون الإيرانيون مراراً، وتحدث عنها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وأكد رئيس مجلس الشورى، محمد باقر قاليباف، في معرض حديثه عن أن برنامج المجلس يتضمن تغيير الاستراتيجية وتحديث قطاع التجارة الخارجية والصادرات غير النفطية بصورة أساسية، أن بلاده يمكنها تفعيل التعاطي مع الجيران والتسويق الإقليمي، ودخول مرحلة جديدة من المقاومة الفاعلة، والتعاطي "بشموخ" مع أوروبا، وبناء علاقات قوية واستراتيجية مع الشرق.
كيف ينظر الغرب إلى العلاقة المتطورة بين بكين وطهران؟
حين تحدّثت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عن أن إيران والصين توصّلتا إلى مشروع شراكة اقتصادية وأمنية شاملة ستسمح بتدفّق مليارات الدولارات من الاستثمارات الصينيّة في مجال الطاقة وقطاعات أخرى إلى إيران، اعتبرت مباشرةً أن هذا الأمر من شأنه تقويض جهود إدارة ترامب لعزل طهران وخنق اقتصادها.
والاتفاق الذي من شأنه توسيع الوجود الصيني في قطاع البنوك والاتصالات والموانئ والسكك الحديدية وعشرات المشروعات الأخرى، سيمكّن الصين من الحصول على إمدادات منتظمة من النفط الإيراني بسعر مخفض على مدى الأعوام الخمسة وعشرين المقبلة، الأمر الذي يعني إفادة بينية متبادلة بين خصمين كبيرين للولايات المتحدة، ورئتين مفتوحتين على بعضهما البعض ومنتشرتين بنفوذهما وعلاقاتهما في مساحات واسعة من هذا العالم، مع طموح إحداهما لتزعّم العالم، والأخرى لإنجاح نموذج القوة الإقليمية القادرة والقوية التي تهدّد وجود "إسرائيل" ومصالح الأميركيين في الشرق الأوسط.
ووفقاً لما نشرته الصحف الأميركية في الأسبوع الثاني من تموز/يوليو، فإن بنود اتفاق الشراكة تتضمن أيضاً تعميق التعاون العسكري بين البلدين، ما يمنح الصين موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط، كما تنص على الشراكة بينهما في مجال التدريب والبحث وتطوير الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخبارية، وذلك لمواجهة "المعركة غير المتوازنة مع الإرهاب وتهريب المخدرات والاتجار بالبشر والجرائم عبر الحدود".
وتجمع الكثير من التّحليلات الجادة في الغرب على أنَّ اتفاق الشراكة هذا سيكون بمثابة شريان حياة يغذي الاقتصاد الإيراني من جهة، وسيسمح بتوسيع نفوذ الصين في الشرق الأوسط إلى حد كبير من جهة أخرى، الأمر الذي من شأنه زيادة توتر الولايات المتحدة في مقاربتها للمواجهة مع الدولتين.
ورغم أنَّ الكثير من هذه المعطيات والتحليلات واقعي وممكن، أتى الهوى الغربي محذراً ومخوفاً من الاتفاق، وتبعته في هذا التوجّه مؤسسات إعلامية عربية كبرى نشرت ما تصورته أبعاداً خطيرة للاتفاق على المنطقة، وعلى إيران أيضاً، الأمر الذي قد يساهم في تحريك بعض المعارضين الإيرانيين أو الدول المتضررة والخائفة من هذه المعطيات الجديدة.
والاتفاق الذي صادقت عليه الحكومة الإيرانية في حزيران/يونيو الماضي كان اقتراحاً تقدم به الرئيس الصيني شي جين بينغ أول مرة خلال زيارة لإيران في العام 2016، بحسب تقرير نشرته "نيويورك تايمز"، التي ادعت أن مشروع الاتفاق لم يعرض على البرلمان الإيراني للتصديق عليه، وأن السلطات لم تنشره، ملمحةً إلى أن إيران قد تكون قدمت تنازلات معينة للحصول عليه.
الإعلام الأميركي ركّز على نقاط محددة، بغية التخويف من الاتفاقية، أهمها كان عدم وضوح بنودها بالنسبة إلى الرأي العام، وعدم إعلان الصّين عن بنودها أيضاً، الأمر الذي أثار مخاوف غربية مما يمكن أن تتضمّنه، وخصوصاً تلك الحلول التي تساهم في فك الحصار الذي تتعرّض له إيران، كما تتعرّض الصين لضغوط أخرى تشبه الحصار، لو كان حصارها ممكناً.
وبحسب الصحيفة الأميركية (نيويورك تايمز) التي نشرت ما قالت إنه نسخة مختصرة من الوثيقة، فإن الأخيرة تقول في الجملة الافتتاحية: "ثقافتان آسيويتان قديمتان، وشريكان في قطاعات التجارة والاقتصاد والسياسة والثقافة والأمن مع نظرة متشابهة والعديد من المصالح الثنائية والمتعددة الأطراف، سوف ينظران إلى شركاء استراتيجيين آخرين".
وربما ما يقلق الغرب من هذا الاتفاق يرتبط بهوية الدولتين الموقعتين عليه، كما يرتبط أيضاً بحجم الاتفاق الذي يتضمن استثمارات صينية في إيران تصل إلى 400 مليار دولار، وبالمدى الزمني الذي يضفي الطابع الاستراتيجي على الاتفاق، وهو محدد بفترة 25 عاماً، وفق ما نقلته الصحف الغربية من معلومات.
الانعكاسات على الشرق الأوسط
تتناسب الاتفاقية مع المشروع الاستراتيجي الذي أطلقته الصين لإعادة إحياء خطوط التجارة والنقل بينها وبين أوروبا عبر مئات آلاف الكيلومترات ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، فإيران تقع على الخارطة بين الطريق الممتد عبر وسط آسيا نحو برلين، والحزام يزنّر شبه الجزيرة الهندية ومنطقة الخليج، ويتابع مساره نحو أوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس. وستشمل المشاريع التي ستنشأ في الدول الشريكة المطارات وسكك الحديد العالية السرعة ومترو الأنفاق.
لكن حضور الصين في الشرق الأوسط سيتعزز من خلال شراكتها مع إيران، الأمر الذي قد يساعد الأخيرة على تنفيذ وعيدها للأميركيين بعد اغتيال الفريق قاسم سليماني بأن دماءه ستخرجهم من المنطقة، وذلك من خلال الحصول على مساعدة قوة كبرى في المجالات الاقتصادية، وهي مساعدة قد تكون أكبر قدراً وكفاءة من المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لحلفائها، إضافة إلى كون بكين قادرة على رفض أية مشاريع قرارات تطرح في مجلس الأمن الدولي ضد طهران.
وبذلك، تكون الصين قد وسعت من شراكاتها العالمية، ودخلت عبر الشراكة الاستراتيجية مع إيران مساحة الفعل الاستراتيجي في الشرق الأوسط، بينما تكون إيران من جهة أخرى وجدت ما تحتاج إليه في الشراكة مع عملاق اقتصادي يعاني من الخصم نفسه، ومن نوع الحصار نفسه.
ورغم ذلك، فإن إيران بحاجة أيضاً إلى الصين لتبقى لاعباً أساسياً في سوق الطاقة، بعد أن فرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على شركات الطاقة الإيرانية، وعلى الشركات التي تتعامل مع إيران التي تحتاج اليوم إلى إنتاج 8.5 مليون برميل يومياً لتبقى في السوق وفق كبير المستشارين الاقتصاديين للسيد خامنئي، علي آغا محمدي، الأمر الذي يمكن للصين أن توفره.
وبالنظر إلى الخطط الإيرانية الرامية إلى تنويع الخيارات الاقتصادية بالتوازي مع واقع انخفاض قيمة العملة، والاحتمال الضعيف لرفع العقوبات الأميركية، يمكن أن توفر الاتفاقية مع الصين شريان الحياة الذي تريده طهران لتواصل بناء نفسها على قاعدة الدولة السيدة غير التابعة للقوى الكبرى، والتي تستطيع إدارة مواجهة استراتيجية مع "إسرائيل"، من خلال الاستمرار في دعم حركات المقاومة في الشرق الأوسط، وخصوصاً في لبنان وفلسطين.
وفي هذا السّياق، أتت الدّعوات في لبنان للاستفادة من الحماس الصيني لشراكات تغني دول المنطقة عن علاقة التبعية لأميركا، لكن الرد على هذه الدعوات التي تحاول تنويع الخيارات في العلاقات مع القوى الكبرى، وليس استبدال قوة بأخرى، كان بشنّ حملة واسعة على الطرح، ثم استناد هذه الحملة إلى ترويج لأفكار من قبيل المديونية العالية التي وصلت إليها دول أفريقية استفادت من مشاريع استثمارية صينية سابقاً، وأصبحت في النهاية مدينة لبكين.
وأكثر ما يشار إليه في هذا السياق هو اقتراحات إنشاء الموانئ، بما في ذلك اثنان على طول ساحل بحر عمان، أحدهما في جاسك خارج مضيق هرمز مباشرة، مدخل الخليج، ما سيعطي الصينيين نقطة استراتيجية على المياه التي يمر بها معظم نفط العالم. وقامت الصين بالفعل ببناء سلسلة من الموانئ على طول المحيط الهندي، مكونة قلادة من محطات التزود بالوقود وإعادة الإمداد من بحر الصين الجنوبي إلى قناة السويس.
إنَّ المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط مرشّح إلى التغير في المدى المنظور في ما لو تم تطبيق هذه الاتفاقية، وتمكَّنت الدولتان من تأسيس نموذج ناجح من الشراكة سوف يؤدي إلى تشجيع دول أخرى في المنطقة على إعادة التكفير في خياراتها الاستراتيجية، للحاق بإيران إلى بكين، وتطوير العلاقات معها ومع الصين. وربما يكون ذلك مدخلاً لاستعادة العرب بعضاً من سيادتهم وحماستهم لحمل قضية مواجهة "إسرائيل" مجدداً، بدلاً من التنافس على سرعة التطبيع معها.