أربعة أخطار متزامنة تهدّد الأمن القومي المصريّ
تواجه مصر مخاطر حقيقية تستهدف أمنها القوميّ في العمق، مخاطر تندرج في أربعة عناوين هي: نشاط الإرهابيين في شبه جزيرة سيناء، والاستهداف الإسرائيليّ الدائم، والصّراع على الحصص في مياه نهر النيل، وارتدادات الأزمة الليبية.
لم تشهد مصر يوماً من الراحة من هموم الأمن القوميّ منذ تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك من السلطة في العام 2011، بل قبل ذلك أيضاً، فالدّولة العربيّة الرئيسية في تأسيس جامعة الدول العربيّة، وحاضنة مقرها، وصاحبة الدور المركزي المهم في مختلف قضايا الأمة العربية، موضوعةٌ بصورة دائمة على رادارات أطماع الدول الكبرى عالمياً وإقليمياً، والقوى الإرهابية التي تسعى إلى إيجاد موطئ قدمٍ لها في أرض الكنانة، يمكّنها من تأسيس مشروعٍ قابل للحياة في نقطة الوصل بين قارتي آسيا وأفريقيا، وفي قلب العالم العربي جغرافياً وسياسياً.
ويمكن إدراج المخاطر التي تستهدف الأمن القومي المصري ضمن أربعة عناوين أساسية هي: الخطر الذي تمثله الجماعات الإرهابية الناشطة في شبه جزيرة سيناء، مع ما تشهده من أعمال إرهابية تودي بحياة المزيد من جنود الجيش المصري ومن المدنيين، والخطر الذي يمثله الاستهداف الإسرائيلي الدائم لمصر على المستويات الأمنية المباشرة، ومن خلال دعم دول ومشروعات وإجراءات تساهم في ضرب الأمن القومي المصري، وخطر الصراع المستمر على الحصص في مياه نهر النيل، والمتمثل منذ سنوات طويلة بسعي أثيوبيا إلى حرمان مصر والسودان من جزء كبير من حصتهما في مياه النهر الأطول في العالم، من خلال بناء سد النهضة وما يرافقه من ضلوع إسرائيلي في تعزيز ذلك، إمعاناً في إضعاف الأمن المائي للدولتين العربيتين الكبيرتين في الشمال الأفريقي، إضافةً إلى العامل الداهم الذي تمثله الحرب في ليبيا، وانخراط قوى دولية وإقليمية معادية لمصر فيها.
الإرهاب في سيناء
تتوالى بصورة مستمرّة ومتصاعدة الهجمات الإرهابية التي تستهدف الجنود والمدنيين المصريين في شبه جزيرة سيناء، حتى بات الأمر يمثل قلقاً كبيراً للقاهرة، الواقعة بين سندان هذه الضربات ومطرقة التسهيلات الإسرائيلية لمثل هذه الأعمال، التي تساهم من جهة في إلهاء القاهرة عن تحصيل قدرٍ كاف من القوة يمكن أن يشكل ضمانة مصرية وعربية لتوازن القوة مع الاحتلال، وتساهم أيضاً من جهة أخرى في إحداث توترات بين القاهرة والقوى الفلسطينية في قطاع غزة.
وتقوم "إسرائيل" بصورةٍ دائمة بمحاولة إحداث فتنة، من خلال الربط بين هذه الجماعات ومسألة الحدود المصرية مع القطاع، بينما تضع في خلفية الصورة هدف ضرب الشعبين المصري والفلسطيني، من باب تسهيل الأعمال الإرهابية للجماعات المتطرفة ضد مصر، والإيحاء بأنَّ قسماً من هؤلاء يمرون عبر الأراضي الفلسطينية.
وبينما يستمرّ تنظيم ولاية سيناء في نشاطه الإرهابي، وآخر أعماله القيام باستهداف كمين للجيش المصري في مدينة رفح في العشرين من حزيران/يونيو، فإنه يحاول، ومعه تنظيم "أنصار بيت المقدس" المرتبط بتنظيم "داعش" الإرهابي، ترهيب المدنيين المصريين، لمنعهم من التعاطف مع الجيش المصري أو التعامل معه، من خلال مهاجمتهم وتنفيذ حملات إعدامٍ بحقهم بدعوى هذا التعاون.
وتشمل المعالجة المصرية للمخاطر المقبلة من الشرق في سيناء سياقين متلازمين، الأول هو ضرب مختلف المجموعات الإرهابية العاملة هناك بيد قاسية وبشدة، وملاحقتها إلى أوكارها، في جهدٍ عسكري وأمني كبير لا يتوقف، والآخر مد يد التنمية إلى المدن والقرى الواقعة في محافظات شبه الجزيرة، بهدف إقفال الثغرات التي من الممكن أن ينفذ الإرهابيون من خلالها إلى المواطنين الفقراء، وخلق بيئة متطرفة بينهم، وتجنيدهم ضد دولتهم، وإجبارهم على الانخراط في النشاط الإرهابيّ الذي تقوم به.
وإذا كانت عمليات الجيش المصري العسكرية والأمنية واضحة للعيان في مواجهة الإرهاب في سيناء، فإنَّ آخر خطوات المقاربة التنموية للمسألة، هي الدعوة التي أطلقها محافظ جنوب سيناء، اللواء خالد فودة، في 18 حزيران/يونيو، في رسالته إلى المستثمرين ورجال الأعمال، للاستثمار في سيناء "برؤية رجال دولة مخلصين" وتحفيزهم، من خلال فتح الدولة المصرية باب الاستثمار في هذه المنطقة.
رسالة فودة التي دعت إلى الاستعداد لمرحلةٍ جديدة من الاستثمار في سيناء، تكون فيها التنمية وسيلة أساسية من وسائل مكافحة الإرهاب، تهدف إلى حث رؤساء المدن ومديري المديريات ورجال الأعمال على تجهيز ملفات المشروعات القومية والاستثمارية التي تواجه صعوبات ومعوقات لتذليلها.
وتقوم هذه المقاربة بصورةٍ أساسية على تنشيط القطاع الزراعي في المنطقة من جهة، وتفعيل مبادرة تدريب القيادات في برنامج تدريب المسؤول الحكومي من جهة ثانية، وذلك من أجل دمج جهود السكان بالجهود الحكومية الرامية إلى تمكين سكان سيناء من تأمين المداخيل الكافية لمعيشتهم ضمن علاقتهم مع الدولة، وليس مع أيّ طرفٍ يهدّد مصالحهم البعيدة وأمن بلادهم.
إن المقاربة التنموية المستجدة على أساليب الاستجابة المصرية للمخاطر التي تشهدها شبه جزيرة سيناء، تبدو واعدةً بالتوازي مع المقاربة الأمنية والعسكرية، وخصوصاً أنها تأتي من باب تحصين المجتمع وإغلاق النوافذ التي تسهّل تسلّل الإرهاب إليه.
الخطر الإسرائيليّ الدّائم
لا يمكن للباحث في مسائل الأمن القومي المصري أن ينسى الخطر الإسرائيلي المستمر على مصر وشعبها ومؤسساتها، فالكيان الإسرائيليّ لم ينسَ هزيمته في العام 1973، ودور مصر في تأمين موقف عربي قوي مساند للقضية الفلسطينية وللقضايا العربية المحقّة.
ولا تنسى تل أبيب أن قيامة مصر تشكل ضمانةً ضرورية لقيام منظومة أمن قوميّ عربيّ فاعلة، هي غائبة اليوم، ولا يستفيد من غيابها سوى "إسرائيل"، ومعها القوى الطامعة في أراضي الدول العربية كافة وخيراتها، ولا سيما الدول القريبة من فلسطين.
وإن كان العمل الإسرائيلي الدائم على تقويض أمن مصر غير بارزٍ للعيان على شكل أخبار يومية في نشرات الأخبار والصحف، فإن متابعة هذا العمل على المستويات الأمنية والاستخباراتية ثابتٌ وداهم بصورة دائمة عند الأجهزة المصرية، التي ترصد محاولات التجنيد الدائمة لعملاء في الداخل المصري، إضافة إلى التدخل الإسرائيلي المستمر لدعم أي مشروعٍ يضر بالأمن القومي المصري. وليس ثمة أبلغ من متابعة الدور الإسرائيلي في دعم مشروع سد النهضة في أثيوبيا، للدلالة على محاولات "إسرائيل" لإضعاف مصر.
وما من شكٍ لدى القاهرة، ولدى كل متابعي مسائل الأمن في الشرق الأوسط، في أن تل أبيب ترصد بعناية عمليات تطوير القدرات الدفاعية المصرية في الجيش والقوى المسلحة، إضافة إلى متابعتها الحثيثة للواقعين الاقتصادي والاجتماعي في مصر، وسبل معالجة القيادة المصرية لمشكلات هذين القطاعين، وخصوصاً أن الأخيرة تمكّنت في السنوات القليلة الماضية من تحقيق قفزاتٍ مهمة نحو الاستقرار الاقتصادي، من خلال التشبيك الفاعل مع الدول الأخرى في علاقات ثنائية، كالصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي والدول العربية من جهة، ومن خلال التعاون مع المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي من جهةٍ أخرى.
هذه الجهود، وتطوير القدرات الدفاعية المصرية من مصادر متنوعة (منها روسيا والولايات المتحدة)، وتنشيط العجلة الاقتصادية، من خلال إصلاح قطاع الكهرباء، والبدء بتصدير الطاقة، وحلّ معضلة الرغيف التي كانت تؤرق المواطن المصري، وغيرها من الإنجازات المحققة، تدفع الكيان الإسرائيلي إلى تعزيز جهوده ووضع مصر في عين استهدافاته الحالية والمستقبلية بصورة ٍأكثر ابتكاراً من ذي قبل، وهو ما تدرك مصر أبعاده ومخاطره.
الصراع على مياه النيل
أما الأزمة الطويلة والمستمرة حول حصّة مصر في مياه نهر النيل، والتي تشكل حاجةً حيوية للبلاد، فإن الأمور فيها لا تقل خطورةً عن الخطرين السابقين. تحاول مصر في هذا السياق تأكيد حقها بالمياه بالقدر الكافي، من دون المزيد من التوتر الذي تبدو أثيوبيا ساعية إليه في المرحلة الحالية.
تعثّرت المفاوضات بين أثيوبيا ومصر، فطلبت الأخيرة عقد جلسةٍ طارئة لمجلس الأمن الدولي حول المسألة. عقد المجلس جلسة مشاورات مغلقة فجر الثلاثاء 23 حزيران/يونيو، لكن ذلك تم في ظل تصريحات لوزير الخارجية الأثيوبي غيدو أندارغاشو، أكد فيها أن لا شيء سيوقف سد النهضة، بينما كان نظيره المصري سامح شكري يؤكد أن بلاده "لم تهدد بأي عمل عسكري" ضد أثيوبيا خلال السنوات الست الماضية، وأنها لم تشر حتى إلى احتمالية ذلك.
وتطالب مصر مجلس الأمن بالتدخل بغرض التوصّل إلى حل عادلٍ ومتوازن لقضية سد النهضة، وعدم اتخاذ أية إجراءات أحادية قد يكون من شأنها التأثير في فرص التوصل إلى اتفاق. وتساند السودان مصر في موقفها، لكنها تعتبر ألا حلّ بشأن السد سوى التفاوض الجاد بين الأطراف الـثلاثة، وهي إذ تشكك في حصر النيات الأثيوبية من وراء بناء السد بالأغراض التنموية، تؤكد ضرورة اتخاذ "إجراءات واضحة وصريحة" لإعادة أديس أبابا إلى طاولة المفاوضات، وتسعى إلى صيغةٍ تحقق مصلحة الدول الثلاث معاً.
أما على الجانب الآخر، فإنَّ أثيوبيا تعتبر أنَّ المحادثات الثلاثية مع مصر والسودان حول القضايا القانونية توقفت، و"ما زالت بعيدة عن التوافق"، وأن أية "مفاوضات قد تحرم أثيوبيا من حقّها في الاستخدام العادل للنيل، أو أي خطط مستقبلية لبناء مشروعات أخرى، غير مقبولة على الإطلاق"، بحسب تصريحات وزير خارجيتها، لكنَّ أديس أبابا تبدو أكثر تحفزاً لإجراءات غير دبلوماسية لحماية موقفها، فرئيس وزرائها آبي أحمد جمع قادة جيشه ليبحث معهم ما أسماها استراتيجية الدفاع الجديدة، لتتماشى مع التحدّيات التي شهدتها البلاد مؤخراً، وتواكبها على الصعيدين الداخلي والإقليمي.
في المحصّلة، لم تجد مصر بعد الصيغة الرابحة لمسألة مياه النيل، والتي تجنّبها الخوض في غمار تجربة متوترة عسكرياً أو سياسياً مع أثيوبيا والدول التي تدعمها، وهذا يبرز إلى واجهة التفكير الاستراتيجي المصري ضرورات أكثر دهماً، ومخاطر توجب التحرّك بسرعة للجم ما قد يتأتى منها.
هو خطرٌ غير عادي وغير قابل للتجاهل، والقاهرة تدرك ذلك تماماً، لكنها اتخذت في المرحلة الحالية خيار التوجه نحو المنظمة الدولية، سعياً إلى حلّ المسألة بالطرق الدبلوماسية، فهناك مخاطر أخرى تشغل بالها أيضاً، وهي لا تقل خطورةً عن أزمة سد النهضة.
الأزمة الليبية
أما الأزمة الأكثر بروزاً اليوم بالنسبة إلى مصر، فهي اشتعال الحرب في ليبيا بدرجةٍ غير مسبوقة خلال السنوات الفائتة. تدعم تركيا وقطر حكومة الوفاق في طرابلس، بينما تتمسك كل من مصر والسعودية والإمارات بحكومة الشرق في مدينة بنغازي.
التطورات الأخيرة التي شهدت تقدماً لافتاً لمقاتلي حكومة الوفاق، وتوجّههم إلى مدينتي سرت والجفرة في وسط البلاد، وانخراط تركيا بصورةٍ مباشرة في الحرب، قرعت أجراس الإنذار في قلب القاهرة، ودفعت الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى التحرك سريعاً، والتلويح بالتدخل المصري المباشر الداعم للقبائل الشرقية، لمواجهة الغزو التركي لسرت والجفرة. لقد خرج الرئيس المصري بقرارٍ حاسم يقول إن "أي تدخل مباشر من الدولة المصرية (في ليبيا) باتت تتوفر له الشرعية الدولية"، على أساس حقّ الدفاع عن النفس الذي تضمّنته مواثيق الأمم المتحدة.
التحرك المصري جاء بعد تقدير القاهرة بأنَّ التحرك التركي باتجاه الشرق سيؤثر بصورةٍ شديدة في الأمن القومي المصري، وخصوصاً أنَّ سياسة أنقرة في ليبيا، كما كانت في سوريا، تقوم على استخدام الجماعات الإسلامية المرتبطة بالإخوان المسلمين، وهم الجماعة التي تم حظرها في مصر واعتبارها منظمةً إرهابية، ويشعر السيسي بأنها تشكل خطراً على البلاد، وعلى حكمه بالدرجة الأولى.
إنَّ الموقف المصري الجريء حول إمكانية التدخل "المشروع" في ليبيا، أحدث تحولاً في سياق الأحداث فيها، فقد أدى إلى تصعيد السياق الدرامي للمشهد الليبي، ورفع التحدي إلى مرتبة احتمال المواجهة المباشرة بين القوى الإقليمية، في أزمةٍ تشير التقديرات الاستراتيجية إلى أن انعكاساتها يمكن أن تطال - أبعد من مصر وتركيا - أمن الشمال الأفريقي، وقوات "أفريكوم"، وأمن الناتو في الشمال، والمنطقة برمّتها.
هي مخاطر غير عادية، تحدث في توقيتٍ غير عادي، ضمن مساحة جغرافية شديدة الحساسية والخطورة، وبمشاركة قوى نهمة وخبيرة بالصراعات.