ما بين باتريوت و(أس-400).. هل تجمع أنقرة النقيضين؟
ما هي أهم نقاط القوة والضعف، والتشابه والاختلاف بين المنظومتين، على ضوء التجارب الميدانية، والقيمة المضافة الناتجة من كل منهما في تشكيل الإستراتيجيات الدفاعية لكل من أنقرة وواشنطن؟
بدأ الجدل على المستوى الدولي، حول دور منظومة الدفاع الجوي الروسية بعيدة المدى (أس-400)، مباشرة عقب وصول أولى بطارياتها إلى سوريا أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2015. نشر الجيش الروسي لهذه المنظومة خارج الأراضي الروسية، كان في إطار ردود الفعل الروسية، على إسقاط سلاح الجو التركي، لقاذفة (سوخوي 24) تابعة لسلاح الجو الروسي، في الأجواء السورية في نفس الشهر، والمفارقة هنا تكمن في أن هذه المنظومة نفسها، كانت السبب لاحقاً، في تحسين العلاقات بين الجانبين وتقاربها، وفي نفس الوقت تزايد حدة الخلافات بين أنقرة وواشنطن، بشكل يجعلها في أسوأ مراحلها مقارنة بكل المراحل السابقة خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا.
عاد الجدل حول المنظومة الروسية مرة أخرى مؤخّراً، عقب طلب أنقرة من الولايات المتحدة نشر بطاريات الدفاع الجوي الأميركية الصنع (باتريوت)، على أراضيها، لحماية الأجواء التركية، وتحجيم دور سلاح الجو السوري في أجواء إدلب. الرئيس التركي تحدّث عن "تحوّل" في الموقف الأميركي من تواجد منظومات (أس-400) الروسية في تركيا، تمثل في اقتصار الطلب الأميركي فقط على عدم تفعيل هذه المنظومات، من دون اشتراط إعادتها إلى موسكو. الرد الأميركي على الطلب التركي، تمثل في تأكيد البنتاغون عبر نائب وزير الدفاع الأميركي جوناثان هوفمان، أن موقف الولايات المتحدة مازال كما هو في هذا الصدد، وأنها مازالت تشترط إعادة أنقرة لبطاريات (الأس-400) الأربع، التي تسلّمتها خلال عام 2019، إلى روسيا، وذلك كي تلبّي واشنطن الطلب التركي، وترسل إليها منظومات (باتريوت)، سواء للتمركز بشكل مؤقت، أو بيعها إليها بشكل نهائي.
جاءت تطورات جائحة كورونا لتضفي مزيد من التعقيد على هذا الملف، بعد أن أرجأت تركيا تفعيل بطاريات منظومة (أس-400) التي تمتلكها، والذي كان مقرراً أن يتم بشكل قتالي كامل الشهر الماضي، بسبب تداعيات تفشي هذه الجائحة على الأراضي التركية، وهو قرار مثل مخرجاً مؤقتاً لكل من واشنطن وأنقرة، من خلاله يكتسبان المزيد من الوقت، كي يحسما خلافاتهما حول ملف الباتريوت و(الأس- 400).
هذه المعادلة، وضعت كلا المنظومتين، (أس-400) وباتريوت، في ميزان المقارنة، على المستوى العملياتي والاستراتيجي، فما هي أهم نقاط القوّة والضعف، والتشابه والاختلاف بينهما، على ضوء التجارب الميدانية، والقيمة المضافة الناتجة من كل منهما في تشكيل الإستراتيجيات الدفاعية لكلا البلدين، على أراضيهما وخارجها؟
المدى العملياتي وقدرات الرصد والاستهداف
كلا المنظومتين تصنفان على أنهما منظومتين صاروخيتين بعيدتي المدى، للدفاع الجوي ضد جميع أنواع التهديدات الجوية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية. لكن تتفوّق منظومة (أس-400) بشكل كبير على الباتريوت، في ما يتعلق بالمواصفات الفنية والتقنية، خاصة أنها تعتبر منظومة من الجيل الرابع. بدأت شركة (ألماز أنتاي) تطويرها في وقت حديث نسبياً (عام 2007)، في حين بدأت شركة (رايثيون) الأميركية تطوير أولى نسخ الباتريوت في أوائل الثمانينات، وتم إنتاج أربع نسخ من هذه المنظومة، آخرها (باك-4)، التي تم الإعلان عنها في آب/أغسطس 2013.
على المستوى العملياتي، تستطيع منظومة (أس-400) رصد الأهداف الجوية المقتربة من مسافات تصل إلى 600 كيلومتر، مع إمكانية الاشتباك مع كافة أنواع الطائرات وإسقاطها من على مسافات تتراوح بين 4 كيلومترات وحتى 400 كيلومتر، على ارتفاعات تصل إلى 27 كيلومتراً بجانب القدرة على إسقاط جميع أنواع الصواريخ الباليستية، في مدى أقصى يبلغ 60 كيلومتراً، وعلى ارتفاعات تتراوح بين 27 و185 كيلومتراً حسب نسخة صواريخ الدفاع الجوي المستخدمة. يضاف إلى ذلك تمتع هذه المنظومة بالقدرة على رصد 160 هدفاً في نفس الوقت، والاشتباك مع 72 هدفاً في وقت واحد. منظومات الباتريوت بجميع نسخها، يتراوح مدى رصدها واستهدافها للطائرات ما بين 70 إلى 180 كيلومتراً فقط، بإرتفاع أقصى يصل إلى 24 كيلومتراً، بجانب إمكانية رصدها للصواريخ الباليستية على مسافة تصل إلى مائة كيلومتر، وإسقاطها في مدى يتراوح ما بين 20 و35 كيلومتراً فقط للنسخة (باك-3)، وتستطيع منظومات باتريوت تتبع 125 هدفاً في نفس التوقيت، والاشتباك مع 36 هدفاً في وقت واحد.
التفوق الواضح لمنظومات (أس-400) لم يقتصر فقط على مدى الرصد والاشتباك، فهي تتمتع بعدة نقاط للقوة، تتميز بها بشكل واضح عن منظومات باتريوت الأميركية، منها قدرتها على العمل مع طائفة واسعة من الرادارات، بما فيها الرادارات العاملة على التردّدات (أف) و(أل)، وهي تردّدات تسمح برصد الطائرات المزوّدة بتقنية التخفي، مثل المقاتلات الأميركية الأحدث أف-35 وأف22، وهي ميزة لا تتوفر لمنظومات الباتريوت الأميركية، التي تعتمد بشكل رئيس على رادار واحد فقط.
في ما يتعلق أيضاً بالتغطية الرادارية، تمتلك منظومات (أس-400)، القدرة على كشف الأهداف الجوية بمختلف أنواعها، بقوس تغطية 360 درجة في كافة الإتجاهات، في حين أن التغطية الرادارية لمنظومات الباتريوت، تتطلب توجيه هوائيات الرادار في الإتجاه المحتمل وجود تهديدات جوية منه، وهذه النقطة كانت من أهم أسباب فشل هذه المنظومة في عدّة مناسبات قتالية سابقة، من بينها الهجمات الصاروخية التي طالت منشآت نفطية سعودية في سبتمبر/أيلول الماضي.
منظومات (أس-400)، تمتلك القدرة على تشغيل واستخدام عدّة أنواع من الصواريخ، على رأسها الصاروخ (40أن6أي)، وهو الصاروخ الأبعد مدى في صواريخ هذه المنظومة، حيث يبلغ مداه الأقصى 400 كيلومتر، ويتميز بتخصّصه في تدمير الأهداف الجوية الكبيرة والعالية القيمة الإستراتيجية، مثل طائرات الإنذار المبكر، بجانب الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
يضاف إلى هذا الصاروخ أربعة أنواع أخرى من الصواريخ، يتراوح مداها الأٌقصى بين 40 و250 كيلومتراً، من بينها الصاروخ (9أم96أي2)، الذي يتميز بتخصّصه في استهداف الصواريخ الجوالة، بسبب قدرته على اعتراضها على ارتفاعات منخفضة تقل عن عشرة أمتار، ناهيك عن قدرته على اعتراض الأهداف الجوية ذات السرعات العالية، التي تتعدّى 15 ألف كيلومتر في الساعة.
في حين تعتمد منظومات باتريوت على نوع واحد من أنواع الصواريخ، لا تتعدى سرعتها القصوى ستة آلاف كيلومتر في الساعة. لهذا، وعلى عكس الحال في ما يتعلق بمنظومات (إس-400)، ومن الصعب الاعتماد على منظومات باتريوت بمفردها في تشكيل مظلة للدفاع الجوي لحماية نطاق ما، بل تحتاج إلى أن تتكامل مع أنواع أخرى من منظومات الدفاع الجوي، مثل منظومة (ثاد) المتخصّصة في اعتراض الصواريخ الباليستية. في ما يتعلق بزنة الرأس الحربي الخاص بصواريخ كل منظومة، فإنه يتراوح في صواريخ منظومات (أس-400) ما بين 24 إلى 180 كيلوغراماً، في حين أنها تصل إلى 90 كيلوغراماً فقط في صواريخ منظومة باتريوت.
الدول التي تمتلك كلا المنظومتين
في السنوات الماضية، تم نشر كلا المنظومتين في مناطق قريبة من نزاعات مسلحة. منظومات الباتريوت تتواجد في منطقة الخليج منذ عام 1990، وتم نشرها مراراً في تركيا، بجانب دول أخرى في أوروبا، وكان لها سجل عملياتي جيد خاصة في حرب الخليج الثانية عام 1991، في حين نشرت روسيا منظومات (أس-400) في شبه جزيرة القرم، وفي محيط قاعدة حميميم الجوية في سوريا، ولم يتم اختبارها في الميدان القتالي الفعلي حتى الآن.
تمتلك منظومات باتريوت حالياً بجانب الولايات المتحدة، هولندا ومصر وألمانيا والمملكة السعودية والكويت واليابان والأردن وتايوان واليونان وإسبانيا وكوريا الجنوبية والإمارات المتحدة وقطر و"إسرائيل"، وتتفاوض عليها كل من السويد ورومانيا وبولندا.
أما عن منظومات (أس-400)، فتمتلكها بالإضافة إلى روسيا كل من، الصين بواقع 6 بطاريات تم تسليمها خلال عامي 2018 و2019، وتركيا التي أتمّت في أوائل العام الجاري، تسلّم أربع بطاريات منها، ويتوقع أن يتم إدخالها للخدمة الفعلية ضمن شبكة الدفاع الجوي التركي في نيسان/أبريل المقبل.
يضاف إليهما كل من الهند التي ستبدأ في تسلّم أول فوج من 6 أفواج من هذه المنظومة في تشرين الأول/أكتوبر القادم، بجانب المملكة السعودية التي وقّعت في تشرين الأول/أكتوبر 2017 عقداً مع موسكو، بقيمة ثلاثة مليارات دولار، لشراء مجموعة من الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة والصواريخ المضادّة للدروع، بجانب عدّة بطاريات من هذه المنظومة. وقد أبدى عدد كبير من الدول أهتماماً بإقتناء هذه المنظومة، منها إيران والعراق ومصر وقطر وباكستان وكوريا الجنوبية.
مَن يتفوّق؟
إذن، بالمقارنة العامة ما بين المنظومتين، نجد أن منظومة (أس-400)، تتفوّق بشكل واضح على منظومة باتريوت، لكن هل هذا هو السبب الرئيسي للتوجّس الأميركي من هذه المنظومة؟ وما هي إذن الأهمية الأساسية لمنظومات باتريوت؟
كان قرار الولايات المتحدة بعدم تزويد أنقرة بمقاتلات التفوق الجوي (أف-35)، رداً على شرائها لمنظومات (أس-400)، نابعاً من مخاوف أساسية لا علاقة لها بالدوافع الإنتقامية. الولايات المتحدة في هذا الموقف كانت تخشى من إنكشاف أسرار مقاتلتها الأحدث، أمام الخبراء الروس، وإمكانية اختبار أداء هذه المقاتلة ونقاط ضعفها، أمام قدرات منظومات (أس-400)، في حالة تمكّنت تركيا من الجمع بين السلاحين، وبالتالي هذا يعرّض التقنيات العسكرية الأميركية، لخطر داهم، قد تخسر فيه مبكراً، حصة مهمة في سوق مقاتلات التفوّق الجوي حول العالم، وهذا طبعاً يأتي في سياق الصراع المتزايد بين موسكو وواشنطن على سوق السلاح الدولية.
لهذا، جاء القرار الأميركي بوقف المساهمة التركية في برنامج مقاتلات (أف-35)، بجانب قرارات أخرى كان آخرها عدم بيع منظومات باتريوت إلى أنقرة، وهذه المنظومة هنا تلعب دوراً سياسياً ضاغطاً، لا علاقة له بالثقل العسكري أو التكتيكي، وهذا ينطبق أيضاً على النظرة التركية للباتريوت، فأنقرة طلبت مراراً شراء منظومات الباتريوت، ليس لأنها في حاجة ماسّة لها، ولكن لرغبتها في الضغط على روسيا من جانب، ومن الجانب الآخر محاولة حلحلة العلاقات بينها وبين واشنطن، بعد التوترات المتزايدة في العلاقات بينهما، مع علمها التام، أن مسألة بيع الباتريوت لها لن يتم حسمها إلا إذا قدّمت تنازلات في ما يتعلق بتواجد منظومات (أس-400) على أراضيه.