"المسيّرات البحرية".. مستقبل الصراع في أعالي البحار
تمتلك الأنظمة البحرية المسيّرة مميزات عديدة تجعلها تتصدَّر بجدارة مستقبل الصناعات العسكرية البحرية في السنوات المقبلة.
تمتلك الأنظمة البحرية المسيّرة، سواء كانت على سطح البحر أو في أعماقه، مميزات عديدة تجعلها تتصدَّر بجدارة مستقبل الصناعات العسكرية البحرية في السنوات المقبلة. ومن بين هذه المميزات، القدرة على تنفيذ مهام متعددة في الوقت نفسه، والكلفة المنخفضة لتشغيلها مقارنة بالأنظمة البشرية.
هذه المميزات وغيرها ستغيّر تماماً في المستقبل القريب شكل النزاعات البحرية التقليدية، التي كانت فيها الغلبة سابقاً تدنو من صاحب أكبر البوارج وحاملات الطائرات.
في خضمّ التطورات الطبية والسياسية والاقتصادية المرتبطة بأزمة جائحة كورونا، أعلنت الصين في آذار/مارس الماضي إتمامها عملية بحرية نشرت خلالها في الفترة ما بين كانون الأول/ديسمبر 2019 وشباط/فبراير 2020، 12 مركبة انزلاقية مسيرة من نوع "هايان - سي وينج" في أعماق المحيط الهندي. وقد أجرت هذه المركبات غير المأهولة عدداً هائلاً من عمليات الرصد والقياس التي تتعلق بأبحاث المحيطات والبيئة.
الإعلان عن هذه العملية أعاد إلى الواجهة مرة أخرى الحديث عن مستقبل العمليات العسكرية البحرية، في ظل تنامي الابتكارات التسليحية الخاصة بهذه العمليات وتزايدها، والتي تتخذ من تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحكم عن بعد أساساً تنطلق من خلاله أنواع جديدة من الأنظمة التسليحية الدفاعية والهجومية.
البرنامج الصيني للمسيّرات البحرية
هذا النوع من أنواع المركبات الانزلاقية الغاطسة تم الإعلان عنه بشكل فعلي في أيار/مايو 2014، بعد إنهاء السلطات الصينية تجارب مدتها شهر كامل، تمت في بحر الصين الجنوبي.
يبلغ طول هذه المركبة ما يقارب مترين، وزنتها 70 كيلوغراماً. وقد أشرف فريق بحثي وهندسي من جامعة "تيانجين" على عمليات تصميم وتصنيع هذا النوع من المركبات الذي يستطيع أن يعمل بشكل متواصل لمدة 30 يوم، على أعماق تصل إلى 1500 متر تحت سطح الماء، ولمدى يصل إلى 1000 كيلومتر.
وقد تمكَّنت إحدى هذه المركبات من تحقيق رقم قياسي في آذار/مارس 2017، حين وصلت إلى عمق 6 كيلومترات، وهو العمق الأكبر الذي تم تسجيله لغوص مركبات غير مأهولة حتى الآن.
من أهم مميزات هذا النوع من المركبات الانزلاقية، أنه لا يعتمد في حركته على محركات بالمعنى المتعارف، بل يتم دفعه تحت سطح الماء عبر الطفو المتغير، حيث يتم الطفو أو الغطس من خلال التحكم بجهاز للطفو مليء بزيت مضغوط، ومن ثم يتم التحرك عن طريق استخدام جنيحات التوجيه الكبيرة، وهو ما يوفر لهذا النوع القدرة على التحرك لمسافات كبيرة، ولفترات طويلة، وإن كان ذلك على حساب السرعة.
بشكل عام، هذه النوعية من المركبات مخصصة لعمليات المسح الطويلة المدى، والخاصة بالأعماق والبيئة.
وعلى الرغم من أن السلطات الصينية أعلنت أنه تم قياس درجة حرارة مياه البحر، ونسبة الملوحة والشوائب، ومستويات الكلوروفيل والأكسجين خلال هذه المهمة، فإن بعض المعلومات التي تستطيع هذه النوعية من المركبات الكشف عنها، يمكن أن تستخدم بشكل فعال في عمليات مكافحة الغواصات، وخصوصاً أن نشاطها في المياه العميقة يؤثر في نسبة الكلوروفيل في مناطق تواجدها بشكل عام.
كذلك، يمكن من خلال قياس نسبة الملوحة تحديد أقصى المسافات التي يمكن من خلالها رصد أصوات محركات الغواصات المعادية.
والجدير بالذكر أن البرنامج الصيني لتصنيع مركبات تحت مائية مسيرة، بدأت ملامحه تتضح في العام 2015، بالإعلان عن نوعين من هذه المركبات، الأول هو "سيا-4500"، الذي تم تطويره بالتعاون بين معهد "شنيانغ" للأنظمة الروبوتية والأكاديمية الصينية للعلوم، ويستطيع العمل على أعماق تصل إلى 4500 متر، ويُستخدم كمنصة لقياس التغيرات المغناطيسية في أعماق البحر.
أما النوع الآخر، فهو مركبة الغوص العميق "تشيان لونغ"، المتخصصة في قياس طبوغرافيا الأعماق، وعمليات التصوير، ورصد القياسات الهيدرولوجية.
وقد تم استخدامها في عمليات البحث عن المعادن في الأعماق، ويصل طولها إلى 5 أمتار، ووزنها الكلي طن ونصف الطن، وتستطيع الغوص حتى عمق 6 كيلومترات.
التطوّر الأبرز في هذه السلسلة تم الإعلان عنه في تشرين الأول/أكتوبر 2019، خلال العرض العسكري الخاص باحتفال جمهورية الصين الشعبية بالذكرى السبعين لتأسيسها، حين تم للمرة الأولى عرض الغواصة المتحكم بها عن بعد "أتش أس يو-1"، والتي دشنت بها الصين توجهاً جديداً نحو هذا النوع من التسلّح البحري، وهي مخصّصة لطيف واسع من العمليات الخاصة، من بينها عمليات رصد الألغام البحرية والاستطلاع والمراقبة ورسم الخرائط. وربما في النسخ اللاحقة، يتم تزويدها بإمكانية رمي ألغام إو إطلاق مقذوفات.
الأنظمة المسيرة الغاطسة الروسية الصنع
تزايد اهتمام الجيش الروسي منذ أوائل العقد الحالي بإنتاج عدة أنواع من الغواصات المسيرة المخصصة للأغراض العسكرية، منها الغواصة المسيرة "كلافشين - تو بي"، وهي أحد أهم عناصر الجيل الجديد من الأنظمة البحرية المخصصة للعمل على متن الغواصات النووية الجديدة من فئة "بيلوجراد"، وتستطيع أيضاً العمل على متن سفن السطح.
بدأت الأختبارات العملية على هذا النوع من الغواصات منذ مطلع العام 2016، وذلك في عدة مناطق، من بينها المحيط الهادئ والقطب الشمالي والبحر الأسود.
تم في آذار/مارس 2018 إطلاقها بنجاح للمرة الأولى عن متن الغواصة النووية الجديدة "بيلوجراد"، ويمكن إطلاقها أيضاً من الغواصات الأقدم، وخصوصاً فئة "أوسكار" وفئة "أكولا".
يبلغ طول هذه الغواصة 7 أمتار، ووزنها الصافي نحو 4 أطنان، وتستطيع العمل على أعماق تتراوح بين 2 و6 كيلومتر، وهي مزودة بمجموعة من المستشعرات، بما في ذلك سونار للمسح الجانبي، ما يمكنها من رسم خرائط دقيقة لقاع البحر والمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ خلال المعارك.
تضاف هذه الغواصة المسيّرة إلى واحدة من أبرز المنظومات البحرية الروسية المسيرة وأهمها، وهي الطوربيد النووي "بوسايدون"، الذي أعلن عنه الرئيس الروسي رسمياً في تموز/يوليو 2018، والذي يتميز بمداه البالغ 10 آلاف كيلومتر، وسرعته الكبيرة البالغة 200 كيلومتر في الساعة، وقدرة رأسه المتفجر التي تصل إلى 2 ميجا طن، والذي يستطيع إحداث صدمة انفجارية تتسبب في هزات أرضية قد ينتج منها موجات تسونامي كبيرة.
هذا السلاح المتفوق بدأ بالفعل بالمناوبة القتالية على متن أول غواصة جديدة من فئة "بيلوجراد"، التي دخلت الخدمة في نيسان/أبريل الماضي، وستنضم إليها خلال العام المقبل 4 غواصات من فئات أخرى، تستطيع كل منها حمل ما يصل إلى 6 طوربيدات من هذا النوع.
وفي الإطار نفسه، تعكف الصناعات العسكرية الروسية، وخصوصاً مكتب "روبين" للتصميمات، على إنتاج أنواع جديدة من الغواصات المسيرة التي تمتلك قدرات قتالية هجومية. ومن هذه التصاميم، الغواصة المسيرة "سيفالوبود"، التي تم الإعلان عنها بشكل مبدئي في تموز/يوليو 2017، ويتوقع أن تحمل طوربيدات من عيار 324 ملم.
كذلك، تدرس البحرية الروسية اعتماد تصميم لمسيّرات مصغّرة تحت اسم "نيربا"، تستخدم في عمليات مكافحة الضفادع البشرية، وتتسلح بمدفع رشاش من نوع "أيه بي أس" قابل للعمل تحت سطح الماء أو بشحنات متفجرة.
دول أخرى تدخل ميدان الغواصات المسيّرة
-
خلت الشركات اليابانية على إنتاج غواصات مسيرة
في الوقت الحالي، تعمل العديد من الدول، من بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على دراسة عدد من العروض لإنتاج غواصات مسيرة تمتلك قدرات قتالية تمكّنها من التصدي للأنظمة الروسية، وخصوصاً الطوربيد "بوسايدون".
مؤخراً، دخلت الشركات اليابانية على خط هذه الأنظمة، حين عرضت شركة "أي أتش أي" اليابانية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي منظومة ثنائية مسيرة للكشف عن الألغام البحرية، تتكوّن من غوّاصتين غير مأهولتين، تقوم الأولى بالبحث عن الأجسام المُحتَمل أن تشكّل خطورة على القطع البحرية، مثل الألغام والعوائق، ثم تقوم بتحديد ماهيّتها وتصنيفها، ومن ثم إرسال المعلومات الوافية حولها إلى سفينة القيادة على السطح، عبر الاتصال بالغوّاصة الثانية في هذه المنظومة التي تُرسِل بدورها البيانات إلى سفينة القيادة لاسلكياً.
يبلغ وزن الغوّاصة الأساسية في هذه المنظومة ما يقارب طناً، وطولها يصل إلى 5 أمتار، وتتزوّد بسونارين، الأول للمسح الجانبي للأعماق، والآخر مُتعدّد الحزم، إلى جانب كاميرا فيديو رقمية، ويمكنها أن تتزوّد بمعدّات أخرى بحسب الغرض من استخدامها.
الزوارق غير المأهولة.. دروس اليمن يلتقطها العالم
-
تمتلك جماعة أنصار الله نموذجين من نماذج الزوارق الانتحارية
أصبحت الزوارق المسيرة أيضاً من أهم ملامح مستقبل الحروب البحرية. وكان للحرب في اليمن دور مهم في تأكيد هذا الواقع، إذ دشّن الهجوم الذي شنته وحدات تابعة لجماعة أنصار الله أوائل العام 2017 على فرقاطة من فئة "المدينة" تابعة للبحرية السعودية، مرحلة جديدة أصبحت فيها الزوارق المسيرة الصغيرة تشكل مخاطر حقيقية على القطع البحرية الكبيرة، عن طريق شن الهجمات الانتحارية التي تستوحي تجربة الهجوم على المدمرة الأميركية "كول" في ميناء عدن مطلع العقد الماضي.
تمتلك جماعة أنصار الله نموذجين من نماذج الزوارق الانتحارية، الأول متعدد المهام ومصنّع من الألياف الزجاجية. تبلغ سرعته 30 عقدة في الساعة، ويستخدم في بث الألغام البحرية وفي تنفيذ الهجمات الانتحارية، عن طريق تجهيز عبوات ناسفة داخل بدن الزورق، وتوجيهه في اتجاه الهدف المراد تدميره، ومن ثم مغادرة طاقمه المكون من فرد أو فردين متن الزورق أثناء تحركه.
ويتميز هذا النموذج ببدن منخفض يجعل من الصعب رصده على سطح الماء بسهولة أثناء تحركه.
-
زورق سريع مسير يتم التحكم به عن بعد
النموذج الآخر هو الذي تم استخدامه في الهجوم على الفرقاطة السعودية، وفي هجمات على قطع بحرية إماراتية في ميناء المخا منتصف العام 2017، وهو عبارة عن زورق سريع مسير، يتم التحكم به عن بعد، ويبلغ طوله نحو 10 أمتار، وهو مبني على بدن زوارق إماراتية الصنع، تسلمتها البحرية اليمنية في السنوات السابقة.
يمتلك هذا الزورق محركين يوفران له سرعة قصوى تبلغ 45 عقدة في الساعة، وهو مزود بشحنة متفجرة تبلغ زنتها 450 كيلوغراماً، يعتقد أنها مستخرجة من صواريخ "ستايكس" السوفياتية المضادة للسفن، والتي امتلكتها البحرية اليمنية في ما مضى.
-
يتميز سطح الزورق بالمرونة التي تتيج إضافة طيف واسع من المعدات والمنظومات
استفادت دول عديدة من هذه التجربة، من بينها كوريا الجنوبية، إذ عرضت شركة "أل أي جي – نيكس" خلال المعرض الدولي للصناعات البحرية الدفاعية، الذي أقيم في تشرين الأول/أكتوبر الماضي في مدينة بوسان جنوبي البلاد، زورقها القتالي غير المأهول "سي سورد-2"، الذي بدأ تطويره منذ أوائل العام 2015، ويبلغ طوله 12 متراً، وزنته 11 طناً.
وقد تم تصميم هيكله المصنوع من الألياف الزجاجية المعززة بالبلاستيك، بحيث يكون منخفض الارتفاع ومحدود البصمة الحرارية قدر الإمكان. وتم تزويده بمحركي ديزل يوفران له القدرة على الوصول إلى سرعة قصوى تبلغ 35 عقدة، ومدى يقترب من 300 كيلومتر.
ويتميز سطح الزورق بالمرونة التي تتيج إضافة طيف واسع من المعدات والمنظومات، سواء تلك الخاصة بعمليات الاستطلاع والمراقبة أو الرصد والبحث الراداري.
وتم عرض هذا الزورق مسلحاً بمدافع رشاشة من عيار 7.62، وراجمة صواريخ غير موجهة من عيار 70 ملم، إلى جانب معدات كهروبصرية وحرارية ومحددات مدى ليزري.
تمتلك الأنظمة البحرية المسيرة، سواء كانت على سطح البحر أو في أعماقه، مميزات عديدة تجعلها تتصدر بجدارة مستقبل الصناعات العسكرية البحرية في السنوات المقبلة. ومن بين هذه الميزات، القدرة على تنفيذ مهام متعددة في الوقت نفسه، والكلفة المنخفضة لتشغيلها مقارنة بالأنظمة البشرية.
هذه المميزات وغيرها ستغيّر تماماً في المستقبل القريب شكل النزاعات البحرية التقليدية، التي كانت فيها الغلبة سابقاً تدنو من صاحب أكبر البوارج وحاملات الطائرات.