ما كشفه كورونا حتى الآن.. المخاطر الجديدة ومستقبل العالم
كثيرة هي الدروس التي نتعلمها اليوم من الانتشار الهائل لفيروس كورونا المستجد. صدمةٌ عالمية غير معلومة النتائج وغير مفهومة المآل بصورةٍ حاسمة حتى اللحظة، لكنها بالتأكيد ستكون لها آثارٌ اقتصادية وسياسية وأخلاقية على مستقبلنا.
لم تغفل أفلام الخيال العلمي احتمالات تعرّض كوكب الأرض لاجتياحٍ شامل يضع كل سكانه أمام خطرٍ حقيقي يهدّد حيواتهم. ولم يفت كتّاب سيناريوهاتها أغرب الأفكار حول هوية وطبيعة المخلوقات التي قد تغزونا، وتحوّلنا إلى أهداف وطرائد هاربة من الموت في برية هذه الأرض. لكن ما يجري بعد ثلاثة أشهر من تفشّي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) يمكن اعتباره اجتياحاً من طبيعة أخرى. إنه اجتياحٌ أرضي للأرض، لم ندرك بعد كافة تفاصيله وأبعاده، في الوقت الذي تتسابق فيه المختبرات العلمية على ابتكار سلاحنا المقابل الذي نعوّل جميعاً على إيجاده لكسب معركة بقائنا.
اللافت كثيراً في هذه الحال هو السرعة الفائقة لتفشي الوباء. لقد شهدنا في القرن الأخير فيروساتٍ وأمراضاً متنوعة هدّدت البشرية بأكملها، وتعاملنا معها مستندين إلى عبقرية الإنسان ومستوى تطور عقله وقدراته العلمية، وتمكّنا من هزيمة معظم المخاطر الصحية، خصوصاً تلك التي تفشّت في السنوات العشرين الأخيرة، حيث كسبنا معاركنا في مواجهة: سارس، إيبولا، الجمرة الخبيثة، إنفلونزا الطيور، إنفلوانزا الخنازير، ميرس، زيكا وغيرها، لكن تلك الفيروسات اختلفت في درجة فتكها، وسرعة انتشارها.
أما الأكثر خطورةً اليوم بما يخص كورونا المستجد، فهو ليس مستوى فتكه (وهو يعتبر أقل من غيره من بعض الفيروسات التي ذكرناها) إنما سرعة انتشاره التي فاقت سرعة انتشار أي فيروس آخر من الفيروسات التي عرفها العالم في العقدين الأخيرين، وبنسبة عالية.
لقد تمكّن الفيروس الجديد من الانتشار في أغلب دولة في أقل من أربعة أشهر على اكتشاف الحال الأولى المصابة به في مدينة ووهان الصينية، مع مجموع إصابات أصبحت تُعدّ بمئات الآلاف، بالإضافة إلى آلاف الوفيات.
لا أحد في هذا العالم بمأمنٍ
إن الدرس الأول الذي نتعمله اليوم من قصد كورونا الجديدة هو أن لا أحد في هذا العالم بمأمنٍ منه، وأنه سريع الانتشار وخفيّ إلى درجة خطرة، حيث تساقطت الدول في هوّته الواحدة تلو الأخرى وبصورةٍ قد لا تبدو منطقية حتى الآن، والتي ستشغل الأجهزة المختصة في دول العالم في الأشهر المقبلة لتدرك كيف انتقل هذا الفيروس من مكانٍ إلى آخر، فضلاً عن السؤال الأكبر: هل هو فيروس طبيعي أم مُصنّع، ومن يقف وراءه إن كان فيروساً منتجاً بفعلٍ بشري؟
أما الدرس الثاني، فهو أن مسألة مستقبل الجنس البشري الذي لطالما تم نقاشه في معرض الحديث عن مخاطر الحروب النووية، وحروب النجوم، أو حتى اجتياح كائناتٍ فضائية، بات اليوم مكمن بحث مختلف. حتى أن قضايا المناخ، وذوبان الجليد، والاحتباس الحراري وغيرها من قضايا البقاء اليوم، لم تعد الأكثر دهماً على حياتنا في الأرض. إن الخطر أكثر قرباً مما كنا نعتقد، وهو خطرٌ كامنٌ في سلوكنا اليومي، إن لم نقل إن مستقبل العالم باتت تحدّده هذه الأنواع الجديدة من المخاطر، والتي لا تبدو شبيهةً بوباءات العصور الغابرة كالطاعون والملاريا والكوليرا.. إنه نوعٌ مختلفٌ تماماً، خطرٌ، داهمٌ وأكثر ابتكاراً وقدرةً على التخفّي والأذى.
الدرس الثالث، هو أن الخوف جزء أساس مساعد في مواجهة انتشار الأوبئة من هذا النوع، ولا تنفع التطمينات التي قد تكون جائزة في حروب أخرى تخوضها الدول، كالحرب ضد الإرهاب أو مواجهة أزمات اقتصادية أو غيرها. في حالات الأمراض الوبائية من الضروري جداً أن تخاف الحشود، وتمتنع عن التجمع، وتقتصد في حركتها اليومية منعاً لانتشار الوباء.
أما الدرس الرابع، فهو أن العالم الذي شاع وترسّخ أنه تحوّل إلى قرية صغيرة مع العولمة، أعادنا في لحظة إلى حقيقتنا الفردية، إلى كوننا أفراداً وكائنات رخوية، يمكن لـ"عطسة" أن تقضي على جنسنا. بكل هذه البساطة، نواجه حقيقةً قاسية تأخذنا أفكارنا إلى حقائق مرعبة في المخاطر التي تحملها.
حرب اللقاحات
الدرس الخامس، حقيقة أن نسق الحروب المستقبلية ومستقبل التنافس الدولي إضافة إلى التنافس السياسي والاقتصادي والعلمي سيكون متمحوراً حول حفظ النوع، وحفظ الحياة الإنسانية الفردية والجماعية، وبالتالي فإن نسقاً جديداً من التنافس العالمي قد نشأ وهو ما يمكن تسميته بـ"حرب اللقاحات". هذه الحرب ستكون مكوّناً رئيساً من مكوّنات القوة الكليّة للدول، خصوصاً تلك المتطلّعة للمنافسة على قمّة العالم.
واليوم، تتسابق كلٌ من الصين والولايات المتحدة وألمانيا وروسيا وسويسرا وغيرها على إنتاج اللقاح الشافي. لكن كل واحدة من هذه القوى تقارب المسألة من منظارها الخاص، وقد سجّلت اختلافات جوهرية بين تلك المقاربات، ففي حين يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى محاولة الاستحواذ على نتائج الجهود العلمية لاكتشاف اللقاح، وشرائه ومن ثم احتكاره، تبدو الدول الأخرى أكثر اهتماماً بتوفير العلاج للجميع.
الصين بدأت باختبار اللقاح على البشر، روسيا أعلنت أنها تملك كل المقومات لإنتاج لقاح لكورونا، سويسرا تتعاون شركاتها مع الأميركيين في هذا المضمار، وقد تعاونت إحدى شركاتها مع ترامب شخصياً وأعلنوا عن جهودهم في هذا السياق.
وحده ترامب يحاول احتكار العلاج، في سياسةٍ بعيدة من المعايير الإنسانية وقريبة من السلوك العنصري البغيض. الرئيس الأميركي عرض على ألمانيا شراء اللقاح الذي يطوره علماؤها. وهو ربما يرى بهذه الصفقة التي يسعى إليها حصاناً رابحاً يمتطيه إلى البيت الأبيض مجدّداً في الانتخابات المقبلة، كمنقذ لحياة الأميركيين، والجالب للترياق الشافي لهم قبل غيرهم، على أساس أن حياتهم أغلى بالنسبة إليه من حياة الآخرين. البشر الكثر الذين لا حاجة لوجودهم على الأرض وفق مقاربته العنصرية.
لكن ألمانيا رفضت ذلك. رفضته بقوّة وبتعليل ومقاربة مناقضة تماماً. كبار المسؤولين الألمان شنوا هجوماً على المحاولات الأميركية للحصول على اللقاح من ألمانيا واحتكاره حصراً لأميركا. شركة "كيور-فاك" المطوّرة للقاح المنتظر تقول إنها تطوّر لقاحاً لكل العالم وليس لبلدٍ بعينه. وزيرالاقتصاد بيتر ألتماير كان أكثر حدّةً في موقفه حين قال: "ألمانيا ليست للبيع". أما وزير الخارجية هايكوماس فقد عبّر بصورةٍ لافتة حين قال إن "الباحثين الألمان رائدون في مجال تطوير الأدوية والعقاقير. لا نستطيع أن نسمح للآخرين بالحصول على نتائج أبحاثهم حصرياً"، وأضاف "نستطيع هزيمة هذا الفيروس معاً وليس ضد بعضنا البعض". وكصدى للموقف الرسمي الألماني، جاء موقف الرئيس التنفيذي للشركة المعنية كريستوف هتيش في تصريحات لصحيفة "مانهايمر مورجن" الألمانية:" نريد أن نطوّر لقاحاً للعالم كله وليس لدول بعينها".
مناعة القطيع والبقاء للأصلح
المملكة المتحدة من جانبها لمّحت حكومتها بداية إلى اعتماد استراتيجية "مناعة القطيع" لمواجهة الفيروس، لكن جدلاً واسعاً بزغ بعد حديث رئيس الوزراء بوريس جونسون عن طريقة مواجهة حكومته للأزمة الحالية، حين فُهم من حديثه اتجاهاً لاعتماد هذه الاستراتيجية، وهي تعني ترك الأمور لتفاعلاتها الطبيعية حتى وصول نسبة الإصابة بالفيروس بين المواطنين إلى ما يفوق 60% من عددهم، حيث سيؤدي ذلك إلى تكوّن مناعة جماعية ضده، يبدأ منها مسار تناقص الأعداد المصابة، وتزايد حالات الشفاء، وصولاً إلى القضاء على وجود الفيروس في بريطانيا. هذا التوجّه عبّر عنه جونسون بوضوح حين توقّع إصابة 70% من سكان البلاد بفيروس كورونا، وقوله إن الكثير من البريطانيين سوف يخسرون أحباءهم.
إن أهم المآخذ المسجّلة على هذه الاستراتيجية أنها تفتقر إلى الإنسانية، حيث من المتوقع أن يذهب ضحيتها المواطنون ضعيفو المناعة، من المصابين بأمراض خطرة أو مزمنة، أو الذين لديهم مشكلات في الجهاز التنفسي. إنها استراتيجية شبيهة بمبدأ "البقاء للأصلح" المستوحى من نظرية "الانتخاب الطبيعي" لشارلز داروين، والتي تتعاطى مع الإنسان على أنه كائن حيواني مؤلف من كتلة بيولوجية-فيزيائية لا روح لها ولا مشاعر ولا ترابط عاطفي بين الناس. وهي استراتيجية تقبل الموت الجماعي على أنه أمر واقع لا مناص منه وتقول: لا مكان للضعفاء بيننا، والحياة ليست للجميع، والعناية الطبية ليست لمن يحتاجها، بل لمن يستطيع تحمّل كلفتها، في حين أظهرت تجربة كورونا الحالية أن مواجهة الفيروس ممكنة إذا تمكن الإنسان من الانضباط، وضحّى بالموارد المادية الضرورية التي تحتاجها عملية المواجهة. إنها استراتيجية تعلي شأن الاقتصاد والموارد على حياة الإنسان نفسه.
العالم سيخرج منها... لكن بأيّ ثمن؟
درس آخر اكتسبناه من تجربة كورونا المريرة التي لا نزال في خضمها، وهي أن العالم ليس إلا نحن. الكائنات التي تعيش على هذا الكوكب لا يمكن أن تنجو إلا بالتضامن في ما بينها، خصوصاً في مواجهة هذا النوع من المخاطر.
التصريحات الصينية والإيرانية وبعض المسؤولين الروس تتكاثر لتشكل سياقاً متصاعداً يتعزّز مع الوقت. سياقٌ يقول إن الولايات المتحدة مسؤولةٌ عن نشر هذا الفيروس، وأن ما يجري هو شكلٌ من أشكال الحرب الجرثومية. لم تكتمل المعطيات التي تؤكد ذلك بصورةٍ حاسمة، لكن مستوى التصريحات، والحديث عن تعزيز الدلائل يشيران إلى أن مرحلة من الصراع فتحت أبوابها، وهو صراعٌ مرعبٌ إذا كنا سنعيش محطاته المتكررة في ما بعد.
سيخرج العالم من نفق كورونا المستجد، وهذا لا ريب فيه بالنظر إلى المعطيات العلمية المتراكمة كل يوم، وبالنظر إلى طبيعة الفيروس نفسه، لكن السؤال الأبرز يبقى: بأي ثمن سنخرج من هذا النفق؟
لقد أقفل العالم دور العبادة وأوقف الصلوات، ولجأ بكليته إلى العلماء لينقذونه. والتف المؤمنون حول ذواتهم يدعون الله لمساعدة العلماء، هذا جيد، ولكن إذا كان هذا وجه جديد من وجوه الحرب، فإن العلماء سوف يتخندقون في الخنادق العصرية للحرب الجديدة. سيضربون، وسيتلقّون الضربات، والفاتورة ستدفعها الإنسانية كلها.
الآثار الاقتصادية حتى اللحظة كارثية. الآثار البيئية تسير بصورةٍ معاكسة. الانبعاثات الملوثة للأرض انخفضت 48% على الأقل مع تنفيذ معظم الدول توقفاً قسرياً عن الإنتاج والحركة. ولا زلنا نعيش. من دون سباقات اقتصادية نحو المزيد من الإنتاج الذي لا نحتاجه. لا نزال على قيد الحياة مع 48% وفراً من صحتنا. هل يكون هذا درس في الاقتصاد والبيئة والسياسات التي يجب أن نوليها اهتمامنا من الآن وصعوداً بالزمن؟
لكن الأكثر إلحاحاً الآن، هو القضايا الأخلاقية التي طرحها فيروس كورونا أمامنا. شكل التضامن الإنساني في المستقبل. مساعدة مصاب في الشارع؟ هل نفعلها أم نهرب حفاظاً على أرواحنا؟ نماذج مضيئة قدّمها ملايين الممرضين والعلماء والأطباء والمسعفين والمتطوعين، وأناس عاديون أدركوا أدوارهم التي تعبر عن نواة إنسانيتهم، تضامنوا مع الأرض ومع سكانها، ومع أنفسهم. هؤلاء شكلوا الدرس الأجمل من دروس كورونا، ليقولوا للعالم: إننا في مرحلة حجر منزلي، لنجلس ونتفكر مجدداً ونعيد تكوين مفاهيمنا على ضوء المحنة الكبيرة، ماذا نريد من مستقبلنا؟
إنها فرصة العالم للعودة إلى ذاته، وفرصة الإنسان للتفكير في الإنسان.