خوض الصّراعات بشعوب "الزومبي"

الزومبي الفلسفي ليس كالزومبي الذي نشاهده في أفلام هوليود الخيالية؛ موجودات دمويّة مُخيفة تُرهب المُشاهد، تسير بسواد الحشود المنفلتة كالوحوش الكاسرة، إنما هي موجودات مماثلة لنا في الشكل والتصرّف الظاهري، ولكنها لا تملك قوّة الشعور الحيّ.

  • خوض الصّراعات بشعوب "الزومبي"
    خوض الصّراعات بشعوب "الزومبي"

شعوب الزومبي هي تلك الشعوب التي هانت على أفرادها قيمة البقاء الوجودي الحضاري، فبقيت تراوح شكلاً بلا مضمون، وسواداً أفرادياً متراكماً تراكماً عددياً بلا هُويةٍ حقيقيةٍ قائمة، فهي تتحرك بلا رؤيةٍ وغايةٍ وشعورٍ في تركيباتها الشكلية الخاوية الخالية من المحتوى العميق. 

هي شعوب الفوضى، توليداً واستيراداً وإشاعةً وتفشّياً، والتي تفتقر إلى الهوية والنظام. هي شعوب ترويج صراعات الجيل الجديد وحواضن الهيمنة للمستغلين الطامعين العابثين، والتي سيُخاض بها أشرس الحروب، وبأبخس الأثمان، وأوسع المديات، وأفسد الآثار، وأكثر أشكال الفوضى دماراً، وأنعم الطرق دبيباً وتسلّلاً.

إشكالية الحواس والهوية الوجودية

يعمد الفلاسفة المحدَثون في أطروحاتهم وتنظيراتهم إلى أسلوب "التجربة الفكرية" (Thought Experiment) في قضايا لا يمكن إخضاعها لتجربة حسّية مباشرة، لكون ماهياتها مفهومية لا حسية، ولأنها ليست مختبرية في طبيعتها، وذلك بغية اختبار كيفية ميولنا ونوازعنا الكامنة وسبل تدبّرنا وتفهّمنا كأفراد عاقلة تجاهها، كقضايا مفروضة على نحو الوقوع في الواقع الخارج من أذهاننا. 

ولكن استعمال التجارب الفكرية في حقل الفلسفة قديم ومعمول به للغاية ذاتها بين الفلاسفة المتقدمين أيضاً، فلهذا الجانب تاريخ يمتدّ إلى عصور غابرة ازدهرت حينها الفلسفة بالارتقاء، فتجربة "الرجل الطائر"، على سبيل المثال، المنسوبة إلى الفيلسوف الشرقي الشهير الشيخ أبو علي الحسين ابن سينا (Avicenna) (980-1037م/369-428ه)، الملقّب بالمعلم الثاني، (بعد المعلم الأول عند الفلاسفة المشائين أرسطو طاليسAristotle )، كانت تهدف إلى تصوير الفرد الطائر الذي يبلغ نقطة ما وراء الحواس في سقوطه من السماء إلى الأرض، فيتعطّل لديه فعل أحاسيسه ومجاريه الإدراكية، بحيث يتجرّد عنها وعن دواخل حواسه ووارداتها. وبذلك يحصل على حالة التجرد عن الحواس، لينقطع إلى ذاته الداخلية حصراً (نفسه التي بين جنبيه).

وغاية التجربة هي الوقوف على حقيقة أنّ الفرد مع تعطّل حواسه، لا يتعطّل بشخصه كهُوية وجودية قائمة متواصلة بالعلم الحضوري والتفكير والإحساس الداخلي المنبثق من الأصقاع الغيبية للنفس، والذي لم يرد على النفس من خارجها عبر الحواس، بل هو منطلق من أعماقها المستترة غاية الاستتار، إلا أن الحواس وشواغلها الفوقية هي التي تشوّش على النفس الاستشعار الحضوري بذلك، فيصبح وجود تلك الأعماق بحكم العدم عند أكثر الناس، دونما شعور منهم بذلك.

كذلك الفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت (René Descartes) (1596-1650م/975-1029ه)، أب الفلسفة الغربية الحديثة، وأحد أوتاد عصر التنوير في أوروبا، وأحد الفلاسفة العقليين، استعمل هو أيضاً أطروحته الشهيرة التي انتقل بها من الشك بكل واردات الحواس والخواطر، حتى وقف على موضوع الشكّ نفسه، وهو نفس الفرد التي حين تشكّ بكل ما هو حولها، فهي بذلك تعبّر دلاليّاً وذاتيّاً عن كيانها الوجودي المستقل، وثبوتها على أرض صلبة ما وراء مديات الشك والنفس المشكِّكة. 

يقترب ديكارت في بعض الجوانب من ابن سينا في تجربته الفكرية التي أراد منها تعطيل الحواس ومدخلاتها، حتى ينصرف الشعور منقطعاً إلى ذات النفس المتحققة بالشعور الحيّ المباشر، وبذلك يثبت (مع تفصيل فلسفي مطوّل) أن الذات موجودة بلا شك، وهي ما وراء الحواس. 

مفهوم الزومبي "الفلسفي"

على أيِّ حال، وتفريعاً على فائدة التجارب الفكرية المتقدّمة، شاع في أروقة الفلسفة الحديثة استعمال مفهوم "الزومبي الفلسفي" Philosophical Zombie (P-Zombie) لتعريف حالات نظرية من قبيل التجارب الفكرية التي تختبر طرق الفحص والتفكّر لدينا تجاه أمور فكرية مفترضة في الواقع، من خلال دراسة مخرجاتها الفكرية الافتراضية المتوقَّعة، الواقعية منها والخيالية اللاواقعية.

وما يُراد من الزومبي الفلسفي هو ذلك الموجود الذي لا يختلف عن الفرد البشري الحقيقيّ الحيويّ بأيّ شيء في واقع مظهره الفسيولوجي وتصرفاته وسلوكياته التي تعكس وجود نظام سيكولوجي، إلا أنه يختلف عن الفرد البشري الحقيقي، من حيث إنه يفعل كل ذلك في حالة "لا شعورية" منه، لأنه، كزومبي، موجود افتراضي فاقد لقوة "الشعور" (Consciousness)، أي أنه كالفرد البشري الطبيعي العادي تماماً، ولكنه مُستفرَغ من محتواه الشعوري الحيّ، فهو قالب متحرّك في ظاهره ومتصرّف في الخارج، لكن يملأه الفراغ!

هذا النّمط من تحديد الخواء الشعوري الداخلي للكائن المفروض على شكل الزومبي هو الذي ينشده فلاسفة الذهن والمعرفة والإدراك والشعور، كي يختبروا من خلال بعض فرضياتهم وأفكارهم المثيرة أموراً تُنتج في تفرعاتها المعرفية ومخرجاتها النظرية أطروحات استشرافية لمستقبل الإنسان وقضاياه الوجودية والعلم-معرفية والأخلاقية والقانونية المهمّة.

وبصفة الفلسفة أمّاً للعلوم والمعارف، والسقف الأعلى الممكن تحقّقه بشرياً في الحقول كافة، فهذا البحث يزداد أهمية ويكتسب خطورة ملحوظة في كل تطبيقاته الذاتية والموضوعية.

والفكرة العميقة من وراء هذا الطرح في الدراسات الفلسفية، هو أن يتمّ البحث عن كيفية الوقوف على إمكانية التيقّن من أن الأفراد المماثلين لنا من حولنا بالفعل يماثلوننا من حيث الوجود في المحتوى والمضمون الداخلي في التعقّل والاستشعار وعمق الوجود، كما نشعر نحن بأنهم يماثلوننا في الشكل والهيئة في الظاهر في عالم الخارج.

هذه مسألة في غاية الأهمية في الفلسفة الحديثة، ولا سيّما في مجالي فلسفة العقل (Philosophy of Mind) وفلسفة العلوم (Philosophy of Sciences). 

التّفكير بين الآلة والإنسان

لقد مكّنتنا التقنيّة الحديثة من تصميم أجهزة دقيقة وأنظمة حواسيب معقّدة وصناعات ذات "ذكاء اصطناعي" متفوّق - وإن كان الأمر بعد في دور الحضانة والإنشاء البدائي - يفوق في بعض الأحيان قابليات الفرد الطبيعي وإمكانياته الفعلية، بل حتى قدراته الذهنية، من سرعة الاستدعاء، إلى قوة الحساب الرياضي، إلى إمكانية التخزين والنقل والتكثير المعلوماتي، إلى أمور تستدعي عمليات معقّدة جدّاً. 

هذا الأمر يدفعنا إلى البحث عن أجوبة مقنعة لأسئلة مهمة وضاغطة: هل هذه الأجهزة الحديثة بالفعل تمارس عملية "التفكير" بشكل ذاتي مستقل كما تبدو؟ وهل لها ذوات مستقلة بماهيات وجودية كالتي لدينا نحن البشريين الطبيعيين جسداً الروحانيين نفساً؟ وهل تمتلك الشعور الحقيقي كما نمتلك؟ 

أسئلة ملحّة تفرض نفسها علينا، ولا نملك إلا أن نخوض غمار البحث والتنقيب، عسى أن نهتدي إلى إجابات عقلانية مقنعة عنها، وهذا يؤدي بنا إلى عرض السؤال المفصلي في هذا المضمار، ألا وهو: ما الّذي يجعل تفكّرنا مختلفاً متبايناً عن ماهية هذه الأجهزة وطرق أدائها، بالنحو الذي يجعلها تعمل بالطريقة التي تعمل بها؟

البحث عن هذه الأسئلة يطول، وهو خارج عن إطار هذا المقال، لكن الجواب السريع ربما يكمن في نهاية المطاف في ما يتصل بوجود "الذهن العقلي" و"النفس الروحانية"، كمكونين رئيسين في الفرد الواحد منّا كإنسان فيما يتميّز به عن الآلة "الذكية" بالذكاء الاصطناعي، الفاقدة لهاتين الركيزتين. نترك تأصيل هذا البحث لمناسبة أخرى، لنعود إلى موضوع "شعوب الزومبي".

جدلية هُوية الفرد والجماعة

من هنا تأتي مناسبة إيراد هذه الاستعارة الفلسفية (الزومبي الفلسفي) في المقال، فهي تنطلق من طبيعة العلاقة الحيوية التي تقوم بين الفرد والجماعة من حيث التركيبة وصفات الوجود، وهي علاقة متقاربة إلى حد كبير بما يتعلّق بمسائل تخص جدلية هُوية الفرد والجماعة، فما ينطبق من شروط الزومبي على الفرد كذلك، وبالتقارب والقياس والتوسّع، ينطبق على الجماعة والمجتمع في أكثر من جانب ومناسبة.

ومن هنا نستمد بالتوسّع مفهوم "الزومبي الاجتماعي" Sociological Zombie (S-Zombie). وثَمّة جدلية فلسفية علم-اجتماعية قائمة بين "النظرة الكليّة" (Holism) و"الاختزال" (Reductionism) فيما يحدد كيفيّة ظهور الكيان الجمعي أو الاجتماعي، فثمة من ذهب إلى أن ظاهرة المجتمع والجماعة لا يمكن أن تُفهم إلّا بعطف اللحاظ على الهيكيلة العليا الصاعدة في هرم تشكّل الكيان الكلّي الجامع، من خلال جمع أفراده المتفرّقة وعناصره البسيطة المتطابقة بطبقات بعضها فوق بعض حتى وصول القمّة العُليا، وثمة من فسّر المجتمع بقاعدة الهرم، حيث الأفراد والوحدات التأسيسية التحتية البسيطة.

كيفما كان، والمناقشة التفصيلية عن ذلك خارجة عن صميم المقال، فإن ثَمّة علاقات صاعدة ونازلة في تشكيلة هذا الهرم المركّب "الفردو-جمعي" صعوداً (Bottom-up)، و"الجمعو-فردي" نزولاً (Top-down)، تحكم شكله النهائي، وتؤثّر فيه تأثيراً عضويّاً في القمّة حيث الجمع، وكذلك في القاعدة حيث الفرد، ما يحدد للكيان هُويّته، ويجعله مترابطاً كالجسد الواحد، يتداعى في ما بين جوانبه المتباعدة الأطراف بوحدة متصلة بعضها ببعض.

وشعوب أو مجاميع الزومبي تتبع هذا النسق، هي معلولات لعلل في نظام العليّة العامّة. تتكوّن تلك المجاميع "المتزمّبية" من وحدات فردية في قعر القاعدة الهرمية، لتؤثر في شكل الكيان الجمعي الفوقي العام وشخصيته النهائية.

كما أن الفرد الزومبي مطابق شكلاً للفرد الطبيعي، ومغاير له من حيث إنه "لا يشعر"، كذلك هو شأن الجماعة الزومبية، تبدو كأيِّ جماعة أو حاضنة من المجتمع، طبيعية في شكلها الخارجي وكيانها الاجتماعي، إلا أنها محكومة باللاشعورية التامة، لأنها نتاج مباشر لتفاعل الوحدات المكوّنة لها، فهي عبارة عن مجاميع الزومبي المكوّنة من المتفرقين أفراداً، المجتمعين حراكاً لا شعورياً، بمظهر فوقي موحّد خادع، وواقع تحتي يسوده الفراغ واللاشيئية.

حواضن خصبة للصراعات

الصراعات الأممية الحديثة في الراهن، وبتزايد لافت، واستشرافاً لما سيأتي على العالم في المستقبل، هي صراعات من نمط تحريك قطاعات المجتمع اللاواعي والغافل عن مصالحه الوطنية والقومية والجمعية، لتشوّهٍ دخيلٍ طارئٍ على هُويته الأصيلة. 

قطاعات وحشود مستعدة، وفي بعض الحالات بوحشية مخيفة، لخوض الصراعات والنزاعات بلا رؤية ولا غاية ولا مبدأ، بل ربما حتى بلا أجرٍ أو مصلحةٍ تُذكر، فهي تنشد الصراع من أجل الصراع والاقتتال من أجل الاقتتال فحسب، لضيق الرؤية وانعدام الشعور الحيّ، وللجهل والتخلّف المُفرِط، وربما لمعاناتها من حالات معيشية ضاغطة وفقر مكبّل للحرية ومضيّع للآمال، فهي تعد ذلك حراكاً طبيعياً تنموياً تكاملياً لها ولصالحها العام في الواقع!

ولا يخفى أن ذلك لا ينشأ من ذاته ومن دون تدخّل عوامل خارجية لاحقة، علاوةً على الخلل الداخلي السابق، سواء عوامل صرفة أو ممزوجة مستغِلّة لنقاط ضعف وفجوات في كيان الجماعة ذاته. 

وشعوب الزومبي هذه شعوب لا تستشعر القيمة الذاتية في الأمور. لا يهمها المبدئية في السلوك وفي حراكاتها، ولا البحث عن الحق والحقيقة، أو عمّا هو صالح أو طالح، وحسن أو قبح، بل تتحرك بدوافع السلب فيما منيت به من خواء وفراغ، بإرادات تقرّب لها البعيد، وتبعّد لرؤيتها القريب، وتجمّل لها القبيح، كما تقبّح لها الجميل.

وفقدان الرؤية السليمة وسقم التوجهات لهذه المجاميع، له إسقاطات خطيرة على الواقع الاجتماعي والجيو-سياسي، بل وحتى الحضاري في شوطها التأريخي المستقبلي البعيد، وخصوصاً في مناطق حراكها، كما لها الأثر الأكبر في تغيير المعادلات المحلّية والإقليمية، وحتى في بعض الأحيان الدولية، لتشابك النسيج البشري العام وخضوعه لمبدأ التأثير والتأثر والاشتراك والتداخل والمصير المشترك.

آليات السيطرة على الشعوب

شعوب الزومبي هي الأداة السهلة شبه المجانية المتوفرة لكل الجهات الطامعة بالاستغلال، والعابثة بالمقدرات، والتي تنشد الصراعات الأممية بأبشع صورها وأكثرها دماراً وفساداً، وبأقل الأثمان، في نهب الخيرات وسرقتها والسطو على مواردها الحيوية، وهذه هي الخطورة القصوى لهذه الشعوب أو الجماعات في داخل المجتمع، إذ إنها توفّر الوقود الحارق في هذه الأجيال الجديدة من المواجهات والصراعات والحروب بين الأمم، فتتحول من حيث لا تشعر إلى أدوات وأذرع ومفاصل أخطبوطية تُطال بواسطتها كل المطامع الحسّية العينيّة والمعنويّة الرمزيّة من خيرات العباد والبلاد.

وعادةً ما يتمّ استغلال الأجيال الناشئة والطاقات البشرية الفتيّة والشبابية المّندفعة والكوادر الفعّالة منها، لقوّتها وحماستها وقلّة معرفتها وخبرتها وقصور نظرتها حول مديات الأمور وعواقب الأقوال والأفعال، ولتمردها الطبْعي بحكم النشوء الطبيعي والنموّ العُمْري للفرد البشري والنضج المحدود نسبياً لهذه الفئات. 

كما يتم استهداف الطبقات المحتاجة والمُعدمة والمتضررة في المجتمعات، كي يتم التمكّن من صياغة عقولها وإعادة برمجتها الفكرية بالشكل الذي يُنتج أجيالاً زومبية مِطواعة، تفعل ولا تسأل، وتنفِّذ ولا تتردّد، وتباشر ولا تكترث، بعيداً عن قيم الصلاح ورؤية المصالح الشاملة والبعيدة المدى.

 ونجد أنّ إفساد هذه الطبقات من المجتمع يتمّ بشكل ممنهج ومدروس عبر منظَّمات بأقنعة شتّى، وبغطاءات دولية، حيث يتم تركيز عقول تلك الحشود، وبشكل جمعي يتجاوز حقوق وحرمة مكانة البشر من حيث الاستباحة والاستغلال والتدجين والقولبة، فتنتشر في أوساطهم ألوان الرذيلة والموبقات والمفارقات الأخلاقية والحقوقية، وتشيع ألوان المفاسد من هتك الحرمات وتعاطي المخدّرات المحرمة شرعياً وقانونياً وكل أدوات السُكر والغيبوبة والإدمان المدمّر وما شاكل ذلك، تحت عناوين الحرية الفردية والمواطنة والتحرّر والتمدّن!

وبهذه العملية من الإذلال والابتذال، يتم السيطرة على عقول تلك الشرائح المجتمعية وإخضاعها للتحوّل إلى حالة الزومبي المُتمرّد المُتوحّش المُنفلت، الفاقد للشعور والبصيرة وصواب العقل.

شعوب التنوير في مواجهة مجاميع الزومبي

ويقابل شعوب الزومبي، في الطرف الآخر، الشعوب أو المجاميع الحيّة الناهضة التي تنبض بالشعور الراسخ في تحديد الهويّة وحفظ الكيان العام ورعاية المصالح القائمة والمستقبلية، والحاملة للإرث الحضاري المتوارث من الأجيال الماضية بأمانة وحرص ثابتين.

هذه الشّعوب تأبى كلّ ألوان السّطو على مقدّراتها والعَبَث بكيانها واستباحة هويّتها الأصيلة لتصفيتها وجوديّاً، فهي تكافح حالات الزومبي، بل ومبدأ "الزومبيّة" أصلاً في داخل المجتمع، من أجل قطع الطرق على المتربّصين وتوابعهم وأذنابهم وعملائهم في داخل الكيان وخارجه، ولتقوية الكيان في حصونه ومراكز ثقله تجاه كلّ فرص استحمار الشعوب بالاستعمار والاستبداد والاستكبار والاستصغار والاستعباد والاستبعاد، سواء بأشكال مباشرة أو بغير ذلك من طرق التدخلات الخبيثة "الناعمة" التي تأتي على الشعوب وتمرّ على أجوائها بلا لون ولا رائحة ولا صوت لتدبّ دبيب الأفاعي المميتة.

شعوب التنوير والصَّحوة ومكافحة حالة الزومبي كفيلة بإعادة التوازن وتجديد حضور كياناتها الوجودية وترسيخ مقدّراتها في خوض محاور هذه الصراعات الجديدة من حيث الأساليب والمقاربات في اشتباك الأمم في العصر الحديث، والتي تُطلّ برؤوسها على الشعوب من داخلها، وإن اتصلت بخيوطٍ واضحة أو خفيّة ممتدةٍ مما وراء الحدود الجغرافية، وفي مختلف الميادين والسّاحات والمجالات.

هذا الأمر كما يصدق على جميع أمم العالم لتماثل الطبيعة والتجربة البشريتين، فإنه يكتسب خصوصية بارزة بالنسبة إلى الشعوب التي ازدهرت في الحضارات، وتنوّعت في العرقيات، وتباينت في مللها ونِحَلها والموارد البشرية المكوّنة لها، ومنيت بالخيرات والثروات، وأصبحت مستهّدَفة كمطامع مباشرة للقاصي والداني. 

وعلى رأس تلك الشعوب والبلاد هي تلك التي اجتمعت المطامع كافةً عليها، لوجود الموارد والخيرات فيها وحولها بالتجاور الجغرافي، والتي تُشكّل كياناتها الحضارية والبشرية والجيو-سياسية طرق إمدادٍ للاقتصادات العالمية الكبرى بحركاتها المالية المعقّدة، ونبض حياتها، وسبل تواصلها بين المشرق والمغرب في الحاضر والمستقبل القريب والمتوسّط والبعيد، وذلك أكثر انطباقاً وأصدق اعتباراً بشكل أخصّ فيما يلحظه المتخصّصون والقارئون المتفحّصون للمشهد العالمي في مناطق ما يُسمى "طرق الحرير"، التي تُعد الممرّات والأوردة الحيويّة التي تنتعش بها شعوب الأرض وتتواصل مع بعضها البعض في المنافع الحياتية والاقتصادية الاستراتيجية الكبرى.

ومن هنا، على الشّعوب الحيّة الأبيّة المكافِحة لأشكال الذلّ والهوان والاستعباد والاستضعاف، أن تُبقي على روح اليقظة والترقّب والحذر، وأن تدرس مكامن الضعف في واقعها، ومواطن وأسباب تولّد "مجاميع الزومبي"، وعوامل نشوء التكتلات التي يطمع الطامع الجشع المستغِل في تحريكها كيف يشاء، متى ما شاء، وتحت أيّ عنوان يشاء.

خصائص "الفرد الطبيعي" و"الفرد الزومبي"

في ختام المطاف، الزومبي الفلسفي ليس كالزومبي الذي نشاهده في أفلام هوليود الخيالية؛ موجودات دمويّة مُخيفة تُرهب المُشاهد، تسير بسواد الحشود المنفلتة كالوحوش الكاسرة، إنما هي موجودات مماثلة لنا في الشكل والتصرّف الظاهري، ولكنها لا تملك قوّة الشعور الحيّ، بحيث لو ضُرب أحد الزومبيات ضربةً لأظهر رد فعلٍ مماثلاً لذلك الذي نظهره، ولكنه لا ينفعل في ذلك من موقع الشعور كما ننفعل، فلا يستشعر الأذى ولا يتألم.

وأفاد الفلاسفة من هذه الأطروحة العديد من الإفادات، من أهمّها تلك التي وفّرت المقوّمات والمباني لنقد المذهب الفلسفي المادّي المُتبنّي لفكرة ماديّة الإنسان المحضة بالنسبة إلى جوانب وجوده كافة وحيثيّات طبيعته، وهو المذهب الذي لا يرى هويةً للإنسان تمتدّ إلى ما وراء جسده المادي المحسوس.

الزومبية الفاقدة للشعور فَرضية تبيّن على نحوٍ استعراضيٍ موفّق المائز الجوهري الحقيقي بين الإنسان الطبيعي الذي يتصرّف بشعور حيّ من تلقاء ذاته، وتفاعلٍ ذهنيٍ في عقله في عالم الداخل، والفرد الزومبي الذي يظهر كفردٍ طبيعيٍ للعيان، ولكنه فارغ في داخله، وأشبه ما يكون بدُميةٍ مكوكيةٍ أو بآلةٍ مسيَّرةٍ مبرمَجةٍ ببرمجةٍ حاسوبيةٍ رقميّة.

والفرق الفارق بين مجتمعات الزومبي وحواضنها وتلك التي تعيش في معترك الحياة الحقيقية في العالم - ولها الشعور المتصل بالهويّات الفردية والدينية والقومية والوطنية وغيرها في أُطرها الإنسانية الواسعة الرحبة، وتنشد الغايات العليا في مساراتها الوجودية، وتتمسّك بحياة العزّة والكرامة - هو الفرق ذاته بالتحديد؛ ذلك الفرق الجليّ بين الميّت المُتحرّك آليّاً والحيّ العامر بالشعور المُفعم والحياة الحرّة الأبيّة.

ميادين الصراعات الجديدة

بكلمةٍ أخيرة، إنَّ موضوع هذه الصراعات الجديدة هو "عقول الناس" و"ميادين أنفسهم". وخوض تلك الصراعات يأتي بصياغة أفكار الناس بشكل ممنهج مقولب، وآليات هذه الصراعات هي الهندسة الاجتماعية (Social Engineering)، من خلال السطو التعليمي تارة، والتقنيّة المعلوماتية والشبكات السايبرية (Cybernetics) تارة أخرى، عبر أدوات ومنابر ما يُسمى "التواصل الاجتماعي" (Social Media) وغيرها، بواسطة البرمجيات المعقّدة ذات المقدرة على التعلّم الذاتي المتطوّر (Self-Deep-Learning Artificial Intelligence) بشكل مطّرد، والتي تمّ تصميمها لجمع وتحليل ونقل المعلومات الشخصية الدقيقة عن الناس وميولهم تجاه قضايا حياتهم وأفكارهم بنحوٍ تفاعليّ وتجسّسي.

كما أنَّ كل قنوات الإعلام، الفضائية منها والإلكترونية والمطبوعة، المُحَكّمة والمؤدلجة، هي الأخرى آليّة فعّالة مؤثّرة من آليّات هذه الصراعات.

وغاية هذه الصراعات تدجين أجيال من الناس لتوليد جماعات الزومبي، لتكون الحواضن الخصبة للهيمنة العابثة بالمقدّرات والمصير، من خلال طمس الهويّة الفردية والجماعية والوطنية والقومية والقيمية الأخلاقية والدينيّة، وغسيل العقول، وتثوير الشعوب بشتّى أنواع الثورات الاجتماعية، وإغراقها بالفوضى العارمة، لتقوم بعملية الصراع بالنيابة وبلا شعور.