"رأس البغدادي" لإنعاش مشروع ترامب

الجمع بين الساحات السورية والعراقية واللبنانية يدفع إلى الاعتقاد بأن الانسحاب الأميركي من سوريا بالتنسيق مع الروسي هدف في جانب من أهدافه إلى التفرّغ لمتابعة استراتيجية الضغوط القصوى على محور المقاومة في الساحتين العراقية واللبنانية، لكن هذه ليست إلا بداية المواجهة.

عملية نبع السلام التركية

لا تزال التطوّرات الحاصِلة في شمال سوريا تتصدّر قائمة الأحداث في الشرق الأوسط، إلى جانب الأحداث التي تشهدها الساحتان العراقية واللبنانية، والتي تتداخل فيها عوامل داخلية وأخرى خارجية.

وشهد الأسبوع الفائت حدثاً بالغ الأهمية والدلالة حين تمكّنت قوّة خاصة أميركية من قتل زعيم تنظيم "داعش" الإرهابي أبو بكر البغدادي في عمليةٍ خاصةٍ في منطقة باريشا في محافظة إدلب السورية.

والحقيقة أن هذه العملية جاءت بعد سياقٍ مضطرب اختلطت فيه أدوار الدول، بعد قرار تركيا التدخل في منطقة شرق الفرات داخل الأراضي السورية، ثم قيام الرئيسين الروسي والتركي فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان بتوقيع اتفاق ينصّ على التزام الطرفين بالحفاظ على الوحدة الإقليمية والسياسية لسوريا وعلى حماية الأمن الوطني لتركيا، ومحاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره وتعطيل المشاريع الانفصالية في الأراضي السورية، والحفاظ على الوضع الراهِن في منطقة عملية "نبع السلام" الحالية، التي تغطّي تل أبيض ورأس العين بعُمق 32 كم، وتأكيد أهمية اتفاقية أضنة، ودخول الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري إلى الجانب السوري من الحدود السورية التركية، خارج منطقة عملية "نبع السلام"، بغية تسهيل إخراج عناصر "ي ب ك" وأسلحتهم حتى عُمق 30 كم من الحدود السورية التركية، والانتهاء من ذلك خلال 150 ساعة.

وفي تلك اللحظة، بدأ تسيير دوريات تركية وروسية مشتركة غرب وشرق منطقة عملية "نبع السلام" بعًمق 10 كم، باستثناء مدينة القامشلي، وإخراج جميع عناصر "ي ب ك" (مقاتلين أكراد) وأسلحتهم من منبج وتل رفعت، ومنع تسلّل عناصر إرهابية، وإطلاق جهود مشتركة لتسهيل العودة الطوعية والآمِنة للاجئين، وتشكيل آلية مشتركة للرصد والتحقّق لمراقبة وتنسيق تنفيذ هذه المذكّرة، والعمل على إيجاد حل سياسي دائم للنزاع السوري في إطار آلية أستانة، ودعم نشاط اللجنة الدستورية.

مؤشرات على توافق روسي أميركي

أبو بكر البغدادي

لكن مقتل البغدادي الذي أتى بعد قرار ترامب بسحب معظم قواته من شرق الفرات فتح الباب واسعاً على تساؤلات مهمة حول مستقبل الدور الأميركي في الأزمة السورية، وحول كيفية تمكّن الأميركيين من الوصول إلى رأس زعيم التنظيم الإرهابي الذي توارى عن الأنظار لفتراتٍ طويلة، وسيطر تنظيمه في السنوات الفائتة على مساحةٍ شاسعةٍ من الأراضي بين سوريا والعراق تساوي حجم الأردن، مؤسِّساً "الدولة الإسلامية" التي دقّت ولادتها أجراس إنذار دول العالم في الشرق والغرب.

في هذا السياق نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الإثنين الماضي عن مسؤولٍ عسكري أميركي قوله إن قرار ترامب بشأن الانسحاب من سوريا أربك العملية التي كانت جارية لتصفية البغدادي. وأن العملية استمرت بالرغم من ذلك وجرت بدقةٍ فائقةٍ لكن مع اضطرار مسؤولي البنتاغون إلى تسريع التنفيذ وتقريب ساعة الصفر، خشية إفلات الهدف الثمين من بين أيديهم بسبب التطوّرات التي أحدثتها نيّة الانسحاب. لكن مَن الذي ساعد على إتمام هذه العملية وفي أيّ سياقٍ استراتيجيٍ جرت؟

المُعطيات التي كشفها ترامب نفسه عند الإعلان عن العملية أكَّدت تعاون روسيا وتركيا والعراق والكرد مع الأميركيين لإتمام العملية، وقد توجَّه ترامب بالشكر لهذه الجهات على المساهمة التي قدّمتها في سبيل القضاء على البغدادي. لكن ذلك يؤشّر أيضاً إلى سياق مُتكامِل من الأحداث، تمّ خلاله تقسيم المكاسب التي يجنيها كل واحد من الأطراف من جرّاء مساهمته. أو على الأقل الأطراف التي تستطيع أن تفرض لنفسها مكاسب من هذه الخطوة.

فقبل تلك العملية، كانت التهديدات المُتتالية التي وجّهها ترامب إلى تركيا بضرب اقتصادها ودفعه إلى الانهيار تستبطن رغبةً أميركية ما. ولم يكن السبب المُعلَن لذلك (التوسّع في العملية ضد الكرد) كافياً لإقناع المُراقبين، خصوصاً بعد أن تخلّى ترامب عن حلفائه الكرد وتركهم في عين العاصفة التركية.

ليأتي مقتل البغدادي كمؤشّرٍ يُفسِّر أن تهديدات ترامب كان الهدف منها الحرص على التزام تركيا بأداء دورها في عملية البغدادي بصدق.

وبالتوازي مع ذلك، فإن الدور الروسي في هذه العملية، ومؤشّرات أخرى عديدة مرتبطة بساحاتٍ مفتوحة خارج سوريا، تؤشّر إلى توافق الروس والأميركيين على انسحاب واشنطن من الساحة السورية لمصلحة دورٍ روسي يكون راعياً لعملية الحل السلمي المؤسِّس لمستقبل سوريا، والذي تتمّ متابعته بصورةٍ حثيثة من قِبَل موسكو.

التوجّه الأميركي الجديد في سوريا أكَّده قول ترامب قبيل قرار الانسحاب من هناك إنه لا مشكلة في أن تتولّى روسيا حل الأزمة السورية، مُتذرِّعاً بعدم رغبته بإدخال الولايات المتحدة في مواجهةٍ ممتدة مئات السنوات بين الأتراك والكرد.

لكن الكرد وفق المعلومات التي نقلتها وسائل الإعلام الأميركية استمروا في التعاون مع الأميركيين في عملية قتل البغدادي حتى بعد قرار واشنطن الانسحاب من مناطقهم. تركيا الواقفة على الضفة الأخرى كعدو للكرد هي الأخرى لم تقصّر في التعاون في العملية نفسها.

وفي المُحصّلة، فإن ترامب تمكَّن من اقتناص هذه الفرصة السانِحة لإنجازٍ شخصي له في الأزمة السورية، يعوِّض غياب أيّ إنجازٍ أميركي ثمين خلال سنوات الحرب هناك.

ويشكّل "رأس البغدادي" هدية ثمينة لترامب قد تُخفِّف عنه المُلاحقات القضائية ومحاولات العزل التي يخوضها ضده خصومه في الداخل، والتي مكَّنتهم في الأشهر الماضية من تضييق الخناق حوله وإشعاره بخطرٍ حقيقي على مستقبله السياسي، وصولاً إلى احتمال عدم إكمال ولايته.

وأبعد من ذلك، فإن قتل البغدادي، وهو العدو الذي نُفِخَت صورته حول العالم ليتحوّل إلى "شيطان العالم" الذي تلاحقه كل الدول تقريباً، قد يعزِّز كثيراً حظوظ ترامب بولايةٍ رئاسيةٍ ثانية، تماماً كما فعل أسلافه، خصوصاً باراك أوباما الذي تمكّن من القضاء على زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن عام 2011، أي قبل عامٍ واحدٍ من فوزه بولاية ثانية في البيت الأبيض، وهي الحال نفسها بالنسبة لترامب الذي بقي له عامٌ ليتم ولايته الرئاسية الأولى، مع شهيةٍ مفتوحة على الاستمرار في الحُكم.

دمشق تركِّز على استعادة الأرض

صورة من مدينة تدمر التراثية

أما بالنسبة إلى دمشق، فإن قتل البغدادي يُعتَبر خبراً سارّاً لدولة عاثت فيها مجموعات "داعش" الإرهابية خراباً، وضربت الحجر والبشر فيها، وامتدت إلى تاريخها الحضاري ومعالمه التاريخية التي لا تعوَّض.

غير أن ذلك لا يعني نهاية المعركة بالنسبة إليها، كما لا يعني موافقتها على أية أثمان قد تقدّمها واشنطن لأنقرة كمُكافأةٍ على التعاون في قتل البغدادي، أو في سياق التنافُس مع الروس على الفوز بصداقة تركيا، وهي الدولة الإقليمية القوية والمهمة في حسابات الدول الكبرى.

ولذلك، فإن دمشق تواصل تقدّمها في مناطق شرق الفرات، كما في ريف إدلب والمناطق التي لاتزال محتلةً من قِبَل التنظيمات الإرهابية، من دون اعتبارٍ كبير لرغبة الدول الأخرى في إبطاء هذه العمليات الجارية لاستعادة كامل التراب السوري. 

وفي السياق، أعلن التلفزيون السوري الثلاثاء عن وقوع اشتباكات بين الجيشين السوري والتركي في ريف الحسكة، في الوقت الذي دعت فيه وزارة الدفاع السورية عناصر "قسد" إلى الانخراط في وحدات الجيش للتصدّي للعدوان التركي، الذي احتلّ قريتين في ريف مدينة رأس العين.

"الضغوط القصوى" في لبنان والعراق

احتجاجات في العراق

في موازاة الانسحاب الأميركي من سوريا، وبنتيجة مرضية لمشروع ترامب الذي يحاول إنعاشه، انفجرت احتجاجاتٌ شعبية في لبنان والعراق، وهما الساحتان اللتان تشهدان حضوراً قوياً لحركات المقاومة من حلفاء إيران.

ويبدو ظاهر الأحداث مطلبياً يسعى إلى محاربة الفساد وإصلاح البلاد، لكن ملامح كثيرة أدّت إلى تزايُد الشكوك حول الجهات الواقفة وراء تفجير وتزخيم هذه الأحداث. وفي الساحتين يبدو العامل الأميركي حاضراً بقوّة.

فالشعارات التي رُفِعَت في تظاهرات العراق انحرفت عن المطالب الشعبية المُحقّة إلى استهداف الحشد الشعبي (وهو الذي ساهم بتحرير البلاد من داعش) وإيران (وهي داعم أساسي للعراق في حربه ضد الإرهاب).

أما في لبنان فربما يكون التدخل أكثر وضوحاً في البلاد التي تقوم واشنطن فيها ببناء سفارةً ضخمة بقيمة تتجاوز مليار دولار. وقد شهدت الاحتجاجات الشعبية انخراطاً لأحزاب شكّلت العصب الأساس للاحتجاجات في المناطق ذات الأغلبية المسيحية، بعد أن سارع حزب "القوات اللبنانية" (حليف واشنطن) إلى الاستقالة من الحكومة وتبعه بعد أيام رئيس الحكومة سعد الحريري، ليضع حلفاء المقاومة أمام فراغ حكومي وتظاهرات في الشارع، واستحقاقات مالية واقتصادية داهِمة تحتوي على مخاطر كبيرة على البلاد ومستقبلها.

والجمع بين الساحات الثلاث، السورية والعراقية واللبنانية يدفع إلى الاعتقاد بأن الانسحاب الأميركي من سوريا بالتنسيق مع الروسي هدف في جانب من أهدافه إلى التفرّغ لمتابعة استراتيجية الضغوط القصوى على محور المقاومة في الساحتين العراقية واللبنانية، لكن هذه ليست إلا بداية المواجهة.