أمن روسيا: اتجاه استراتيجيّ أكثر ثقةً (2-2)

جاءت الاستراتيجية الروسية الجديدة للأمن القومي لتتابع الاتجاه التصاعدي لروسيا الاتحادية نحو تحقيق الهدف الأكبر، فما هي مضامين هذه الوثيقة؟ وكيف تختلف أو تتفق مع سابقاتها؟

  • تركز الاستراتيجية الجديدة على مكافحة الألفاظ النابية، وحماية المجتمع الروسي من توسع الأيديولوجيات والقيم الخارجية.
    تركز الاستراتيجية الجديدة على مكافحة الألفاظ النابية، وحماية المجتمع الروسي من توسع الأيديولوجيات والقيم الخارجية.

بعد استكمال تطبيق استراتيجية 2012-2020 بمقدارٍ وافرٍ من الأهداف المحققة، أتى توقيع الرئيس فلاديمير بوتين على الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي لروسيا في 3 تموز/يوليو ليراكم على منجزات الاستراتيجية السابقة. 

في الإطار العام، تشبه الاستراتيجية الجديدة تلك السابقة لها في منطلقاتها وأهدافها، مع زيادتها مخاطر جديدة والتركيز عليها بالتفصيل، بحيث تختلف درجة التركيز على بنود محددة دون بنودٍ أخرى، فيما تختلف الاستراتيجية الجديدة بصورةٍ واضحة عن الاستراتيجيتين الأولتين اللتين أُعلنتا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق (الأولى أعلنت في العام 1993، والثانية في العام 2000).

وقد أعلن بوتين أن بلاده تتعرَّض لمحاولة حصار متنوع يتراوح بين التهديدات العسكرية والهجومات السيبرانية والتدخل في الشؤون الداخلية للدولة، عبر تحريض أطراف داخلية لزعزعة النظام السياسي والواقع الأمني في البلاد وتعميم الثورات الملونة. وكان لافتاً شمول الوثيقة أنواعاً جديدة من المخاطر، ومنها محاولة ضرب الثقافة الروسية وخصوصيتها، وتغريب الثقافة، ونشر قيم أخلاقية أجنبية لا تتوافق مع مضامين الثقافة الروسية، وتعميم ألفاظ نابية بين الروس.

إنَّ شمول هذه الأنواع من المخاطر في استراتيجية الأمن القومي الروسي، وحديث الرئيس الروسي عنها كتهديدات تتعرض لها البلاد من قبل أعدائها، يظهر بصورةٍ لافتة تطور مفهوم الأمن القومي عموماً، وتنبّه المخططين للأمن القومي الروسي إلى هذا التطور، بحيث تجاوز مفهوم الأمن القومي أطر التهديدات العسكرية والأمنية المباشرة، بل إنه تجاوز ما نصّت عليه الاستراتيجيات السابقة من مخاطر بيئية وأمنية ناعمة، لتصل إلى ما يهدد التربية الوطنية والثقافة القومية، كمدخل لضرب الأمن القومي. إنَّها علامة على شكل الأمن القومي اليوم وفي المستقبل.

استمرار للاستراتيجية السابقة

في الاستراتيجية السابقة (2012-2020) وتعديلاتها (2014 و2015)، اتّسمت استراتيجية الأمن القومي الروسي باستعادة حدة التعبيرات عن الخطر الآتي من الغرب باتجاه روسيا. اشتملت هذه الاستراتيجية وتعديلاتها على نصوص واضحة تشير إلى عدائية الغرب تجاه روسيا. وإذا ما أضفنا إلى نصوص تلك الوثيقة تصريحات المسؤولين الروس، نكون أمام صورة قاتمة للعلاقات الروسية الغربية، كعلاقات مسكونة بالمخاوف. 

بالنسبة إلى الغرب، هو خوف من مطامع روسيا ونياتها بالسيطرة على أوروبا، بينما هو خوف من الناحية الروسية يعبر عنه في التصريحات والنصوص من "الروسوفوبيا"، أو تعميم وتضخيم الخوف من روسيا كسياسة عامة يمارسها الغربيون بصورةٍ عامة. وبعيداً من تأكيد أيٍ من الرؤيتين، فإن النص السابق لاستراتيجية الأمن القومي الروسي كان يشير إلى ممارسة الغرب ضغوطاً دائمة على روسيا من أجل تقويض الإنجازات العسكرية والسياسة الخارجية والاقتصادية والثقافية للبلاد.

وينصّ التعديل الأخير على الاستراتيجية السابقة (تعديل نهاية 2015)، على أن "تنفيذ روسيا سياسة خارجية وداخلية مستقلة يثير معارضة من الولايات المتحدة وحلفائها، الَّذين يسعون للاحتفاظ بهيمنتهم في الشؤون العالمية. إن سياسة احتواء روسيا التي يطبّقونها، تتصور ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية وعسكرية ومعلوماتية عليها".

لقد وصف هذا التعديل سياسة واشنطن وحلفائها تجاه موسكو بـ"سياسة الاحتواء"(Containment Strategy)، وفي ذلك استعادة لأدبيات الحرب الباردة، إذ طبّقت الولايات المتحدة سياسة الاحتواء ضد الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، لمنع انتشار نفوذه في الدول المحيطة وفي مناطق أوسع. وفي سبيل ذلك، أدارت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون جهوداً استباقيّة لقلب الأنظمة الحليفة للسوفيات واحتوائها ضمن التحالف الغربي.

واليوم، ومع عدم وجود اتحاد سوفياتي، وفي ظل عدم اعتناق روسيا أيديولوجيا شيوعية تسعى، كما في السابق، لنشر أفكارها ودعم الأنظمة التي تعتنقها، فإنَّ استراتيجية الاحتواء تعتبر عملاً هجومياً بحتاً يسعى إلى "حصار" روسيا ومنعها من تحقيق إنجازات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، أو حتى تطوير قدراتها الذاتية، لتعود قطباً في العلاقات الدولية كما كانت في السابق.

لقد تعاملت موسكو مع هذه المخاطر في إطار تنفيذها الاستراتيجية السابقة، من خلال مواجهة الثورات الملونة المدعومة أميركياً، وخوض مواجهات استخباراتية غير علنية، لم يظهر إلى واجهة المشهد منها سوى أحداث متفرقة ومتباعدة لا ترقى إلى المواجهة الشاملة التي اتسمت بها مرحلة الحرب الباردة. كما سعت موسكو من ناحيةٍ أخرى إلى تطوير قدرات الدولة في الميادين العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية... والقيام ببناء مستمر للقدرات الذاتية، استعداداً للأدوار المقبلة للبلاد في العلاقات الدولية.

أما الاستراتيجية الجديدة، فإنَّها ترفع التحدي إلى مستوى أعلى، بحيث تتجاوز "ضرورة مواجهة المتطرفين الذين يقوّضون النظام الدستوري في روسيا"، لتنصّ أبعد من ذلك على "ضرورة مواجهة" أولئك الذين ينشرون النفوذ الغربي في البلاد"، بما يشمل الأنشطة التي تهدف إلى التأثير الثقافي والقيمي والأخلاقي الغربي في الداخل الروسي.

إضافةً إلى ذلك، وبعد سنوات طويلة من تركيز الاستراتيجيات المعادية لروسيا على خاصرتها الرخوة في الاقتصاد المعتمد بصورةٍ مبالغ فيها على مصادر الطاقة، فإنَّ روسيا تدرك في نص الوثيقة الجديدة ضرورة بناء اقتصاد جديد مكتفٍ ذاتياً، يعتمد على التقنية العالية، ويكون أقل اعتماداً على مصادر الطاقة، وخصوصاً الغاز الطبيعي، والانتقال بقدرات ذاتية، ومن دون مساعدات خارجية، من اقتصاد المواد الأولية إلى اقتصاد يعتمد على التطور التكنولوجي المتناغم مع اتجاه النظام الاقتصادي الدولي وشدة التنافس التي تعتريه.

ومن هذا المنطلق، يبدو أنَّ الاستراتيجية الجديدة تتآلف مع التوجه العام للاستراتيجية الصينية التي تسعى إلى "السيادة التكنولوجية" كهدف رئيس من أبرز أهدافها، بحيث تكون القوتان الشرقيتان قوتين متناغمتين استراتيجياً من ناحيتي الأهداف ومصادر التهديد. وبذلك، تشتد أواصر التحالف الاستراتيجي بين روسيا والصين، لتشكلا معاً قوة بالغة القوة من جهة، بينما تفعّل روسيا أكثر فأكثر حركتها في الفضاء الأوراسي كقوة مهمينة في محيطها ومؤثرة في القضايا البعيدة التي تعطيها وهجها العالمي، والأخير كفيل عند اكتماله وثباته بأن يحقّق الهدف الأكبر لاستراتيجيتي الأمن القومي الأخيرتين، وهو عودة روسيا قطباً في نظامٍ عالميٍ متعدد الأقطاب.

الاستراتيجية الجديدة على المستوى الاقتصادي

تبدو الاستراتيجية الجديدة متحفظةً لناحية تمجيد الإنجازات التي تحققت على المستوى الاقتصادي نتيجة تطبيق الاستراتيجية السابقة. على هذا المستوى الذي يشكل أهمية قصوى اليوم، ترى موسكو أن الاقتصاد الروسي يتطور بصورةٍ جيدة، وأنه يطور قدراته الذاتية بصورة تتناسب مع أهداف برنامج استبدال الواردات الذي سعت إليه الاستراتيجية السابقة، بحيث يمكن الاستمرار بالمسار نفسه خلال تطبيق الاستراتيجية الجديدة. 

وكما الكثير من اقتصادات العالم، يعاني الاقتصاد الروسي اليوم تداعيات جائحة "كوفيد - 19"، الأمر الذي يتطلَّب جهوداً إضافية لإعادة إطلاق النمو الذي كانت الاستراتيجية الروسية الأخيرة تسعى إليه خلال المرحلة المقبلة.

وفي هذا السياق، يرى مخطّطو الأمن القومي الروسي أن النمو فوق المعدلات العالمية سيكون هدفاً بعيداً، لكنهم يشيرون في الوثيقة الجديدة التي أصبحت استراتيجية الدولة إلى مفهوم لافتٍ جداً: "السيادة الاقتصادية لروسيا"، وهو ما يتوافق، كما أسلفنا، مع مفهوم صيني مشابه في تطلّعاته البعيدة، وهو "السيادة التكنولوجيّة". 

يدرك الطرفان إذاً المخاطر في هذا المجال، ويتطلّعان إلى إنتاج ما يحتاجان إليه محلياً بقدر الإمكان، مع فوارق كبيرة بين قدرات كل من الدولتين. بالنسبة إلى الاقتصاد الروسي، إنَّ الاستراتيجية الجديدة تريد تعزيز السيادة والمرونة الاقتصادية في مواجهة أوضاع غير مستقرة على مستوى الاقتصاد العالمي. وهنا، تنص الاستراتيجية الجديدة على:

- خفض مستوى التجارة الخارجية بالدولار.

- زيادة حصّة الاستثمارات في الاقتصاد الروسي من دون الحاجة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر، وتقليص الاستثمار الأجنبي الحالي في القطاعات التي تصنّف استراتيجية.

- تقليل الاعتماد على الواردات من الخارج، بما فيها واردات التقانة العالية.

- تطوير البنية التحتية الوطنية للأسواق المالية، بما في ذلك البنية التحتية للمدفوعات، وصولاً إلى نقطة عدم الاعتماد على دول ثالثة في هذا المجال.

- إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي على المدى الطويل، بحيث لا يشكل النفط والمواد الخام الأخرى أساس الاقتصاد. وفي هذا المجال، تقول الوثيقة الجديدة إنَّ الحكومة تحتاج إلى ضمان "إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني على أساس تكنولوجي حديث، وتنويعه وتنميته على أساس استخدام تقنيات منخفضة الكربون".

على مستوى التّعاون الدّوليّ

على هذا المستوى، تسعى روسيا إلى التمسّك بالقانون الدولي وعدم السّماح بالتدخل في شؤون الدول، ويشابه نصّ الوثيقة الجديدة نصّ الاستراتيجية الأخيرة، بحيث تخطّط موسكو لحماية أولئك الذين ينتهك الغرب سيادتهم، فهي تعد حلفاءها وشركاءها بالدعم في "تحييد محاولات التدخل الخارجي في شؤونهم الداخلية".

إلى جانب ذلك، تحتوي الوثيقة الجديدة بنوداً توضح نية روسيا تقديم الدعم للمواطنين الذين يعيشون في الخارج في ممارسة حقوقهم، بما في ذلك الحق في الحفاظ على هوية ثقافية روسية بالكامل، وتقوية الروابط الأخوية بين الشعوب الروسية والبيلاروسية والأوكرانية.

على مستوى التكنولوجيا والبحث العلمي

يريد التخطيط الاستراتيجي الروسي خلال المرحلة المقبلة جعل الدولة رائدةً في التطور العلمي والتكنولوجي، وأن تكون للدولة المساهمة الأكبر في هذا المجال، بحيث يتم هذا التطور تحت أعين الإدارات التي ترعى الأمن القومي الروسي. ويرى المخطّطون ضرورة استقطاب "أفضل علماء العالم" إلى البلاد، وبناء وتطوير "مراكز للتعاون الدولي في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وذلك مع مراقبة وضمان عدم النقل غير القانوني لنتائج الأبحاث إلى خارج البلاد. إضافة إلى ذلك، تريد الاستراتيجية الجديدة تشجيع الابتكار في مجال الأعمال والبحث، وإنشاء "نظام دولة موحّد" لإدارة الأنشطة العلمية والتكنولوجية والابتكارية، وصولاً إلى "ضمان الاستقلال التكنولوجي للبلاد".

على المستوى الدّفاعي الصّلب

تشير الاستراتيجية الجديدة إلى تزايد التهديدات التي تتعرَّض لها روسيا، وإلى أن احتمال وقوع صدام عسكري بين روسيا وأعدائها ارتفع خلال السنوات الخمس ونصف السنة الماضية. وتشدّد الوثيقة على أن مصدر التهديد الأساس على وجه الخصوص هو توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو" نحو حدود روسيا، وأثر نظام الدفاع الصاروخي الأميركي في "تدمير نظام الاستقرار الاستراتيجي". تتعزز هذه الرؤية بالنظر إلى انسحاب الولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات الفائتة من معاهدات تحدّ من التسلّح الاستراتيجي كانت تساهم في تثبيت الاستقرار الاستراتيجي.

وترى الاستراتيجية في الجانب الدفاعي المباشر أن المخاطر والتهديدات العسكرية لروسيا تتزايد، بما يشمل التهديد الذي تمثله التشكيلات العسكرية الواسعة والأسلحة النووية، كما تتصاعد وتيرة الأنشطة الاستخباراتية المعادية ونوعها. 

وتقترح الوثيقة أن يتم تطوير وسائل جديدة للردع الاستراتيجي، ورفع الاستعداد للتعبئة، وإعداد الاقتصاد والأجهزة الحكومية والقوات المسلحة لحماية الدولة من الهجمات المسلحة وتلبية احتياجات الدولة والسكان في زمن الحرب، إلى جانب تقديم التربية العسكرية الوطنية والاستمرار بإعداد المواطنين للخدمة العسكرية.

على مستوى أمن المعلومات

تريد الاستراتيجية الجديدة في هذا المضمار أن تمتلك الدولة الروسية القدرات الكافية لمواجهة التهديدات المتزايدة التي تطالها، نتيجة استخدام الوسائل الجديدة المبتكرة في مجال أمن المعلومات. وتطمح موسكو بذلك إلى تحقيق مستوى إنتاج تكنولوجي يحاكي التطورات العالمية في هذا المجال، وهي تدرك، بحسب نص وثيقتها الاستراتيجية هذه، مكامن الخطر ومصادر التهديد السيبراني التي تطال مؤسسات وإدارات رسمية وقطاعات إنتاجية وخاصَّة في بعض الأحيان. 

وتتعرّض الدولة للاعتداءات المتتالية من قبل أعدائها، بحسب الوثيقة الجديدة، من خلال قيام شركات تكنولوجيا عالمية بمهاجمة روسيا، وحجب أو تسليط الضوء على المعلومات المتعلقة بها، فتحجب المادة المفيدة، وتعمم المعلومات غير الدقيقة التي يمكن أن تلحق الضرر بموسكو.

وبذلك، يرى التخطيط الاستراتيجي الروسي أنَّ هذه الاعتداءات التكنولوجية تسهم في خلق صورة مشوهة عن روسيا، وعن الأحداث التي تجري على أراضيها، وأن ذلك يحدث لخدمة أهداف سياسية، بحيث تتدخل جهات خارجية عبر وسائل متنوعة، منها الإنترنت، بالشؤون الداخلية الروسية، بما ينتهك "سلامتها الإقليمية" ويقوّض سيادتها. ومن ضمن ذلك، تتعرَّض روسيا لدعوات إلى أعمال شغب جماعية ومواد تبث عبر الإنترنت لخدمة منظمات إرهابية متطرفة.

وتريد روسيا "تطوير قوى ووسائل المواجهة المعلوماتية"، و"تحسين وسائل وطرق ضمان أمن المعلومات من خلال استخدام التقنيات المتقدمة، بما في ذلك تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية"، و"تقديم معلومات موثوقة حول السياسة الداخلية والخارجية للاتحاد الروسي إلى المجتمع الروسي والدولي".

على مستوى القيم الثّقافيّة والرّوحيّة

تركّز الاستراتيجيّة الجديدة على المستوى القيمي بصورةٍ لافتة. في الاستراتيجيات السابقة، كان هناك تركيز أيضاً على هذا المجال، لكنَّ النسق هنا يتصاعد ليكتسب معاني جديدة، بحيث تنطلق الوثيقة من ضرورة حفظ الحياة والكرامة وحقوق الإنسان والحريات والمسؤولية عن مصير الوطن والإخلاص له. وتريد الوثيقة الجديدة حفظ القيم الأسرية المترابطة بقوة، وحماية الأخلاق العالية، وعلو الروحانية على المادة، وسمو التعاون والروح الجماعية المتسمة بالإنسانية والعدالة والرحمة. 

وترى الوثيقة الجديدة أنَّ الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها، ومعهم الشركات العابرة للدول، يستهدفون الثقافة الروسية وقيم البلاد الروحية والأخلاقية. ويركز هذا الاستهداف على نشر ثقافات مختلفة عن الثقافة الروسية، بل تلك التي تتعارض مع معتقدات الروس، بما يهدف إلى التأثير في الوعيين الفردي والجماعي في البلاد.

ومن أجل مواجهة ذلك، "تقترح الوثيقة الجديدة وضع نظام حكومي لإنشاء حاضنات للأعمال الأدبية والفنون الجميلة والسينما والمسرح والتلفزيون والفيديو والإنتاج عبر الإنترنت، بهدف الحفاظ على الثقافة الروسية التقليدية والقيم الروحية والأخلاقية، وحماية الحقيقة التاريخية والحفاظ على الذاكرة التاريخية، وضمان "مراقبة الجودة" في هذا الإطار.

وفي المجال الثقافي، تضع الوثيقة الجديدة مهمّة حماية اللغة الروسية ودعمها باعتبارها لغة الدولة الفيدرالية في مكانة عالية في أولوياتها، إضافة إلى تعزيز الرقابة على مراعاة قواعد اللغة الأدبية الروسية الحديثة، وقمع العروض العامة وتوزيع المنتجات التي تحتوي على كلمات وتعابير لا تتوافق مع المعايير العامة من خلال وسائل الإعلام، وهي معايير لغوية محددة.

وتركز الاستراتيجية الجديدة على مكافحة الألفاظ النابية، وحماية المجتمع الروسي من توسع الأيديولوجيات والقيم الخارجية والتأثير الإعلامي والنفسي الخارجي المدمر، وتوفير التربية الروحية والأخلاقية والوطنية القائمة على الأمثلة التاريخية والحديثة، وتطوير الأسس الجماعية للمجتمع الروسي، ودعم المبادرات ذات الأهمية الاجتماعية، بما في ذلك المشاريع الخيرية والحركات التطوعية، وتعزيز دور روسيا في المجالات الإنسانية والثقافية والعلمية والتعليمية العالمية.

وبذلك، تكون روسيا قد ربطت من خلال استراتيجيتها الجديدة مساري الماضي والمستقبل في رؤيتها لأمنها القومي، بحيث يصبحان مساراً واحداً يعبّران عن روسيا الجديدة التي تعيش مرحلة العودة إلى الساحة الدولية، انطلاقاً من قوة داخلية تُبنى منذ 20 عاماً، وبالاستناد إلى تمركز أوراسي متين، وتطلّع شرقي متفائل، وطموح نحو دورٍ عالمي تسير البلاد نحوه بثقةٍ تامة رغم صعوباتها العديدة؛ ثقة أصبحت السمة الأبرز في روسيا البوتينية.