"دليل إسرائيل العام 2020": تغيّرات حزبية وديمغرافية وسيطرة الذهنية الأمنية
لا يزال المفهوم الأمني الإسرائيلي يؤسّس على جعل الدول العربية تقبل بوجود الدولة اليهودية. كانت "إسرائيل" تسعى لفترات طويلة من الهدوء، ولتجنّب المواجهات العسكرية قدر الإمكان. وإذا دعت الحاجة للحرب عليها أن تحقّق نصراً سريعاً.
يقول محرّرو كتاب "دليل إسرائيل 2000" إن مؤسسة الدراسات الفلسطينية دأبت منذ سنة 1996، على إصدار مجلّد "دليل إسرائيل العام" وتحديثه تباعاً، بُغية تقديم المعلومات الأساسية، المنهجية والموثّقة، الوصفية والتحليلية، في كلّ ما يتعلق بالحركة الصهيونية و"إسرائيل": البنى والشؤون الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والقانونية والأمنية والديموغرافية، وبأوضاع الفلسطينيين في "إسرائيل"، والتمدّد الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة في سنة 1967، وذلك بهدف ملء فراغ تعانيه المكتبة العربية في المعرفة العلمية الدقيقة والشاملة عن الحركة الصهيونية وعن "إسرائيل" منذ قيامها عام 1948.
وتالياً أبرز الأفكار والمعطيات التي وردت في أهم فصول الكتاب:
"إسرائيل": خلفية أيديولوجية وتاريخية
في الفصل الأول (إسرائيل: خلفية أيديولوجية وتاريخية)، يقول كاتب الدراسة رائف زريق إن الصهيونية جاءت لتجيب عن المسألة اليهودية – مسألة معاناة اليهود وملاحقتهم وصعود اللاسامية – بالأدوات المفاهيمية ذاتها التي كانت سائدة في أوروبا، وخصوصاً في شرقها. وهي تبنّت عالم المفاهيم القومي (والليبرالي) نفسه (وأحياناً تبنّت المقولات اللاسامية ذاتها في خطابها)، القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض.
إنّ الدولة القومية دولة تقوم على أرض محدّدة وحدودها واضحة. وعندما أرادت الصهيونية أن تُعرّف عن نفسها بصفتها صاحبة مشروع قومي، كان عليها أن تعيد تعريف اليهود واليهودية بالمفاهيم الأوروبية القومية العلمانية السائدة؛ أي أن تُموضع نفسها جغرافياً.
ويرى البعض أن الصهيونية ما هي في الأساس إلاّ محاولة جديدة لتفسير الأسطورة الدينية اليهودية، وهي ليست عملية استبدال جذرية للأسطورة. وجلّ ما فعلته الصهيونية أنها أسبغت على الأسطورة الدينية مفاهيم قومية أوروبية. وعلى الرغم من حدّة القطع والصراع بين اليهودية كدين وبين المشروع القومي الصهيوني، فإنه لم يتم الفصل بين الأمّة والدين، أو بين الدين والدولة.
إن الصهيونية ليست مجرّد حركة قومية وظّفت الدين كطريقة للحشد وتأجيج المشاعر، بل هناك ارتباط أكثر عضوية بين الدين والقومية؛ والحديث يدور عن قومية موجّهة إلى دين، ودين موجّه إلى جماعة قومية، ليكون هناك تطابق شبه كامل بين الجماعة الدينية والجماعة القومية. والجمهور المستهدف لرجل الدين هو الجمهور المستهدف نفسه للقائد القومي تماماً.
ويشير كثير من المؤرّخين وعلماء السياسة إلى أن المقولة الأساسية في الصهيونية تقوم على فكرة نفي المنفى، أي أن المنفى يحضر بصفته صورة دينية وغير طبيعية وموقتة في حياة اليهودي؛ فحياة اليهودي في المنفى هي حياة غير طبيعية وناقصة، ولا يكتمل الوجود والمعنى الروحي تماماً إلاّ عندما يلتقي يهودي المنفى أرضه الموعودة، "أرض إسرائيل"، ويقيم بيته القومي، بحسب زعمهم.
نظام الحكم في "إسرائيل"
في الفصل الثاني (نظام الحكم في إسرائيل)، يقول الباحث مهنّد مصطفى إن النظام السياسي الإسرائيلي يتكوّن من ثلاث سلطات أساسية: السلطة التشريعية (الكنيست)؛ السلطة التنفيذية (الحكومة)؛ السلطة القضائية (المحاكم). ويتفرّع من هذه السلطات أجهزة بيروقراطية وتنظيمية واسعة جداً.
وعلى الرغم من أن القانون يؤكد الفصل بين هذه السلطات، فإنها عملياً سلطات متقاطعة بعضها مع بعض، على المستوى الرسمي – القانوني، وعلى المستوى العملي.
بالنسبة للكنيست، يمكن الإشارة إلى أربع وظائف رئيسية له، إذ تُعدّ هذه الوظائف مصدر قوّة عمل البرلمان الإسرائيلي ومركزيته. وهذه الوظائف هي: تأليف الحكومة؛ تمثيل المواطنين؛ مراقبة السلطة التنفيذية؛ التشريع؛ والاستجوابات.
تتكوّن السلطة التنفيذية من ثلاثة مركّبات: رئيس الحكومة وحكومته؛ كلّ الوزراء ووزاراتهم؛ الجهاز البيروقراطي والإداري والمهني.
يرأس رؤساء الحكومة السلطة التنفيذية في "إسرائيل". ورئيس الحكومة هو أهم لاعب سياسي في النظام الإسرائيلي.
وعلى الرغم من أن رؤساء الحكومات يوزّعون قوّتهم على حلفائهم في الائتلاف الحكومي، وخصوصاً على الأحزاب المركزية في الائتلاف، فإنهم يبقون اللاعبين المركزيين في النظام السياسي الإسرائيلي .
يحدّد رؤساء الحكومة جدول الأعمال الجماهيري والسياسي في الدولة الصهيونية. ولم يُقلّل تغيير طريقة الانتخابات من قوّة رئيس الحكومة ونفوذه؛ فقوّته بقيت مركزية في ظل الانتخابات النسبية، وفي ظل الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة.
يُعدّ نظام الحكم في "إسرائيل" نظاماً برلمانياً. ومع أن رئيس الحكومة هو رئيس السلطة التنفيذية، إلاّ أن النظام الإسرائيلي ابتكر مؤسسة رئاسة الدولة التي تمنح صاحب هذا المنصب صلاحيات رمزية أساساً.
الأحزاب السياسية في "إسرائيل"
في الفصل الرابع (الأحزاب السياسية في إسرائيل)، يقول الباحث أنطوان شلحت إن الأحزاب السياسية تتعدّد في الكيان الإسرائيلي باعتبارها دولة "ديمقراطية"؛ وهي تتأرجح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، الذي يكاد يبلغ منتهاه مع تنامي قوّة أحزاب اليمين المتطرف بمختلف تلاوينه، وسيطرته على مقاليد السلطة والمعارضة معاً.
ويتحدّث المؤلّف بإيجاز عن هذه الأحزاب السياسية والدينية، التقليدية والصاعدة، والتي توصّف نفسها بأنها يمينية معتدلة أو متشددة، أو وسطية، وهي كلّها متطرفة، مع عرض لأبرز مواقفها من القضية الفلسطينية وعملية التسوية في المنطقة.
منذ إعلان ائتلاف الحكومة الرابعة لبنيامين نتنياهو نهاية ولايتها والذهاب إلى انتخابات مبكرة، شهدت خريطة الأحزاب الإسرائيلية تغييرات سريعة وغير متوقعة. فخلال أقل من أسبوعين منذ إعلان حلّ الكنيست والذهاب إلى انتخابات في 9 نيسان/أبريل 2019، ظهرت على الخريطة السياسية الإسرائيلية عدة أحزاب جديدة.
وأكثر ما يميّز هذه الأحزاب الجديدة أنها تدور حول شخصية وليس حول أيديولوجيا.
وفيما يلي أبرز هذه الأحزاب:
-حزب حوسن ليسرائيل (مناعة لإسرائيل): حزب أقيم حديثاً ويترأسه الجنرال احتياط بني غانتس، رئيس هيئة الأركان العامة السابق.
وأشار مقرّبون من غانتس إلى التشابه بين شعار حزب "مناعة لإسرائيل"، وهو «إسرائيل قبل الجميع»، وشعار الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية وهو «أميركا أوّلاً». كما أشاروا إلى أن غانتس اختار اللون الزيتي لحملته، وهو لون زيّ الجيش الإسرائيلي الذي يُعدّ من المؤسسات الأكثر شعبية لدى الإسرائيليين.
-حزب تلم (اختصار الكلمات التالية: تنوعا ليئوميت مملختيت: حركة وطنية رسمية): حزب أقيم حديثاً ويدور حول شخصية أمنية، إذ يترأسه موشيه يعلون، رئيس هيئة الأركان ووزير الدفاع السابق. وكان يعلون قد انشقّ عن حزب الليكود، وترك حكومة نتنياهو بعد أن علم بأن الأخير ينوي إعطاء أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب إسرائيل بيتنا، حقيبة الدفاع.
-حزب اليمين الجديد: حزب أقيم حديثاً برئاسة الوزيرين أييلت شاكيد ونفتالي بينيت، نتيجة انشقاق هذين السياسيَين البارزين عن حزب البيت اليهودي. وكان الدافع الرئيسي وراء إقامة هذا الحزب، من ناحية بينيت الذي كان يترأس البيت اليهودي، هو الانفصال عن الجهات المتطرفة في اليمين المتدين الصهيوني، واستقطاب مزيد من العلمانيين اليمينيين إلى حزبه. وهناك سبب آخر هو إقامة بيت يميني مستقل يمكن أن ينازع نتنياهو على أصوات اليمين وعدم البقاء كحزب تابع له ومتعلق به. لكنه فشل في اجتياز نسبة الحسم في الجولة الأولى من الانتخابات (نيسان/أبريل 2019)، فعاد إلى التحالف مع سائر أحزاب اليمين القومي ضمن تحالف "يمينا".
-حزب غيشر (جسر): حزب أقيم حديثاً برئاسة عضو الكنيست أورلي ليفي– أبكسيس التي انشقّت عن حزب "إسرائيل بيتنا"؛ وهي ابنة السياسي الإسرائيلي المعروف من أصول مغربية دافيد ليفي، الذي شغل منصب وزير وعضو في الكنيست نحو 37 سنة.
وأكدت ليفي في المقابلات معها أن همّها الأكبر هو العمل الاجتماعي، وأن حزبها الجديد يضم شخصيات تطمح إلى إحداث تغييرات اجتماعية في "إسرائيل" لكسر احتكار رأس المال وجسْر الفجوات بين المركز والأطراف ودعم الطبقات الضعيفة لتنعم بحياة مشرّفة في "إسرائيل".
-حزب كاديما: أسّس أريئيل شارون هذا الحزب سنة 2005، بعد انشقاقه مع عدد كبير من أعضاء حزب الليكود عنه. وجاء تشكيل "كديما" الذي ضم أوساطاً من حزب العمل أيضاً على رأسهم شمعون بيريس ليكون حزب سلطة، يكون فيه شارون قائداً بلا منازع وبلا منافس سياسي أو أيديولوجي كما كان في الليكود، تحديداً بعد تنفيذ خطة الانفصال عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية (2005). وتم تأطير كديما بأنه حزب وسط (أو مركز) فهو ليس يمينياً وليس يسارياً، على الرغم من أنه ضم شخصيات من حزبي العمل والليكود متضادة سياسياً وأيديولوجياً واقتصادياً. وتوقعت استطلاعات الرأي العام حصول كديما على 40 مقعداً برئاسة شارون، وانتهاء عهد حزبي العمل والليكود كحزبي سلطة، غير أن مرض شارون، الذي كان الشخصية الأكثر شعبية في "إسرائيل" في تلك السنوات بسبب نجاحه في كبح الانتفاضة الفلسطينية الثانية المسلّحة (2000–2004)، أنذر بأن الحزب من دونه لن يكون كما هو في حضوره، وهو ما أكدته نتائج الانتخابات اللاحقة، فلم يخض "كديما" الانتخابات بعد ذلك مع شارون، وانهار في النهاية، لأنه كان فعلاً حزب هذا الأخير.
-حزب "يوجد مستقبل": أسّس هذا الحزب الإعلامي يائير لبيد، وهو ابن الصحافي يوسف طومي لبيد (1931–2008). انضمّ أبوه من قبله إلى حزب شينوي (التغيير)، وهو حزب عرّف نفسه على أنه حزب المركز، وانطلق من سياسات ومن خطابٍ معادٍ للمتدينين اليهود الأرثوذكسيين. وقد حقّق حزب لبيد الأب نجاحات انتخابية كبيرة، وخاض انتخابات سنة 1999 وحصل على ستة مقاعد؛ ثم وصلت ذروة قوّته الانتخابية في انتخابات سنة 2003، بحصوله على 15 مقعداً، وانضمّ إلى حكومة أريئيل شارون الثانية. وتم إخراج حزبه من الحكومة سنة 2004، بسبب تصويت أعضاء الحزب ووزرائه ضد ميزانية الدولة. واعتزل لبيد الأب العمل السياسي سنة 2005، وهو ما أدّى إلى اختفاء "شينوي" من الخريطة السياسية في انتخابات سنة 2006. ولم تكن حال حزب شينوي مختلفة عن حال جميع الأحزاب التي أطلقت على نفسها أحزاب الوسط، إذ ظهرت واختفت من الحياة السياسية بعد نجاحات مرحلية حقّقتها في الانتخابات.
-حزب "كلّنا": أُسّس حزب "كلّنا" (كولانو) عشيّة انتخابات سنة 2015، من قِبل موشيه كحلون، وهو أحد قيادات الليكود البارزين سابقاً، ومن أصول شرقية، وكانت له نجاحات اجتماعية عندما شغل منصب وزير الاتصالات في حكومة نتنياهو سنة 2013. لكنه اعتزل الحياة السياسية بعدها لخلافات شخصية مع نتنياهو، وظهر كحلون مع حزبه الجديد كحزب يمثّل الأجندات الاجتماعية التي ادّعى أن الليكود أهملها. وكيمين معتدل، قال إن الليكود تراجع عن مواقفه الليبرالية في الشأن السياسي.
في انتخابات نيسان/أبريل 2019، تراجع تمثيل الحزب إلى أربعة مقاعد بعد أن كان مفاجأة انتخابات سنة 2015 بحصوله على أحد عشر مقعداً. وانضم في انتخابات أيلول/سبتمبر 2019 إلى حزب الليكود ليُنهي الحزب دوره، إذ أعلن كحلون اعتزاله العمل السياسي بعد تأليف حكومة جديدة، وجرى صهر ما تبقّى من حزبه داخل الليكود.
-حزب "أزرق أبيض": أُسّس هذا الحزب (كحول لافان) [أزرق أبيض هما لونا العلم الإسرائيلي، ولاحقاً كلّ ما يعبّر عمّا هو إسرائيلي]، في إثر تحالف ثلاثة أحزاب هي: حزب يوجد مستقبل برئاسة يائير لبيد الذي كان ممثّلاً في الكنيست بعشرة مقاعد، وحزب "مناعة إسرائيل" برئاسة بني غانتس، وحزب "تلم" برئاسة موشيه يعلون. وانضم إلى هذا التحالف رئيس هيئة الأركان السابق غابي أشكنازي.
وقد أعلنت قائمة "تحالف أزرق أبيض" في آذار/مارس 2019 برنامجها الانتخابي الذي يتشكّل من 24 موضوعاً تتناول مختلف مناحي الحياة، وبرنامج عملها بعد الانتخابات. وأكد البرنامج أنه لن يكون هناك انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب مرّة أُخرى من مناطق فلسطينية محتلة، كما جرى سنة 2005، حين انسحبت "إسرائيل" من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية في إطار ما يُعرف باسم «خطة الانفصال». وتعهّدت القائمة بأن تكون أي عملية سلمية مع الفلسطينيين مرهونة بالمصادقة عليها في استفتاء شعبي عام. وامتنع البرنامج عن ذكر أي تفصيلات بشأن تلك العملية السلمية، كما امتنع عن ذكر حلّ الدولتين، وكذلك عن ذكر تعبير دولة فلسطينية. ووفقاً للبرنامج، ستعمل قائمة "أزرق أبيض" على تعزيز الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، والحفاظ على القدس الموحّدة كعاصمة أبدية لـ"إسرائيل".
التركيب السكّاني للكيان
في الفصل الخامس (التركيب والمجتمع السكّاني)، يتناول الباحث نبيل الصالح موضوع التركيب السكاني في الكيان الإسرائيلي والمتغيرات الأساسية في مجال الديموغرافيا وتوزيع السكان بعد 70 سنة على النكبة. ومن المعروف أن الديموغرافيا أو ما يُدعى في "إسرائيل"بـ«المشكلة الديموغرافية» كانت، ولا تزال، تشكّل موضع اهتمام مركزي فيها منذ سنة 1948 نتيجة مميّزات أساسية لطبيعة قيامها. فمن ناحية، أُسّست "إسرائيل" على أنقاض شعب آخر اقتُلعَ من أرضه نتيجة ذلك؛ ومن ناحية أُخرى، تشكّل المجتمع الإسرائيلي كمجتمع مهاجرين يهود جاؤوا من بلاد وثقافات عديدة لا يربطهم بعضهم ببعض سوى نيّات قادة المشروع الصهيوني الذين أرادوا ترسيخ وجود "إسرائيل" بواسطة حقائق ديموغرافية على الأرض تتحقق بالطرد من جهة، وباستجلاب مهاجرين يهود من جهة أُخرى. وبعد ذلك شكّل احتلال سنة 1967 نقطة انعطاف أُخرى في هذا الاهتمام؛ فقد بدأ النقاش الديموغرافي يتركّز على حجم الأكثرية اليهودية وقوّتها ورسوخها في مقابل الفلسطينيين، لا في "إسرائيل" فحسب، بل في كل فلسطين التاريخية أيضاً، التي عادت لتكون وحدة واحدة تحت السيطرة الإسرائيلية، الأمر الذي ترتّب عليه واقع ديموغرافي جديد.
هذه المميّزات وغيرها كانت وراء مركزية مسألة الديموغرافيا في "إسرائيل" والانشغال الدائم بهذا الموضوع، سواء فيما له علاقة بتبعات الأمر على طابع المجتمع اليهودي وفئاته المتعددة بحسب الانتماء والتوجهات وأنماط التديّن وغيرها (يهود شرقيون، أشكيناز غربيون، يهود من دول أوروبا الشرقية، يهود من أصل إثيوبي، علمانيون، متدينون متزمّتون (حريديون)، متدينون صهيونيون، إلخ)، أو له علاقة بالميزان الديموغرافي لدى الفلسطينيين على امتداد فلسطين كلها، أو داخل "إسرائيل الدولة" في حدود الخط الأخضر. ويأتي هذا الانشغال في مسعيين: أوّلهما، تحقيق مبدأ «يهودية الدولة»، وهو مبدأ أساسي في "إسرائيل، يتحقق"، بحسب المنظور الإسرائيلي، بالحفاظ على أغلبية يهودية كبيرة وراسخة لاعتبارات سياسية تشكّل عاملاً مهماً في التطورات السياسية والتسويات الممكنة في المستقبل على حساب الفلسطينيين.
ويأتي هذا الانشغال كذلك في مسعى تفضيل النخب المتنفذة اقتصادياً واجتماعياً لجعل المجتمع الإسرائيلي مجتمعاً ذا طابع غربي أوروبي صناعي متطور، وهو ما يساهم في تفسير التعامل العدائي مع اليهود الحريديين ومع ذوي الأصل الإثيوبي.
وعلى صعيد المجتمع الإسرائيلي من الداخل، فإن التغيّرات المتوقعة في وجهة التغيّرات الديموغرافية الأساسية، في مجال تشكيلة السكّان، مثل نسب تكاثر الفلسطينيين في "إسرائيل" في مقابل اليهود من ناحية، ونسب المتدينين المتزمّتين التي تدلّ على اتجاه المجتمع الإسرائيلي نحو التديّن إزاء نسب العلمانيين من ناحية أُخرى، وظاهرة الارتفاع في متوسط سنين العمر للرجال والنساء، وهو ما يعني، بحسب التقديرات الرسمية للعقدين المقبلين، أن تغييرات جديّة ستطرأ على تركيبة القوى العاملة، وعلى نسب المسنّين المعتمدين على الدعم الحكومي وخدمات الرفاه للمجتمع الإسرائيلي، وغير ذلك من القضايا. هذه التغيّرات كلها ستترك أثراً عميقاً في طبيعة المجتمع الإسرائيلي، وفي وجهة تطوّر اقتصاده ومناعته الاجتماعية، وفي ثقافته السياسية التي تنعكس في أنماط التعامل مع الفئات الضعيفة اجتماعياً واقتصادياً (مثلاً التعامل العنصري مع اللاجئين الأفارقة الذين قصدوا "إسرائيل" خوفاً من الأوضاع في بلادهم، والعداء الذي يعاني جرّاءه اليهود المتدينون (الحريديون) من الأوساط التي تعتبرهم تهديداً لطابع المجتمع وهويته، والنظرة المتعالية تجاه اليهود الإثيوبيين الذين استُجلبوا إلى الكيان في نطاق مشاريعه الديموغرافية المصابة بهاجس «الأكثرية الراسخة»؛ هذا طبعاً فضلاً عن العداء للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948).
وفي علاقة وثيقة بتركيبة السكان في المجتمع الإسرائيلي، يتناول المؤلّف ظاهرة التوترات الأساسية في هذا المجتمع الذي ما زال يحمل مميّزات مجتمع مهاجرين لا يتمتع بدرجة كافية من التجانس بين مركّباته، الأمر الذي ينعكس على نسيجه ومستوى التضامن الداخلي والفجوات الاجتماعية والاقتصادية بين الفئات والشرائح التي تشكّله. والتوترات الأهم المقصودة هنا هي: التوتر الديني بين اليهود المتزمتين دينياً (الحريديم) وبين الفئات اليهودية العلمانية؛ التوتر الأيديولوجي السياسي، حيث لكلٍ فئة تصوّر بالنسبة إلى حلّ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وكذلك بالنسبة إلى ترسيم ملامح المجتمع الإسرائيلي المنشود؛ والتوتر الطائفي بين المهاجرين اليهود من أصول متنوعة، بحسب مميّزات المجتمعات التي هاجروا منها. وقد غلب على هذا التصدع اعتباره تصدعاً بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين (الأشكيناز)، لكنه شهد تغيّراً جدياً كما يتبيّن لاحقاً؛ والتوتر الطبقي الذي يظهر من خلال معطيات الفقر والفجوات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني جرّاءها الفئات الفقيرة؛ والتوتر القومي بين اليهود والفلسطينيين.
هذه هي التوترات الأساسية التي ترافق الصراع على ملامح المجتمع الإسرائيلي، على الرغم من أن "إسرائيل" قطعت شوطاً جدّياً في مسعى تحقيق الأهداف الأساسية التي تواجه كل مجتمع مهاجرين، مثل إتمام عملية «بناء شعب» من مهاجرين متباعدين في جميع مميزاتهم الثقافية والاقتصادية؛ وتثبيت الملامح الأساسية لوجه المجتمع. والأهم من هذا وذاك تحقيق تقدم في الانتقال من مجتمع مهاجرين إلى مجتمع عادي كأنه نشأ وترسخ في هذا المكان، وذلك لتعزيز التصور الذاتي للإسرائيليين، ولتغييب الأسئلة الأساسية المرتبطة بملابسات قيام "الدولة" ونكبة الفلسطينيين، وظروف الهجرة من بلاد المنبت، وما كانت تلاقيه كل موجة من المهاجرين الأجد من طرف الذين سبقوهم.
فلسطينيو الأراضي المحتلة عام 1948
في الفصل السادس (الفلسطينيون في "إسرائيل")، تقدّم الباحثة همّت زعبي ملامح عامة للمتبقّين الفلسطينيين لاحقاً للنكبة، وتعرض أبرز المميزات الاجتماعية – الاقتصادية، ومستوى المعيشة، ونسبة الفقر في المجتمع، مبيّنة سياسات التمييز العنصرية من خلال مقارنة أبرز هذه البيّنات بالمجتمع الإسرائيلي. كما تتناول السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، وقوننة دونيّة هؤلاء المتبقّين، وضرب وحدة نسيجهم الاجتماعي، وتطبيع تفرقتهم لطوائف، واستهداف قادتهم.
وتتوقف مؤلّفة الفصل عند أبرز طرق مواجهة المتبقّين الفلسطينيين لهذه السياسات، فتعرض طرق مواجهتهم الرسمية، والأحزاب والتيارات السياسية الأبرز. كذلك تتوقف عند المجهود الجماعي غير الحزبي البرلماني وتعرض أهم التيارات السياسية غير البرلمانية والتنظيمات واللجان القطرية. وتتناول أهم محطات الصدام والمواجهة مع الدولة اليهودية، عارضة أبرز المواجهات التي رسخت في الذاكرة الجمعية الفلسطينية.
وتتطرق الباحثة في نهاية الفصل إلى الجدلية بين التحديات الخارجية والداخلية التي يواجهها هذا المجتمع نتيجة السياسات الإسرائيلية منذ الألفية الثالثة، ومحاولته التشكّل بشكل جماعي لمواجهة هذه التحديات. كما تتوقف عند دور متزايد للمجتمع المدني والجيل الشاب والمشهد الثقافي في مواجهتها.
كانت أحداث النكبة سنة 1948، إحدى المحطات المركزية في المشروع الصهيوني، إذ لم تكن تلك السنة، حين طردت الحركة الصهيونية 750,000 فلسطيني، منهم 90% من سكان المدن، وأفرغت 420 قرية وهدمتها، نهاية عمليات الإلغاء والمحو الفلسطيني، بل جاء إعلان إقامة" دولة إسرائيل" على أنقاض الشعب الفلسطيني، إعلاناً لمرحلة تشييد وتمكين ومأسسة هذا المشروع الاستيطاني في فلسطين في مؤسسات دولة، ومحطة إضافية في عملية إلغاء الفلسطينيين/ات وفلسطين.
حملت أحداث النكبة تداعيات عميقة على المتبقين في فلسطين، فعُزلوا عن محيطهم العربي، وسُلبت مواردهم، وتحكّمت "دولة إسرائيل" في جميع مجالات حياتهم اليومية الخاصة والسياسية والاقتصادية – الاجتماعية العامة. إلى جانب هذا كلّه، هدمت النكبة الكيان السياسي للشعب الفلسطيني، وشتّتت نخبه الثقافية والاجتماعية والسياسية، ودمّرت مرافقه وعلاقاته وأسسه الاقتصادية. كذلك هدمت النكبة المستمرة معظم مدنه الفلسطينية، وهوّدت جميعها، وأسهمت بصورة كبيرة في تشويه مسار تمدّنه، ذلك الذي بدأ في نهايات الحكم العثماني.
وتختم الباحثة بالتأكيد على أن المتبقّين الفلسطينيين هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني ومن الأمّة العربية، تتعامل معهم الدولة اليهودية من هذا المنطلق، ويتفاعلون هم، بدورهم، مع التغييرات الجارية في العالم العربي والقضية الفلسطينية. وعليه، فإنهم، بصورة أو بأُخرى، أحد أوجه الصراع مع "إسرائيل" في المنطقة.
المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية
في الفصل العاشر (المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية)، يتحدث الباحث فادي نحاس عن العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وعن البيئة الاستراتيجية لـ"إسرائيل". وهذه أهم الأفكار التي طرحها المؤلّف ضمن هذين العنوانين:
أوّلاً: العقيدة الأمنية الإسرائيلية
يُعرّف الأمن القومي لأي دولة في العالم بأنه قدرتها على الحفاظ على مصالحها والدفاع عنها. لكن تعريف الأمن القومي الإسرائيلي يكاد يكون شاذاً عن هذا المفهوم.
يُعرّف دافيد بن غوريون الأمن القومي الإسرائيلي بأنه «الدفاع عن الوجود»، مرهوناً بالهاجس الأمني الذي يقوم على الفرضية القائلة بأن "إسرائيل" موجودة في حالة خطر كياني دائم.
يمتدّ مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي ليشمل محاولة التأثير في خط التفاعلات الإقليمية التي تضمن منع أي تحديد لقدرات "إسرائيل" السياسية والجيوبوليتيكية، الأمر الذي يفرض احتكاكاً دائماً مع محيطها الإقليمي.
لا يزال المفهوم الأمني يؤسّس على جعل الدول العربية تقبل بوجود الدولة اليهودية. وفي الأساس، كانت "إسرائيل" التي تصوّرها بن غوريون دولة تسعى لفترات طويلة من الهدوء، ولتجنّب المواجهات العسكرية قدر الإمكان. لكن عليها، إذا دعت الحاجة، أن تحقّق نصراً سريعاً بسبب صغر حجمها ومحدودية مواردها البشرية.
أهم مرتكزات العقيدة الأمنية الإسرائيلية :
-أوّلاً: تعزيز قوّة الردع.
-ثانياً: نقل المعركة في أقرب وقت ممكن إلى أرض العدو وإنهاؤها بسرعة.
-ثالثاً: تدمير قوات العدو العسكرية ومعدّاته.
-رابعاً: «هجوم استباقي» أو «حرب خاطفة وقائية» في حال التأكد من خطر وشيك.
-خامساً: سلاح نووي كخيار أخير.
ثانياً: البيئة الاستراتيجية الإسرائيلية
إن تراجع التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية، فيما يتعلق بالرؤيا الاستراتيجية في المنظور البعيد، مرتبط بكون "إسرائيل" دولة لا تملك رؤية سياسية مستقبلية. لذا، تبقى الذهنية العسكرية – الأمنية مسيطرة؛ وهي بطبيعتها تتعامل مع الاستراتيجيا العسكرية لمدى محدود.
التقديرات الاستخباراتية لا تفصل بين تهديد استراتيجي وتهديد تكتي، وبين دائم وموقّت، وبين مؤثّر وأقل تأثيراً، وبين تهديد يمكن احتواؤه، وآخر لا.
تتعامل التقديرات الاستراتيجية مع البيئة الاستراتيجية المحيطة بالكيان الإسرائيلي وفقاً لمعيار رئيسي هو «منسوب التهديد الفعلي» الذي يمثّله كلٌ منها على الأمن القومي الإسرائيلي، بمعنى التهديد على الحدود من جانب جيوش نظامية.
التغيير الذي طرأ مع اندلاع الأزمات في المحيط العربي، والمتمثل في انهيار الدول العربية وتفكّك الجيوش التقليدية، هو ما أدّى إلى تحسّن جذري بوضعية "إسرائيل" في ميزان القوى الاستراتيجي.
تراجع التهديد العسكري للجيوش النظامية العربية في ظل تقهقر الجيشين السوري والعراقي، وانكفاء الجيش المصري على ذاته واهتمامه بالشأن الداخلي. أعطى هذا التغيير "إسرائيل" فرصة زمنية ذهبية مكّنتها من إعادة بناء جيشها بشكل يقلّص الاستثمار المادي التقني في مجال تطوير القدرات التقليدية التي كانت تصلح لمواجهة الجيوش التقليدية، مع كلّ ما يعنيه الأمر من تقليص للنفقات الأمنية.
غير أن التهديدات الحالية التي تفوت الباحث والتي تشكّل تحدياً للكيان الإسرائيلي تتمثل في تطور قدرات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من صواريخ تصل إلى القدس وتل أبيب، وقدرات حزب الله العسكرية وصواريخه الدقيقة ومسيّراته، فضلاً عن تماسك محور المقاومة من إيران إلى العراق وسوريا واليمن ولبنان وغزة.
*باحث لبناني.