"تونس الانتقال المسدود" .. هل أخفقت الثورة؟!
إنّ تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس في طريق مسدود. وهي لا تتقدّم بالايقاع المرجو. ومن الوارد أن تتراجع.
للأسف، كل شيء يدفع إلى الاعتقاد أنّ الثورة التونسية لم تعد أبداً تجعلنا نحلم. انقشاع الاوهام والقلق والخيبة أوصاف تتردّد لدى التونسيين والمراقبين الأجانب. هذه الأوصاف تكشف عن حالنا مع العشرية التي عشناها ولكنّها لا تقول شيئاً عنها.
هل حقق الانتقال الديمقراطي أهدافه؟ هل انتهى إلى ديمقراطية راسخة؟ أو على العكس، تمخّض عن نظام غير مسبوق؟ ولكن ما هو؟ نحن نعتبر أنّنا لم نمرّ من الانتقال الديمقراطي إلى ديمقراطية راسخة، لأنّ الديمقراطية ليست القاعدة الوحيدة في المدينة، المُستبطنة من كل الفاعلين. ولسنا أيضاً في نظام تسلّطي جديد néo-autoritarisme، ينشأ عادة في سياق تجارب الانتقال الديمقراطي غير الناجحة.
لم نحيّد الدكتاتورية الدينية وقتياً إلا بتنازلات كان ثمنها إضعاف الدولة. في الواقع إنّ تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس في طريق مسدود. وهي لا تتقدّم بالايقاع المرجو. ومن الوارد أن تتراجع.
ترد هذه الأفكار في مقدمة الكتاب الجماعي "تونس الانتقال المسدود" الصادر باللغة الفرنسية عن منشورات ديوان بالتعاون مع مؤسسة فريديريش ايبرت الألمانية. وأُنجزت المداخلات ضمن العمل الدوري للمرصد التونسي للانتقال الديمقراطي الذي رافق بالدرس والبحث النظري والتطبيقي الجاد والرصين ما حدث في "برّتونس" منذ عام 2011، وهو واحد من أهمّ مراكز التفكير العربية والعالمية يشرف عليه الأستاذان حمادي الرديسي وأسماء نويرة.
الكتاب الجديد كان ضرورياً كي نتدبّر حالنا نحن التونسييون وكي نفهم ماذا حدث في العشرية الماضية (2011-2021). لذلك فإنّ إعادة التفكير في نظرية الانتقال الديمقراطي كمرجع للتحليل ضرورية كما نفهم من قراءة الكتاب. والمشاركون في الكتاب يرون ذلك.
في المقدمة نفسها، نقرأ كيف أنّ التونسييون أُتخموا بخطاب الثورة. ولكن زمن الثورة ليس نفسه زمن الانتقال الديمقراطي. وهنا تكمن الصعوبة في تقديم جرد للعشرية الماضية مرتبط بعامل الزمن. هل أنّ عشر سنوات كافية كي نقدّم كشف حساب تجربة تاريخية ما؟
الاجابة بحسب المقدمة تختلف بحسب ما نراه من طبيعة التغيير الحاصل في 14 جانفييه، كانون الثاني / يناير 2011.
من منظور نظرية الثورة، فإن عشر سنوات هي فترة قصيرة. ولكن من منظور نظرية الانتقال الديمقراطي، فإنّها كافية لتكوين فكرة عمّا حدث. الثورة والانتقال الديمقراطي، ينتميان كلاهما لنظرية التغيير الاجتماعي (كما هي الحال مع التحديث والنمو). في المنظور البعيد فإن الثورة لا توصف بأنها ثورة إلا عندما تكتمل صيرورة التحولات الضرورية اجتماعياً. وبالعكس، ومن المنظور القريب، فإنّ بضع سنوات كافية كي يتحقّق فيها الانتقال الديمقراطي. هذا التفريق والتوضيح بالنسبة لمحرري هذا الكتاب الجماعي ليسا شكليين، لأنّهما يؤطرا التحليل.
فالتونسيون يخلطون دائماً بين هاتين النظريتين (الثورة والانتقال)، وينسبون ما تحقق من نجاح إلى الانتقال في حين تُنسب الاخفاقات إلى ثورة تحتاج إلى زمن طويل كي نحكم عليها. وهناك من يذكّرنا من دون أن يرفّ له جفن بأنّ فرنسا احتاجت إلى مائة سنة كي تحقّق أهداف ثورتها.
هذه الشاكلة في التفكير تجعل النقاش مستحيلاً وترهن مستقبل الأجيال وتؤجّل تقديم كشف عن "14 جانفي" إلى القرن المقبل. لهذا السبب، فإنّه من الأفضل التموضع في الإطار النظري للانتقال الديمقراطي. فهذا الاطار يتضمّن الثورة كواحد من أشكال الانتقال.
تاريخياً، يكون الانتقال بثلاثة أشكال: قد يتمّ الانتقال من الأعلى أي من طرف السلطة القائمة، وقد يتمّ من الأسفل أو الحراك الشعبي الثوري، وقد يتمّ أخيراً عن طريق التفاوض بين السلطة والمعارضة.
ماذا تعني ديمقراطية راسخة ؟
تكون الديمقراطية راسخة ، بحسب جوان لنز وألفراد ستيبان، عندما تصبح "القاعدة الوحيدة في المدينة" ( the only game in town ). ولكي تكون كذلك ثمّة مجموعة من الشروط: مجتمع مدني حرّ وحيوي له القدرة على معارضة الدولة، مجتمع سياسي مستقل نسبياً ومستقر قابل بقواعد موضوعة باتفاق عام لاختيار المُسيّرين، دولة قانون، جهاز بيروقراطي مستقلّ عن القوى السياسية، وأخيراً مجتمع اقتصادي مُمؤّسس institutionnalisée يضمن الوساطة بين السوق والدولة.
وهنا يشير محرّرو الكتاب إلى أنّ تونس يتوافر فيها شرط أو شرطان من جملة هذه الشروط. وفي 2015 كان البلد يُوهم أنّه في الطريق إلى ترسيخ ديمقراطيته برغم أنه وقع في غواية "المحافظة الجديدة" (la tentation néo-conservatrice ).
ولكن الكثير من المؤشرات تدفع إلى الاعتقاد أن الديمقراطية في تونس ليست القاعدة، بل إنّها في تراجع (backsliding)، وهو أمر تلتقي فيه مع ديمقراطيات راسخة بما فيها الولايات المتحدة الأميركية. ولكن هذا التراجع ايقاعه أسرع في تونس: سوء استغلال السلطة، المساس بالحريات، سوء الاستغلال المفرط لموارد الدولة، المزايا الممنوحة للسياسيين، الخ..
وهناك من المنظرين من يعزو هذه السقطات إلى الصيرورة الديمقراطية نفسها. وهناك، على طرف النقيض من الرأي الأول، من يدافع على فكرة أنّ هذه الممارسات تميّز نظاماً بعينه يطلقون عليه تسمية "التسلطية التنافسية" autoritarisme compétitif أو "الانتخابية" . وهو يختلف عن النظام التسلطي الكلاسيكي باحترامه لقيمتين أساسيتين للديمقراطية (المشاركة والمعارضة) في نفس الوقت الذي يُحكم فيه سيطرته على مفاصل الدولة (العدالة، الجهاز الانتخابي، النفاذ إلى الموارد العمومية...).
كانت تونس ستقع في شرك هذه التسلّطية التنافسية أثناء حكم الترويكا لولا مقاومة المجتمع المدني. ولكنها لم تفلت منه إلا لتشرع في الرجوع إلى الوراء.
انتقال مسدود أو رجوع إلى الوراء؟ عن هذا السؤال يجيب هذا الكتاب الجماعي في خمسة محاور:
1 -السياسي في أزمة (حمادي الرديسي، الصحبي الخلفاوي، محمد كرو، عبد الكريم الحيزاوي)
2- الإسلام، الإسلاموية، والدولة (سارة بن نفيسة وجلال سعادة، أسماء نويرة، مصطفى الحداد).
3-تفكيك الهندسة المؤسّساتية (محمد شفيق صرصار، سلسبيل القليبي، هادي بن مراد، حفيظة شقير، فاطمة اللافي).
4- الانحدار غير المسبوق للاقتصاد الوطني (حكيم بن حمودة، ايسان مكني، مصطفى الحداد).
5-المجتمع التونسي بين التحول والمقاومة (ريم رفرافي بن عمار وسيرين بن سعيد صفر، حفيظة شقير، رضا بن عمر، حافظ شقير.
6-جرد حساب (زياد كريشان: عشر لحظات من الثورة التونسي).
صدر الكتاب ووقع تقديمه في حزيران / يونيو 2021، قبل المنعطف التي تتهيّأ تونس للدخول فيه بعد قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 تموز / يوليو 2021 بتجميد أعمال البرلمان وإقالة رئيس الحكومة، بعدما انسدّت كلّ الآفاق أمام التونسيين.
يُلقي الكتاب ضوءاً غزيراً على تونس في متاهة ديمقرطيتها المسدودة. وهو كتاب "في وصف حالتنا" (العبارة لمحمود درويش) أثناء عشرية نسبت فيها كلّ "القصاع " إلى الانتقال الدميقراطي. أمّا "الزفير" و"اللهاث" فلا يزالان يُنسبان إلى الثورة، كما نخلص من قراءة الكتاب واستئناسا بالمثل القديم: "القصعهْ لبنْ عروْس والزفيرْ للقلاعي".
القلاعي وليٌّ غير مشهور تقع زاويته قريبة جداً من زاوية بن عروس في بداية مُرتقى صعب وفي النقطة التي كانت ترتاح عندها النسوة الحاملات للقصاع المنذورة للولي الأشهر. أمّا هو فلم يكن نصيبه منها إلاّ الزفيرُ واللُهاثُ.