"العلاقات الأميركية السعودية بعد الحادي عشر من أيلول"
لا يوجد لدى النظام السعودي إدراك عميق لماهيّة رؤية أميركا للمنطقة - إذا كانت موجودة أصلاً- ليبني عليها رؤيته ويرسّم علاقاته ومصالحه.
قليلة هي الكتب والدراسات العربية الأكاديمية التي تتناول العلاقات الأميركية-السعودية وبخاصة في العقدين الأخيرين في أعقاب هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001. وقد صدر حديثاً كتاب "العلاقات الأميركية السعودية بعد الحادي عشر من أيلول" للدكتور بلال اللقيس، عن دار المعارف الحكمية في بيروت، وهو أساساً أطروحة دكتوراه للكاتب في العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية.
يقول الدكتور طلال عتريسي في تقديمه للكتاب/الأطروحة، إن الولايات المتحدة، التي تحوّلت بعد 11 أيلول / سبتمبر 2001 إلى ما سمّته "محاربة الإرهاب"، لم تتّخذ أي إجراء عقابي ضد السعودية، حتى بعد أن تبيّن أن معظم أفراد المجموعة التي نفّذت الهجمات الانتحارية كانوا مواطنين سعوديين؛ لا بل حافظت العلاقات بين الطرفين على استمرارها وثباتها.
ويضيف: على الرغم من تأييد الولايات المتحدة لما سمّي "الربيع العربي "، بعد عام 2011، وإعلان دعمها التغيير والديمقراطية، فإنها لم تفعل سوى الصمت عندما توقف هذا الربيع على أبواب المملكة ودول الخليج العربية الأخرى.
يضيف عتريسي أن الكاتب يغوص في طبيعة هذه العلاقة المحيّرة في توصيفها وتعريفها بين الولايات المتحدة والسعودية. وهو وضع نفسه في موقع التحدي منذ الصفحات الأولى عندما قال بأن المنهجية العلمية تفرض دراسة جملة من العوامل المؤثّرة على هذه العلاقة، ومنها تحوّلات البيئتين الدولية والإقليمية، وموقعهما من النظام العالمي الذي يتبدّل ويتحوّل بسرعة.
أما المؤلّف اللقيس فيقول في مقدّمة كتابه إنّ استقراء تاريخ أميركا والسعودية يبيّن أنهما ليستا دولتين بالمعنى الوستفالي الصرف، حيث يكفي التعريف الذي تتبنّاه المدارس السياسية الأبرز في أميركا لمفهوم الأمن القومي كدالّة على أنها ليست "دولة-أمّة" بمعناها الصرف، حين يتم ربط المعنى بالقِيم وليس بالمصالح الجيوبوليتيكية فقط.
أما السعودية بوصفها كياناً سياسياً لم يُصَغ دستوره إلى الآن، فهي الأخرى لا تزال في معرض البحث عن هويّة تحدّد من خلالها دورها بين ثنائيات متكثّرة باضطراد، ما ينعكس على رؤيتها لذاتها: هل هي دولة "المسلمين"؟ أم دولة العروبة؟ أم "الدولة القومية" الوطنية؟ وهي لا تزال تبحث عن نقطة التكامل أو اللاتناقض بين القِيم الدينية العابرة ودولة السيف والفتوحات.
في القسم الأول من الكتاب، ويتضمّن فصولاً عدة، والذي تبنّى فيه النظرية البنائية، باعتبار أن النظرية تتيح رؤية العلاقة بشكل أكثر عمقاً، خلص المؤلّف إلى أن مسار العلاقة الأميركية – السعودية نما في بيئة مثالية، دولياً وإقليمياً وداخلياً، لجهة حلول أميركا محل بريطانيا في المنطقة وبعدها في بيئة الحرب الباردة. لذا، ارتبطت هذه العلاقة بقضايا استراتيجية لا تقلّ أهمية عن الموارد الطبيعية والنفط، وحاجات المملكة الدفاعية وهاجسها الأول والدائم إزاء المنافسين الإقليميين.
ويضيف الكاتب: عندما نقارب العلاقة بين أميركا والسعودية منذ نشأتها إلى منتصف التسعينيات من القرن الماضي يُفترض أن نبقى في حسابنا أننا نتحدث عن دولتين غير متكافئتين في أيٍ من أبعاد القوّة والنفوذ والمكانة؛ فالمملكة – مع ما تتوافر عليه من كميّات نفط هائلة- تبقى دولة منقوصة السيادة منذ النشأة، كما أغلب دول المنطقة؛ في مقابل الولايات المتحدة الأميركية كأقوى قوّة هيمنة وصاحبة التأثير الأول في "الشرق الأوسط" منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي وما أعقبه من عقد الأحادية القطبية الذي مارسته.
ويتابع المؤلّف: إن أميركا وجدت في المملكة حالة أو كياناً سياسياً قلّ نظيره مقارنة ببقيّة دول المنطقة، لجهة طبيعة تصوراتها وهواجسها؛ هواجس السعودية من زعامة عربية أو إقليمية بديلة، تستغلّها أميركا جيّداً.
ومن ناحية أخرى، ساعد التفاعل المباشر مع الأميركيين من بوّابة استخراج النفط وصناعاته في تدفّق القِيم الغربية؛ وأيضاً أسهم تلقّي عشرات آلاف السعوديين تحصيلهم العلمي في الولايات المتحدة والغرب في بروز اتجاهات مؤثّرة داخل المجتمع السعودي تحاكي النموذج الأميركي في نمط حياتها وتوقعاتها وأفكارها.
وهكذا يمكن قراءة المسار التنازلي التاريخي للسياسات السعودية فيما يخص ثروتها النفطية الهائلة وقضية الصراع مع "إسرائيل"، وصولاً إلى عجز السعوديين عن حجز موقع قيادي لهم في البيئة الإقليمية أو العربية، ونيْل مرتبة الثقة أميركياً بقدرتهم على تأمين المصالح الأميركية من دون الوجود الأميركي المباشر.
في القسم الثاني من الكتاب، وفيه عدة فصول، اعتمد المؤلّف الرؤساء الأميركيين (جورج بوش الإبن وباراك أوباما ودونالد ترامب) وإداراتهم الثلاث كقاعدة ارتكاز منهجي للدراسة. وهو استنتج في ختام هذا القسم أن كلاً من رؤساء أميركا الثلاثة قد قارب رؤيته للأمن القومي بمنهج مختلف؛ لا بل طال الاختلاف أصل تفسيرهم للواقع ومكوّناته وقدرة التعامل معه؛ فكيف يمكن لحلفاء أميركا تحديد موقعهم في مدارها إذاً؟!
وكذلك، فإنّ الحلفاء الخليجيين لم تكن لديهم رؤية موحّدة لأمن منطقة الخليج على الرغم من وجود إطار اسمه "مجلس التعاون الخليجي". وهذا ما يُخلّف إرباكاً في بناء أميركا لسياسة واضحة حيال مواجهة إيران.
إن إدراكات دول الخليج الحليفة لأميركا حول فكرة التوازن التي تُطرح من الإدارات الأميركية باعتبارها آليّة مثلى للحفاظ على أمن المنطقة، غير متطابقة مع إدراكات الأميركيين، لأن التعادل المادي فيما لو وفّرته واشنطن، يجب أن يتلازم مع تعادل إدراكي لتحقيق مؤدّى الأمن؛ وهذا الشرط – الجانب الإدراكي- غير متوافر بالنسبة للدول العربية في الخليج.
وإذا كانت إدراكات الإدارات الأميركية المختلفة تعبّر عن أن المملكة حاجة أميركية، لكنها تختلف في رؤيتها وتقديرها لهذه الحاجة ولأبعادها وحدود التحالف وماهيّته؛ ويرتبط هذا بطبيعة التحوّلات القِيمية الجارية في الداخل الأميركي لجهة تعريف مكانة أميركا وخطابها العالمي ودورها وحدود قدرتها وأولوياتها العالمية، وموقع الشرق الأوسط فيها.
لكن الأمر المتّفق عليه بين الجميع في الولايات المتحدة أن السعودية ليست حجر زاوية سياسية أميركية في المنطقة كما الحال مع "إسرائيل".
في المقابل، المجتمع السعودي منقسم اليوم بين عدة اتجاهات في العلاقة مع أميركا، ويقع تحت انعكاس واستقطاب لعدة خطابات متناقضة؛ خطاب أميركا وقِيمها الذي ينحاز إليه جزء من المجتمع السعودي، وخطاب مقاومة أميركا، وهو الذي يجد أرضيّة في معظم العالم الإسلامي، ويُعرّض السعودية كشرعية سياسية للنظام لتهديد مستمر.
كذلك، لا يوجد لدى النظام السعودي إدراك عميق لماهيّة رؤية أميركا للمنطقة - إذا كانت موجودة أصلاً- ليبني عليها رؤيته ويرسّم علاقاته ومصالحه؛ فهل تنظر أميركا إلى المنطقة من منطلق العداء لإيران والتصدّي لها حماية لـ"إسرائيل" فقط، أم هناك أبعاد أخرى أوسع؟
وفي المحصّلة، يُفترض أنّ القيادة السعودية "العاقلة" ستأخذ بعين الاعتبار التحوّلات والمحدّدات التي باتت تشكّل قيوداً على صانع القرار في المملكة: تقهقر نفوذ أميركا في المنطقة، وبيئة دولية تسير إلى تعدّد الأقطاب، وضرورة الحفاظ على حد أدنى من التماسك في العائلة الحاكمة، والاقتناع بمحدودية القوّة العسكرية وقدرتها على الفعل في الإقليم، وتجنّب العراضة والانفعال والرهانات الخارجية، والحرص على التشخيص الصحيح للعدو، وتعريف أمن الإقليم بما لا يضع المملكة على فالق صراع إقليمي أو دولي بين أميركا وخصومها؛ بالإضافة إلى أهمية البحث عن أشكال للمشاركة الشعبية بهدف تدعيم شرعية النظام، وعدم التغاضي أو التغافل عن طبيعة الانقسام الحاد القائم الذي يطال هويّة المملكة اليوم.
وأخيراً، يسأل المؤلّف: هل ستقوم الولايات المتحدة بإعادة نظر في طريقة تفكيرها بالعالم من حولها وإدراكه بعقلية وخطاب مختلفين؟ ويجيب أن الإدراك الأميركي الصحيح لمنطقة الشرق الأوسط ودور السعودية فيه سيحدّد طبيعة العلاقة ومستواها بين الطرفين - غير المتكافئين- في ظل غياب إرادة سعودية فعلية لإعادة النظر وتقييم تلك العلاقة من جديد.
*حسن صعب باحث لبناني.