على شفا الهاوية النووية

يروي الكتاب قصة الجهود التي بذلها وزير الدفاع الأميركي السابق وليام بيري على مدى عقود للحد من إمكانية وقوع كارثة نووية.

كتاب "رحلتي على شفا الهاوية النووية" لوزير الدفاع الأميركي السابق وليام بيري

يبدأ كتاب "رحلتي على شفا الهاوية النووية" لوزير الدفاع الأميركي السابق وليام بيري بتقديم كتبه جورج شولتز إحدى الشخصيات التي عمل معها بيري، معرّفاً به ومشيداً بالدور الذي لعبه من خلال سعيه للحد من الأسلحة النووية وتوجيه العالم إلى جادة الصواب. فقد بدأ انخراط بيري في قضية الأمن النووي في منتصف الأربعينات، إذ كان جندياً في الجيش الأميركي في اليابان، ليتولى لاحقاً منصب وزير الدفاع في عهد الرئيس بيل كلينتون، ومن خلال انخراطه اللاحق في العمل الدبلوماسي غير الرسمي، عمل على إقامة تحالفات مع الخصوم السابقين في فترة ما بعد الحرب الباردة.

يتألف الكتاب من خمس وعشرين فصلاً، تحكي سيرة المؤلف الذي عايش العصر النووي ونضج فيه.

ومستهلاً كتابه يبدأ بيري بالحديث عن الحدث الأبرز في تاريخ الحقبة النووية، ألا وهو أزمة الصواريخ الكوبية، متحدثاً عن ثمانية أيام عاش خلالها الكابوس النووي، حيث عمل مع فريق على تحليل البيانات التي تجمع كل يوم لإعداد تقرير لتقديمه للرئيس جون كيندي، معتبراً أنه على الرغم من انتهاء تلك الأزمة من دون حرب، فإن الفضل في عدم انجرار العالم إلى محرقة نووية يعود إلى حُسن الحظ وحُسن الإدارة على حد سواء.

ويشير بيري إلى أن أزمة الصواريخ الكوبية بالنسبة له كانت بمثابة الدعوة التي ستؤدي به في نهاية المطاف إلى العمل على البرامج التعاونية الدولية للحد من الأسلحة النووية، من خلال تشريع القوانين والعمل الدبلوماسي العالمي وتقديم الدعم.

إلى العام 1941 يعيدنا بيري، قبل أربع سنوات من إلقاء أول قنبلة نووية، قائلاً إنه لم يكن يعلم أن رحلة حياته ستتحدد منذ تلك اللحظة المحورية التي ابتكر فيها الإنسان سلاحاً سيحدث تغييراً جذرياً في الشرط الإنساني. ثم يحكي عن هول الدمار الذي أحدثته قنبلتان ألقيتا على هيروشيما وناغازاكي، مشيراً إلى تفجير الاتحاد السوفييتي أول قنبلة ذرية عام 1949 ومن ثم عام 1953 نجح في تفجير قنبلة هيدروجينية، فقد تمكن الإنسان وفقاً للكاتب خلال عشر سنوات فقط، من زيادة قوته التدميرية نحو مليون مرة.

كان التهديد السوفييتي الشغل الشاغل للأميركيين، فلم تكن الولايات المتحدة الأميركية تعرف سوى القليل عن برنامج الصواريخ والفضاء السوفييتي، لذلك كان لابدّ من معرفة المزيد بحسب الكاتب، ليس عن حجم قوة الأسلحة النووية السوفييتية وانتشارها فقط، بل عن مداها ودقتها وغيرها من أمور، متحدثاً عن رحلته التي بدأت في العام 1954 بمنصب كبير العلماء في مختبرات سيلفانا للدفاع الإلكتروني، وصولاً إلى تأسيسه شركة خاصة به أسماها شركة إي إس إل، (سيفرد فصلاً من الكتاب للحديث عنها وعن أعمالها وتمويلها وما قدمته في مجال الحصول على المعلومات التفصيلية للتهديد النووي السوفييتي)، يفصل في طريقة الحصول على المعلومات بواسطة طائرات الاستطلاع U-2 التي كانت تلتقط صوراً عالية الدقة لمنشآت تابعة لبرنامج الصواريخ السوفييتية. ولاحقاً تم استخدام نظام التصوير بالأقمار الاصطناعية، إلى أن تم التوصل كما يشير بيري إلى نتيجة مفادها أن البرنامج السوفييتي للصواريخ البالستية عابرة القارات غير مثير للقلق، وأن عدد صواريخه المنتشرة بالفعل كان قليلاً.

يتحدث الكاتب في الفصل الخامس من الكتاب عن دعوته للخدمة، ففي كانون الثاني - يناير من العام 1977 طلب منه هارولد براون، وزبر الدفاع في الإدارة الجديدة للرئيس جيمي كارتر، أن يتولى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحوث والهندسة. وبالرغم من تردده في البداية إلا أنه قبل المنصب وانتقل إلى واشنطن، مشيراً إلى وجود خلل في التوازن في مجال القوات العسكرية كان يزداد بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، ويشير إلى أهمية تلك الخطوة التي أقدم عليها، فقد غيرت كل شيء جاء بعدها، لاسيما تجربته في مجال الدبلوماسية الدولية.

ينتقل الكاتب للحديث عن أولوياته بصفته وكيلاً لوزارة الدفاع، والتي كان على رأسها وضع "استراتيجية التعويض" ثم تنفيذها، للتعويض عن تفوق السوفييت في حجم القوات التقليدية، وبالتالي إعادة تثبيت التوازن العسكري العام ودعم الردع، مستعرضاً الأسلحة التي تمكنت الولايات المتحدة الأميركية من تطويرها وإنجازها، وعلى رأسها طائرة "أف 117" F-117 والمعروفة بـ"القاذفة الشبح"، والتي كانت حرب "عاصفة الصحراء" مسرحاً لاختبارها وفقاً للكاتب.

فضلاً عن ذلك يشير بيري إلى تطوير تشكيلة واسعة من الأسلحة مثل صواريخ كروز قصيرة المدى، وطائرات الاستطلاع والسفن الحربية، وصاروخ توماهوك الذي يصفه بأنه كان أحد أكثر "أسلحتنا" موثوقية، فقد أطلق مئات المرات وبفاعلية خلال الحربين ضد العراق.

في حديثه عن بناء القوة النووية الأميركية، يقول المؤلف إنه بحلول منتصف سبعينات القرن العشرين أصبح السوفييت في حالة توازن مع الولايات المتحدة الأميركية، على صعيد الأسلحة النووية ووسائل إيصالها، ويشير إلى أنه لكي تكون قوتنا الردعية ذات مصداقية، كان على الأميريكيين، التأكد من أن القوات ستصمد أمام أي هجوم، وأنها ستصل إلى أهدافها في الاتحاد السوفييتي، وهكذا اتخذت إجراءات رئيسية لرفع مستوى القوات النووية.

يبين الكاتب استراتيجية الثالوث التي كانت تقوم عليها القوات النووية الاستراتيجية، وهي القوة المحمولة جواً المتمثلة في قاذفات "بي – 52" B-52، والقوة المحمولة بحراً ممثلة بصواريخ بولاريس التي تطلق من الغواصات، وثالثاً القوة المتمركزة في البر، وتتمثل في الصواريخ البالستية عابرة القارات، ولاسيما صواريخ مينوتمان. ويرى بيري أن التدابير التي اتخذت للحفاظ على قوة هذا الثالوث، أدت إلى مواصلة منع حصول كارثة نووية.

 

الفرص الضائعة في منع الانتشار النووي

يطرح الكاتب عدداً من التساؤلات والاحتمالات التي كان من الممكن حدوثها لو أن ذلك الإنذار الذي أيقظه بعد منتصف الليل أثناء فترة الحرب الباردة كان صحيحاً، ليحدثنا عن اتفاقية "سالت" الثانية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، والتي لم ترَ النور بسبب غزو السوفييت لأفغانستان واتخاذ الرئيس كاتر إجراءات عقابية في حقهم. ويشير إلى بروز قضية انتشار الأسلحة النووية في مناطق أخرى من العالم، وفشل الولايات المتحدة في جهودها لوقفها إلا في كوريا الجنوبية وتايوان، لافتاً إلى أنهم يواجهون اليوم التركة المؤسفة للجهود الفاشلة في منع الانتشار.

يتحدث الكاتب كيف أصبح ناشطاً بشكل مهم ومتنامٍ في دبلوماسية المسار الثاني، وهي دبلوماسية دولية غير حكومية تكمل دبلوماسية المسار الأول التي يمارسها المسؤولون الحكوميون، وتضمنت تحركات في الاتحاد السوفييتي والصين ودول حلف الناتو، والتي تعتبر - بحسب بيري - أحد الحوارات المفيدة ضمن الجو المفعم بعدم الثقة الذي أشاعته الحرب الباردة.

ويشير الكاتب إلى التغير الذي حصل بعد تولي الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف منصبه، وإعلانه عن حالة "الغلاسنوست" أي النقاش المفتوح، والانفراج، والبيريستروكيا (الإصلاح الاقتصادي)، وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وظهور مشكلة "الأسلحة النووية السائبة"، في دوله السابقة، والتي شكلت إحدى أعمق المفارقات في عصرنا الخطير، ويحكي عن تشريع "نان – لوغار" الذي سيتولى تطبيقه حين يصير وزيراً للدفاع.

إن التغيير الجذري في التاريخ يحدث على نحو مباغت، فبعد سنوات من التأزم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، يشير الكاتب إلى الاتفاق الذي تم بدرجة عالية من التعاون بين الأميركيين والروس وإحدى الجمهوريات السوفييتية التي نالت استقلالها، لتفكيك قوة كبيرة من الأسلحة النووية وتحويلها للاستخدامات السلمية، ويحدثنا عن تسلمه منصب وزير الدفاع في عهد الرئيس كلينتون، واتباعه مبدأ بناء الثقة كمفتاح للدبلوماسية، مستشهداَ برأي "هيلين توماس" كبيرة المراسلين في البيت الأبيض، بعد جلسة الاستماع حول ميزانية الدفاع، إذ قالت: إنها المرة الأولى التي تستمع فيها إلى وزير دفاع يشرح الميزانية بشكل مكّنها من فهم الأمور.

 

تفكيك الأسلحة النووية

"إن وقود القنابل التي كانت موجهة في السابق نحو أهداف في أميركا، أصبح الآن يوفر الكهرباء للمنازل والمصانع الأميركية"، هكذا يلخص الكاتب النتيجة التي تم التوصل إليها بعد البدء بتدمير وتفكيك الأسلحة النووية في الجمهوريات السوفييتية المستقلة، ولاسيما في أوكرانيا حيث كان يوجد أضخم المواقع الصاروخية، مسهباً في شرح تفاصيل زياراته ومما حققه في تطبيق برنامج "نان – لوغار"، والذي اعتبره إحدى أكثر مبادرات الكونغرس استنارة على الإطلاق.

 

الأزمة مع كوريا الشمالية

شكلت الأزمة مع كوريا الشمالية واحدة من الأزمات التي عايشها بيري وأفرد لها صفحات من كتابه، فمنذ انتهاء الحرب الكورية بهدنة مسلحة "وفق توصيفه"، كانت شبه الجزيرة الكورية أكثر مناطق العالم تسلّحاً، ويتحدث عن رفض كوريا الشمالية السماح للوكالة الذرية بإجراء تفتيش كامل، وكانت قد بدأت بتفريغ قضبان الوقود المستنفد من مفاعلها، الأمر الذي سيمكنها إن أعادت معالجته، من صنع ست إلى عشر قنابل، مشيراً إلى الهجوم الذي تعرض له من قبل المتحدثين باسم حكومة كوريا الشمالية، ووصفه والتأكيد بأنه "معتوه حرب"، لكن في نهاية المطاف يشير بيري إلى التوصل إلى "إطار اتفاق"، والذي اعتبر صفقة جيدة للولايات المتحدة، فقد تُجُنبت الحرب وعُلق انتاج البلوتونيوم.

إلا أن الأمور في كوريا الشمالية لم تسِر على ما يرام، حيث يحدثنا الكاتب في فصل آخر من الكتاب عن حدوث أزمة جديدة في العام 1998، مسهباً في الحديث عن الإجراءات التي تم التوصل بشأنها إلى اتفاق لم يتم في عهد الرئيس كلينتون برغم الأجواء الإيجابية التي كانت سائدة، وصولاً إلى انسحاب واشنطن وبيونغ يانغ من إطار الاتفاق. ولا يتردد الكاتب عن إبداء استيائه وإحباطه من عم التوصل إلى حلول، ولاسيما أن كوريا الشمالية أصبحت في عام 2015 تمتلك ما بين 6-10 قنابل نووية وتنتج المواد الانشطارية.

كان السعي إلى اتفاقات تحديد الأسلحة مع الاتحاد السوفييتي، أحد التحديات التي واجهها الكاتب، مشيراً إلى الخلافات حول المصادقة عليها سواء في مجلس الشيوخ أو مجلس الدوما الروسي، مؤكداً على قناعته بأهمية الحوار المنطقي والجاد، كخطوة لمنع وقوع كارثة نووية. وفي هذا الإطار يفرد الكاتب فصولاً من كتابه للحديث عن نشوء فرص للتعاون بين دول حلف الأطلسي (الناتو) والدول الأوروبية التي كانت تشكل حلف وارسو، والمشاركة في حفظ السلام في البوسنة، متحدثاً بالتفصيل عن الحرب البوسنية والمباحثات التي تم التوصل إلى اتفاق بشأنها بمشاركة روسيا، وعن مبادرة الشراكة من أجل السلام التي شكلت أساساً للتعاون العسكري مع روسيا.

يتحدث الكاتب عن عدد من الأزمات التي حصلت أثناء توليه منصبه أو بعد تركه، ومنها الأزمة في هاييتي والتي عرفت بـ"الغزو النظيف"، والأزمة بين الهند وباكستان، والأزمة بين الصين وتايوان، مشيراً إلى اتباع استراتيجية تقوم على الاستفادة من التفاعل الاقتصادي المزدهر والمتنامي بين الأخيرتين، وتشجيع الأعمال التجارية، الأمر الذي قلل من إمكانية حدوث صراع عسكري.

وأشار بيري إلى تزايد القلق بشأن إيران وأنشطتها النووية واحتمال تخصيبها اليورانيوم وتطوير أسلحة نووية، متحدثاً عن الاجتماعات والمحادثات التي أفضت في النهاية إلى اتفاق بين الفريق الأميركي - الأوروبي مع إيران، ولكن يبدو أن الكتاب طبع قبل أن يقوم الرئيس الأميركي ترامب بالانسحاب من الاتفاق المذكور.

انطلاقاً من تركيزه على القضايا النووية، يرى بيري أنه كان من المستحيل عليه تجاهل موضوع العراق، حيث كانت القدرة النووية المزعومة أحد مبررات شن الحرب عليه، مفنداً ومنتقداً الأسباب التي بررت بها حكومة الرئيس جورج بوش الإبن غزو العراق والنتائج الكارثية والمخيبة التي أدى إليها، مؤكداً أن المغامرة الحمقاء التي قامت بها أميركا في العراق أفضت إلى كارثة كبرى، وحتى اليوم لم يتكشف بعد حجم تلك الكارثة.

يختم وليام بيري كتابه مستعرضاً الخطوات التي أنجزت للحد من انتشار الأسلحة النووية والإحباطات التي تعرض لها مع فريقه ومن آمن بمشروعه، مؤكداً بالرغم من التدهور الخطير، أن مشروع الأمن النووي سيواصل عمله. وعلى الرغم من أن المناخ الدولي الحالي لا يساعد على الانتقال إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية، يؤكد أنه لن يتخلى عن تلك الرؤية، التي تحتاج خطوات تدريجية، كل منها كفيلة بجعلنا أكثر أماناً.

قد تختلف مع الكاتب في بعض جوانب الكتاب وقد تتفق، لكن حتماً ستتفق مع فكرة الحد من انتشار الأسلحة النووية التي من شأنها تدمير الحضارة البشرية، والتي يمكن أن تتحقق إذا تكاتفت البشرية بدافع إنساني لتقديم التضحيات والوفاء بالالتزامات التي ترتقي بالخير الأعظم.