الحرب الناعمة بين أميركا وحزب الله
يأتي الكتاب مُتزامناً مع محاولات الولايات المتحدة الأميركية التضييق على حزب الله من خلال العقوبات الاقتصادية على كل من تشتبه بارتباطه به للحدّ من تنامي نفوذ الحزب داخلياً وإقليمياً.
يعتبر كتاب "ما بعد القتال حرب القوّة الناعمة بين أميركا وحزب الله" للكاتب حسام مطر الصادر عن "شركه المطبوعات للتوزيع والنشر" عام 2019 من أهم الكتب الصادرة لهذا العام بالنسبة للمُهتمين بدراسة تطوّر الجانب الخفيّ من الصراع بين الولايات المتحدة وحزب الله.
يأتي الكتاب مُتزامناً مع محاولات الولايات المتحدة الأميركية التضييق على حزب الله من خلال العقوبات الاقتصادية على كل من تشتبه بارتباطه به للحدّ من تنامي نفوذ الحزب داخلياً وإقليمياً، وتأييدها الدائم للاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على سوريا بحجّة مكافحة تموضع إيران وحزب الله.
ينقسم الكتاب إلى جزئين: الأول نظري يهدف إلى الإحاطة بأصل القوّة الناعمة ومتغيّراتها وانتقاداتها والفجوات في الأدبيات المطروحة وتعريف الإشكالية وعرض الإطار المنهجي والنظري. والثاني مخصّص لدراسة الحال. وهو يبدأ ببناء سردية تاريخية حول طبيعة الصراع بين حزب الله والولايات المتحدة.
ثم كيف جرى دمج القوّة الناعمة ضمن مجال مكافحه التمرّد الأميركي للاعبين مثل: حزب الله. بعد ذلك يعاين حال حزب الله والولايات المتحدة من منظار تنافسات "القوّة الناعمة" ضمن المجالين الوطني والشيعي.
الدراسة التي وُضعت باللغة الإنكليزية والتي هي في أصلها أطروحة دكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية جاءت جادّة وهادفة على طول صفحات الكتاب(417صفحة) موزّعة على ستة فصول، إضافة إلى مقدّمة وخاتمة وملاحق.
فصول الكتاب:
تحت عنوان "القوّة في العلاقات الدولية" ناقش الفصل الأول مُصطلح "القوّة الناعمة" وظهوره وتطوّره ودلالاته.
أما الفصل الثاني "ميدان الحرب" فتناول صعود حزب الله ومجتمع المقاومة والتحوّلات السياسية الأميركية في لبنان والصراع على الشرعية بين الحكومة وحزب الله مع لحظ السياق الاستراتيجي الإقليمي في احتواء الصعود الإيراني.
ركّز الفصل الثالث على "القوّة الناعمة" في سياق "مكافحة التمرّد" فتحدّث عن نزع الشرعية والتهميش واستراتيجيه إفراغ الحوض وقوّة الجذب لقطع المقاومة وحرب الأفكار. وكيف أعاد حزب الله ومن قبله إيران تعريف "القوّة الناعمة" من دون الانجرار إلى مضامين المصطلح المجترح أميركياً.
وكرّس الفصل الرابع نفسه للحديث عن السرديات المتنافسة على الصعيد الوطني، عن ثوره الأرز الملوّنة وإعادة معنى بناء معنى السيادة مثل حملة "أحب الحياة" وكيف أن حزب الله ردّ بسردية أخرى، مع فتحه باب الحوار والتحالف وبناء علاقة مع المسيحيين
وتفرغّ الفصل الخامس للحديث عن الثقافة بأشكالها المختلفة في بنية "القوّة الناعمة" وكيف تستعمل الولايات المتحدة الأميركية الثقافة من أجل التحكّم والتأثير والجذب مثل التأثير، وكذلك التعليم مثل برامج تبادل الطلاب. وكيف يتعامل حزب الله مع هذه التحديات.
وانصرف الفصل السادس للحديث عن "المنظمات غير الحكومية الممولة أميركياً" باعتبارها رأس جسر في الدبلوماسية الأميركية وكيف أن سياسة الاحتواء لدى حزب الله تتناول فرض القيود على التعاون في البيئات الشيعية وتقييد جمع البيانات وإظهار حساسية البرامج الثقافية وتعزيز الخدمات الاجتماعية.
وتستند دراسة "القوّة الناعمة" بشكل رئيسي إلى كتابات "جوزيف ناي" مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الدفاع في إدارة بيل كلينتون الذي وضع مصطلح "القوّة الناعمة".
ومن الصعوبات التي واجهت البحث وفقاً للمؤلف أن سياسات القوّة الناعمة تعمل عادة بشكل خفيّ. كما أن جهود القوة الناعمة الأميركية ضد حزب الله ليس لها تاريخ طويل.
وهناك نقص في أدبيات القوّة الناعمة حول الفاعلين غير الحكوميين مثل حزب الله. رغم ذلك سعى الكتاب في سدّ الثغرات البحثية في مقاربة "القوّة الناعمة" من داخل إطار الصراع يكون أحد أطرافها لاعباً لا دولتي وغير حكومي مثلا حزب الله.
القوة الناعمة وسائلها ومواردها
تقوم القوّة الناعمة على ثلاث وسائل مشتركة هي الإقناع وتحديد الأجندة والجذب. ويحدّد ناي ثلاثة موارد أساسية في القوة الناعمة وهي الثقافة والقيم السياسية والسياسة الخارجية. ويعتبر أن السياسة الأميركية غير الشعبية هي أحد أبرز العناصر المتقلبة في القوّة الناعمة الأميركية.
وتعد موارد القوة الناعمة أبطأ وأكثر انتشاراً وأكثر صعوبة في السيطرة عليها فضلاً عن أن تأثيرها وتنفيذها يعمل على المدى الطويل لكن تكلفتها أقل.
الحرب الناعمة بدل القوّة الناعمة
اعتمد الحزب مصطلح "الحرب الناعمة" بدلاً من "القوة الناعمة" هادفاً جذب الانتباه العام وتعبئة الجماهير للمشاركة في هذا الجهد وخلق شعور بالثقة بأن المستهدف لديه القدرة والإمكانات والإرادة للرد.
وكان أول من استعمل مصطلح "الحرب الناعمة" هو الإمام الخامنئي في 28 آب/ أغسطس 2009 في لقاء مع طلاب الجامعات ثم تبعه الأمين العام لحزب الله اّلسيد حسن نصر الله في خطاب خلال افتتاح المنتدى العربي الدولي عام 2010. وأضحى مفهوم "الحرب الناعمة" منذ العام 2011 من أولويات الوحدة الثقافية لحزب الله.
وقد أطلقت جمعية كشافة الإمام المهدي عام 2011 مشروع ورشة عمل حول الحرب الناعمة لعناصرها وأولياء أمورهم. وفي عام 2013 أطلق الحزب رؤيا داخلية حول الحرب الناعمة كانت بمثابة التوجّه الاستراتيجي لجميع وحدات الحزب للعودة إليها عند التخطيط ووضع البرامج والمشاريع. وأصبح المفهوم جزءاً من خطاب حزب الله وبرامجه واستراتيجياته واكتسب شعبية واسعة في البيئة الشيعية وسعى الحزب إلى تصدير مفهوم الحرب الناعمة إلى الصعيد الوطني عابراً الطائفة الشيعية إلى بقية الطوائف اللبنانية.
كيف وجّه حزب الله الحرب الناعمة
منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية حوّل حزب الله خطابه نحو التوفيق بين أجندة إسلامية عقائدية وبين شكل من أشكال الوطنية اللبنانية من خلال "الانتقال من الأيدولوجيا نحو الواقعية" أو الاندماج في السياسة الوطنية بإستراتيجية واقعية.
يرى الكتاب أن هوية حزب الله تتطوّر سياسياً وثقافياً بشكلٍ مستمر منذ ظهوره كحركة إسلامية جهاديه. وتمثّل هذه العملية من التكيّف مساومة مستمرة بين أيديولوجية الحزب والوقائع المتغيّرة حيث بدأ الحزب لبننة أجندته وشخصيته السياسية والدينية بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1990 وتغيّر شعاره غير الرسمي من "الثورة الإسلامية" إلى الشعار الرسمي "المقاومة الإسلامية".
كما بدا الحزب حذراً بخصوص فكرة "الدولة الإسلامية" ثم أعلن لاحقًا أنّه لن يقوم بفرض "النظام الإسلامي". وقد أصبح الانفتاح السياسي للحزب ضرورياً بعد أن قرّر المشاركة في الانتخابات النيابية عام 1992.
ومع أحداث العام 2005 ذهب الحزب مرة أخرى إلى مزيد من اللبننة من خلال المشاركة في الحكومة، فضلاً عن تعزيز طابعه السياسي وإنشاء تحالف سياسي مع التيار المسيحي الأقوى (التيار الوطني الحر). وأصبح العلم اللبناني يكتسي أهمية عالية في المواجهة التي يخوضها حزب الله.
ومنذ عام 2006 تحوّلت وسائل الإعلام التابعة للحزب إلى منتج أساسي للحملات السياسية المختلفة التي تتبنّى عناصر معينة من السياسة الأميركية ودمجها مع عناصر محلية.
ومنذ عام 2004 جرت إضافة رسم العلم اللبناني إلى زيّ كشافة المهدي. وكجزء من عملية التكيّف قامت الكشافة بتغيير شعارها عام 2007 من خلال إزالة رمز السيفين وإضافة شعار الأرزة في الوسط.
وبدأ حزب الله بتقليل استخدامه اللون الأسود في عاشوراء. وبالتركيز على اللون الأصفر يدخل حزب الله المسرح السياسي اللبناني لسياسة الألوان.
ومنذ وثيقة التفاهم مع "التيار الوطني الحر" اكتسبت حملات عاشوراء جماليات جديدة ومجالات دلالية تركز في المعاني الاجتماعية والثقافية والسياسية للسرد إلى جانب الأبعاد الدينية. وبدأت الجهات المحلية المحسوبة على حزب الله مثل البلديات بتزيين شجرة الميلاد في المناطق التي فيها اختلاط شيعي مسيحي.
وإدراكا من الحزب لأهمية الأنترنت في القوة الناعمة فقد أنشأ عام 2009 وحدة متخصّصة للأنترنت تعرف بإسم "وحدة الإعلام الإلكتروني". ويستخدم حزب الله الإنترنت لتشكيل مجتمع مدني افتراضي عبر الاستفادة من الطبيعة التفاعلية لتلك الوسيلة والعرض جدول أعماله السياسي وحضوره، فضلاً عن نشر الرسائل الدينية وجذب الشباب.
ويهدف من حضوره على وسائل الإعلام الاجتماعية إلى تعزيز بعض السرديات والسيطرة على أخرى وخلق الشبكات وتعبئه المؤيّدين والمتعاطفين والإعلان عن الرسائل الثقافية والسياسية ونشرها من خلال الحملات المنظمة وممارسة الضغط على الخصوم وتقليص الفجوة مع وسائل الإعلام التقليدية المعادية للحزب.
ما يميّز حزب الله أنه يحوّل القواعد الاجتماعية إلى مفاهيم ثقافيه عن الصواب والخطأ في عقول المواطنين ثم يحفّزهم من الداخل للطاعة في أسلوب شبيه بمفهوم فوكو عن السلطة الحديثة.
وقد نجح الحزب في إنشاء مجتمع مقاومة شديد التنظيم والانضباط والإنتاجية يمكّنه من مضاعفة قوته أكثر كثيراً من الوزن الديمغرافي للشيعة في لبنان. وهو مجتمع متنوّع ثقافياً لكنه متلاحم في الانتماء الشيعي المفتوح والهوية السياسية المرتبطة بالمقاومة.
حملة 14 آذار
أوحت الولايات المتحدة إلى تحالف 14 آذار أن يقدّم حزب الله على أنّه ميلشيا إجرامية طائفية تخدم مصالح إيران فقط. وبحسب الكاتب، فقد حاول تحالف 14 آذار أن يصوّر ثقافة "حب الحياة" ثقافة للحوار والتسامح والاعتدال والحرية وحقوق الإنسان والفردية والسلام. وقد شملت حملة "أحب الحياة" شعارات مثل: "بدنا نعيش" و "رايح على الشغل" و "باقي هون" و "عندي صف" و "بكفي حرب".
وهذه الشعارات والمصطلحات تخلق تصوراً أن المقاومة هي انعكاس ثقافه الموت وأنها مرتبطة بشكل مباشر بجميع القيم التي تتناقض مع قيم حملة "أحب الحياة" الضمنية.
لمواجهة هذه الحملات المنظمة، أطلق الحزب حملة مضادة بإضافة 12 مصطلحاً مختلفاً بمعدل مصطلح لكل إعلان في محاولة منه لاستكمال شعار "أحب الحياة" فأصبح شعار "أحب الحياة مع الصدق" و"الكرامة" و"السلام" و"الاستقرار" و"الأمن" و"رؤوسنا مرفوعة" و "مع كل ألوانها" و"من دون ديون".
وجرى توزيع حوالى 2500 لوحة في جميع أنحاء لبنان للإعلان عن الشعار مع رمز قوس قزح ليعكس الطابع الوطني والمتنوّع لتحالف حزب الله.
الخاتمة
يحاجج المؤلّف أن حزب الله تمكن من النجاح نسبياً في تقييد جهود القوة الناعمة الأميركية المخصّصة لعزله على المستوى الوطني والشيعي في لبنان بعد العام 2004. وأظهر قدرة على فرض قيود أساسية على هذه القوة الناعمة. ويبني خلاصاته على نتائج استطلاعات الرأي والمسوحات والانتخابات البرلمانية باعتبارها الأدوات الوحيدة لقياس القوة الناعمة للقوه غير الدولاتية. وعلى سبيل المثال يظهر استطلاع للرأي جرى عام 2010 أن 86 % إلى 92 % من الشيعة في لبنان يثقون بالمقاومة.
ويرى المؤلف أن حزب الله تمكن من تكييف مؤسساته وخطابه وسردياته وتطويرها وترديده ليصبح أكثر تناسقاً مع السياق اللبناني وان يكون أكثر جاذبية في طرحه.
وقد ابتكر الحزب سياسة القوة الناعمة الدفاعية والهجومية ودمج بينها لاحتواء القوة الناعمة الأمريكية. كما طبّق جملة من التكتيكات والإجراءات أثناء انخراطه في حرب القوة الناعمة في وجه الولايات المتحدة من أمثلتها:
الإبداع لناحية استخدامه الأشمل والأوسع للإنترنت والاتصالات اللاسلكية وقنوات الساتلايت وغيرها في مواجهة السردية الأميركية.
اختراق معاقل القوة الناعمة الأميركية من خلال إنتاج أفكار وعادات ومعاني وتحويلها من جديد بهدف تقديم بديل إسلامي للشباب.
الميل إلى مزيد من المرونة بحيث يكون فيها الحزب قادراً على الحد من تأثير القوة الناعمة الأميركية وقبول أجزاء أخرى بعد إعادة تعريف معناها. وفي بعض الحالات كيّف الحزب نفسه للتعايش مع أجزاء أخرى كما هي.
منح حزب الله قاعدته الشعبية الأولوية على تلك الوطنية والإقليمية إدراكاً منه لحدود موارده ولأهمية بيئته الشيعية.
تحويل تركيزه من بناء "مجتمع خاص" نحو التأثير والانخراط والانفتاح أكثر على كامل المجتمع الشيعي. الحزب يطبق بصورة عامة سياسات قوة ناعمة دفاعية لكنه على المستوى الشيعي ينتقل إلى الهجوم.
تشجيع المبادرات الفردية داخل البيئة اللبنانية ودمجها في أجندة الحزب.
التركيز في إحباط العدو وتخفيف الفجوة في الموارد بدل السعي إلى التوازن مع القدرات الأمريكية. يتمثل ذلك عبر السعي نحو المزيد من الالتصاق بالهوية الذاتية ومزيد من الوعي تجاه البرامج الأميركية.
ويرى الكاتب أن الحركات الإسلامية بشكلٍ عام تستجيب للأمركة الثقافية إمّا بالتحوّل نحو التطرف والعنف والتركيز في عزل نفسها ومجتمعاتها الضيقة كآليه دفاعية وإمّا بالاستجابة من خلال المرونة والانخراط الانتقائي كحالة حزب الله أو من خلال الدخول في عملية تحول إلى نوع من الرأسمالية الإسلامية.
ويختم كتابه بإثارة تساؤلات جوهرية في حرب القوة الناعمة من مثل أن المواجهة مع الولايات المتحدة هي صراع على النماذج المطروحة وليس على الأفكار.
وبالتالي يتوجب على الحزب النجاح بتقديم نموذج في العدالة الاجتماعية يحقق الحياة الكريمة. كما أن الحرب الناعمة الأميركية استنزفت موارد حزب الله وأجبرته على قبول أشكال جديدة من التّدين أو التعايش معها. وأعادت تشكيل بعض أوجه مجتمعه وهي أمور تقود إلى توترات بين مقاربات مختلفة داخل الحزب. والسؤال الجوهري: إلى أي مدى سيتمكن الحزب من الاستمرار في تحديث أدواته مع حفظ قيمه الأصيلة؟