متعة العمر.. الحبّ في زمن الوجع

توسّلت الكاتبة مرجعيات تاريخية، بعضها حقيقي والآخر خيالي، عبر استحضار الفعل المقاوم، من خلال شخصيات  فاعلة ومؤثرة ومقاومة، كـ"أدهم خنجر".

رواية "متعة العمر" للكاتبة اللبنانية هدى عيد

تحضر "متعة العمر" الرواية الثامنة للكاتبة اللبنانية الأستاذة هدى عيد، الصادرة عن دار الفارابي في أيلول - سبتمبر 2017 في زمن الخوف والقتل والدمار المحيط بنا من كل حدب وصوب، وفي زمن المشكلات الاقتصادية الكبرى في لبنان والعالم، وفي زمن المادة والتغوّل، زمن المظاهر التافهة والأجيال التائهة، والمنبهرة بكل جديد من الصرعات، والصراعات على التفاهات، بعيدًا من المبادئ والقيم والأفكار الإنسانية المتقدمة والراقية. 

تحكي القصة حكاية الأجيال المتعاقبة، تحاول "عيد" من خلالها أن تردم الهوة الكبيرة بين جيل تعلّق بأرضه، فأصبحت عنوانًا لكرامته وعزته وعنفوانه، عليها يستحضر ماضيه المجيد، ويشهد على ترابها مشارف النهايات بفرح الحياة وأحزانها، وبفيء شجرها يحكي لأحفاده حكايتها؛ ليزرع في عقولهم الأفكار والمفاهيم التي تجعلهم يتمسكون بها، ويدعوهم إلى العزوف عن الزخارف الفارغة التي قد تجنح بهم إلى أماكن غير محمودة.

   تقارب الرواية غير موضوع، يشكّل كلٌّ منه تحديًا على المستوى الاجتماعي في حياة اللبنانيين، إحدى هذه المشكلات هي انفصال الزوجين، أو طلاقهما ممّا يؤدي في المحصّلة إلى تشتت الأسرة، وبروز التمرّد عند الأولاد، وهي الوسيلة التي قد تكون الوحيدة التي يستطيعون فيها الاعتراض على قرار اتخذه الأب أو الأم أو كلاهما من دون مراعاة مصلحة الأبناء والبنات، ممّا يجعل حياتهم مشتّتة، فتتداخل الأسر بعضها بالبعض الآخر، ما يولّد النزاعات بين الأولاد غير الأخوة، وبينهم وبين من يشاركهم في الوالدين. وهذا ما وسم سلوك "أدهم" في المدرسة، من خلال  اعتراضه على أشياء كثيرة، ما جعل الأساتذة يتذمرون منه، ويتهمونه بالشغب، حتى إنّ إدارة الثانوية اضطرت إلى طرده غير مرة بسبب تصرفاته.

 

الواقع اللبناني وثنائية الأمل واليأس

   حاولت الكاتبة أن تكون قريبة من هموم الناس ومشكلاتهم الواقعية عبر استخدامها عنصر الزمن، وبما أنّ زمن الحكي هو زمن معاصر، وملتصق ومعايش لزمن النشر، ينزاح عبر الإسترجاع حينًا والاستباق حينًا آخر، ومستخدمة التواترين التكراري والانفرادي أحيانًا اخرى. هذا الزمن هو زمن التكنولوجيا الحديثة، نستدلّ إليه من دون كبير عناء وجهد، عبر الهواتف الخلوية، وبرامج السوشيال ميديا، كالفايسبوك والواتس آب وغيرهما، وهو زمن الأزمات الكبرى على صعيد الواقع السياسي اللبناني الداخلي، بما يحمله من معضلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وبيئية وغيرها، الزمن الذي تهيمن عليه المادة والمصالح، والأنانية الفردية التي تولّد الخلافات، ما يؤثّر في تكاتف الأسرة واستقرارها، إضافة إلى حبِّ الظهور والوصولية، والإغراء المادي والإعلامي، وتغليب الشهوة الجنسية المادية، والشهوة المعنوية، وذلك من خلال شخصيتين، شيرين وزوجها، وهو والد أدهم الذي طلّق والدته وتزوج بـ"شيرين"، أو (شيرو) الصبية العشرينية، الإعلامية المشهورة والوصولية المتزلفة التي تريد الوصول بأي طريقة إلى تحقيق غايتها، ولو على جثث الآخرين ومشاعرهم ومستقبلهم، همّها الوحيد كان الشهرة التي تتحقق عبر المال، وعبر العلاقات العامة، فاستغلت الثغرة أو الفجوة في الأستاذ الجامعي، والد أدهم الذي غلّب شهواته ونزواته على مصلحة أسرته، وقبلت الزواج منه قبل أن يصطدم بالحقيقة المروعة التي تجسدت في خيانتها له في شقته في الحمرا مع شاب يافع من عمر ولده.

 ولكنّ على الرغم من ذلك؛ فإننا وجدنا الكاتبة تحمل في قلمها سراج الأمل في مختلف محطات السرد، من أجل الوقوف مع المتلقي، وإضاءة شمعة أمامه في النفق الطويل المظلم، لتقول للأجيال الحالية واللاحقة، إنّ ثمة أملًا لا يزال موجودًا، وما زلنا نستطيع العيش بكرامة على هذه الأرض، والخروج من هذه الدوامة.

فعلت عيد ذلك من خلال شخصيات الحكاية حيث قفزت بنا قفزة نوعية، عندما أشارت إلى الحب  الذي أزهر في قلب أدهم، فتتلاشى مشاكله كلها، ويصبح قلبه متعلقًا بمحبوببته، بل إنّها تجيّر أحداث الرواية وتفكك تعقيدات حبكتها لأجل تعبيد الطريق أمام هذا الحب الكبير ليصل إلى خاتمته المرجوة.

 

الشخصيات، ومنهم أدهم البطل الأسطوري

   توسّلت الكاتبة مرجعيات تاريخية، بعضها حقيقي والآخر خيالي، عبر استحضار الفعل المقاوم، من خلال شخصيات فاعلة ومؤثرة ومقاومة، كـ"أدهم خنجر" و"الشهيد علي" خال أدهم، إضافة إلى جدته التي أرداها قناصة العدو، فارتفعت شهيدة، أو عبر الجد "حمية" الذي لا يزال حارسًا للأرض التي دافع عنها بكل الطرق والأساليب.

  يمثّل أدهم، وهو الراوي المشارك الذي يستلم زمام السرد من بداية الحكي إلى نهايته، الشخصية الرئيسة في الحكاية ممثّلًا الجيل الحالي ببعض تفصيلاته وهمومه وقضاياه، وهو الذي حُمِّل ثقل الإسم التاريخي للمقاوم الجنوبي العاملي "أدهم خنجر". وربما لهذه الأسباب وغيرها، أرادت الكاتبة أن تمنحه الوقار والرقيّ وتحمّل المسؤولية، ولا تريد أن تنزلق به إلى أزقة التفاهة والرذيلة والخفة، فأهدته حبّ ياسمينة الرائع، مع ما تحمله هذه الإشارة من دلالة مميّزة، فيها تجاوز واضح لجيل والده الذي صوّرته لنا الكاتبة لاهثًا خلف المتع والشهوات. 

      وشكّل المكان، وهو أحد العناصر البنائية الرئيسة في عملية السرد، عنصرًا مؤثرًا، عبر الأماكن الحقيقية التي أوردتها الكاتبة، وشكّلت العاصمة بيروت وكلٌّ من صيدا وقرى الجنوب أمكنة حميمة وأليفة، وأشارت إليها الكاتبة كأمكنة مثقلة بالدلالة التاريخية المقاوِمة (صيدا،عاصمة الجنوب، مرورًا بقراه ودساكره، وصولًا إلى مارون الراس)، فعاش القارئ تفصيلات هذه الأمكنة، ومشى في أحيائها القديمة وشوارعها العابقة بالتاريخ والحضارة، وتنسّم هواء قراها العليل.

 ونحن إذ نشير إلى العناصر الفنية للرواية، لا نستطيع أن نتغافل عن  أحد العناصر المركزية للقصة، وهو عنصر التشويق، الذي يشكّل عصب السرد، بحيث يجعل القارئ مشدودًا إلى أحداث القصة ومتابعتها، فأتى غياب هذا العنصر، ليشكّل علامة ليست في مصلحة الرواية. حصل ذلك على حساب وصف حالة المجتمع اللبناني وتفاصيله ومشكلاته وعاداته وتقاليده، إضافة إلى النهاية الكلاسيكية التي أردت الكاتبة فيها تغليب الخير على الشر، والحب على الكراهية، فلم نجد أي عائق يقف في وجه حبّ أدهم وياسمينة، وكان هناك تقصّد من الكاتبة لإضفاء نوع من المحبة، أو التكاتف الوطني، ونبذ الطائفية والمذهبية عبر استحضار حالات الزواج المختلط العابر للطوائف والمذاهب، بهدف التذكير بما كان يمارسه اللبنانيون قبل أن تطل الفتنة برأسها، ويحصل الشرخ الكبير على الخلفية السياسية، متأثرًا بما يحصل في لبنان والمنطقة منذ العام 2003 من حرب ودمار وقتل وذبح على أساس هوياتي، انسحب كل ذلك بطبيعة الحال على الواقع الاجتماعي.

 

العنوان

  وبالعودة إلى الفكرة الرئيسة التي انبنت عليها الحكاية، نقول إنّ الكاتبة حاولت تلطيف (مشكلة طلاق الزوجين) وعقلنتها، ولم تتطرّف بوصف الواقعين الاجتماعي والنفسي الناتجين عن هذه المعضلة، فأبقت الأمل حاضرًا من خلال ثنائية الحب والمتعة. الحبّ الذي أرادته عنوانًا في مواجهة التحديات الكبيرة والخطيرة، وهو الحب الذي انتصر في نهاية الحكاية. حب "أدهم" لمعظم الشخصيات في الرواية باستثناء شيرين وخضير.

أما المتعة التي تصدرت عنوان الرواية فجعلتها مترافقة مع العمر، العمر الذي هو بطبيعته قصير، ولا يحتاج إلى هذا الكم الكبير من العداوات التي تفرضها أحيانًا ظروف ليس مسؤولًا عنها كل الناس، ولكنها تفرض نفسها بشكل يجعل الحياة سيئة ومرة ومقيتة. وهذا ما دلّ عليه العنوان.

  لذا، تشكّل سيمياء العنوان عتبة أساسية للدخول إلى النص، كونها سببًا في نفور القارئ أو لهفته إلى قراءة النص. فـ"متعة العمر" توزعت على غير شخصية وغير موقع، وأثارت تساؤلات جمّة، جعلت القارئ يجول على شخصياتها وأحداثها متسائلًا: هل كانت متعة العمر بالنسبة إلى "أدهم" حبيبته ياسمينة الفتاة الجامعية المراهقة، التي أحبها حبًّا عذريًا مخلصًا، هذا الحبّ الذي بقي متوهّجًا منذ انطلاقة السرد حتى نهايته، أم أنّ أدهم نفسَه هو متعة العمر بالنسبة إلى ياسمينة أيضًا؟ أم أنّه الحفيد الذي مثّل المتعة بالنسبة إلى جدّيه، لأنه كان أكثر تعقّلًا من والده، وأكثر ثباتًا ومقاومة للشهوات، وأكثر تفهّمًا لأفكار الآخرين، وكان القاسم المشترك بين الأجيال أو الشخصية المرتجاة التي من الممكن أن تمثّل الأمل للمستقبل، والتي لا تتنكّر للماضي من خلال المحبة التي أظهرها لجدّيه، ودفاعه عنهما في غير محطة؟.

  هل أنّ متعة العمر تمثّلت في الإعلامية (شيرو) بالنسبة إلى والد أدهم، فكانت المتعة المؤقتة، وربما المزيفة التي أهدرت شرفه على عتبة منزله الخاص في الحمرا. أم أنّ متعة العمر كانت بالنسبة إلى شيرين نفسها تُختصر بالشهرة والشهوة والمال، ما جعلها تقترن برجل من عمر والدها، ثم بدأت بالانحراف نحو علاقات غير شرعية مع شبابٍ يافعين للتعويض عن فجوة العمر بينها وبين زوجها. أو هي كل ذلك معًا؟ هذه التساؤلات تُركت للمتلقي كي يكون شريكًا في النص أيضًا، ولا يكون قارئًا سلبيًا يُملى عليه، ويُلقّن ما يريده القاص.

في الختام، فإنّ رواية "متعة العمر" شكّلت متعة للقارئ ، ومساحة حميمة له، عبّرت عن هواجسه، عبر لغة جميلة وسهلة، وبعبارات رقيقة معبّرة وشفافة تسللت إلى قلبه، ولامست مشاعره فعاش مع شخصياتها وأحداثها وتفاعل معها ليفتّش بين سطورها عن متعة العمر.

 *د. طارق عبود أستاذ اللغة والأدب في الجامعة اللبنانية.