دور العرب في علوم الفضاء: رؤية ألمانية
العلم لا يمكن أن يتقدم في عزلة والكوزموبوليتية هي المناخ الطبيعي التي يزدهر فيها العلم، وأول من تعلم هذه الحقيقة العلمية في العالم العربي هم كتاب الخيال العلمي.
"علوم الفضاء والعالم العربي: رواد الفضاء والمراصد والقومية في الشرق الأوسط"، هو كتاب من تأليف يورغ ماتياس ديترمان (Jörg Matthias Determann)، أستاذ ألماني يعمل في قطر، وحاصل على الدكتوراه في التاريخ السعودي، والكتاب امتداد لأبحاثه في الدكتوراه. سوف تتفاجأ إذا عرفت أن البلدان العربية، الجديدة والعتيقة، الصغيرة والكبيرة، كانت كلها تساهم في الحقل العلمي؛ كانوا يحاولون إحياء علم الفلك في العالم العربي للمساعدة في بدء نهضة العلوم العربية وإحياء الحضارة الإسلامية. وليس مجرد الدفع بعلم الفلك، ولكن الحلم الأوسع للسفر عبر الفضاء وتكنولوجيا الصواريخ!.
نحن كعرب نعاني من فجوة في معلوماتنا التاريخية، وهذا الكتاب يسد هذه الفجوة. من منا يعرض قصة عربسات (ARABSAT): إنها في الواقع وكالة فضاء تعود إلى عصر الحرب الباردة، وليس مجرد مزود للقنوات الفضائية المشبعة بالمسلسلات التلفزيونية وأشرطة الفيديو الموسيقية. (اسم عربسات الكامل هو منظمة الاتصالات الفضائية العربية). من كان يدري أن قطر هي راعي رئيسي للعلوم، عبر مؤسسة قطر، وأن الفلكيين والعلماء في قطر ساعدوا حتى في اكتشاف كواكب جديدة في الكون.
نحن، كعرب، مضللون حول تاريخنا وإنجازاتنا العلمية المعاصرة ووسائل الإعلام العربية هي المسؤولة، إن لم تكن عدائية صراحةً، لهذه الإنجازات الحقيقية والخطط الطموحة لكننا أساءنا فهم تاريخنا أيضاً، تاريخنا العلمي، حتى في عصرها الذهبي، كان مليئًا بالأخطاء. والتقدم العلمي ليس نتاجًا لقوة الإرادة وحدها، أو حتى تمويل الدولة؛ هناك استمرارية السياسة، ومصادر الثروة المستقلة، وإدارة تلك الأموال، والموظفين المناسبين للمشاريع، إلى جانب الضوابط والموازين المؤسسية. وهناك مجموعات الضغط بما لديهم من مصلحة أكيدة في التقدم التكنولوجي، بغض النظر عما يفكر فيه الشخص الجالس في القمة - الملك غير المنتخب أو الدكتاتور الجمهوري المعني.
كل هذا وأكثر في هذا الكتاب!.
المزيد من الإيجابيات
أول ما يجب أن يقال عن الكتاب هو مقدار ما يحمله من متعة للقارئ. على الرغم من ازدحامه الشديد بالمعلومات، إلا أنه استغرق مني أسبوعًا تقريبًا حتى أنهيه. دليل على أن معرفة الدكتور ديترمان باللغة الإنجليزية لا تشوبها شائبة، ومعرفته واسعة باللغة العربية.
رغم الحشو المعرفي والمراجع والوثائق، إلا أن الكتاب ليس مكتوبًا بأسلوب أكاديمي مفرط، بل كُتب بلغة سلسة مفعمة بالمشاعر، سهلة الاستيعاب للشخص العادي كالمتخصص. والمؤلف يدخلنا في الحالة الذهنية للشخصيات التاريخية التي يتحدث عنهم، مثل إبراهيم حلمي عبد الرحمن، وفاروق الباز، وطالب عمران، ومحمد فارس، وتشعر أن الكاتب متعاطف للغاية مع ظروفنا وقضايانا.
نقطة تفوق الكتاب الثانية أنه منظم بشكل جيد، ليس على أساس زمني ولكن على أساس العناوين التي تحدد ما تحتاج إلى معرفته على الفور، مما يساعدك على المرور بمراحل علوم الفضاء العربية جنباً إلى جنب مع المناقشات حول التاريخ الأطول للعلوم العربية الإسلامية.
وأخيراً، يسلّط الكاتب الضوء على قضايا نحن غير مدركين لها، مثل تحقيق التوازن بين القومية العربية والكوسموبوليتية (cosmopolitanism). العلماء العرب في الواقع أكثر عالميةً من نظرائهم الغربيين، والخيال العلمي العربي قد لعب دورًا نبيلًا في الحث على التقدم العلمي من خلال الكوسموبوليتية.
البريق الزائف للتاريخ
فيما يتعلق بالتاريخ العربي والإنجازات العلمية السابقة، يكشف الكاتب أنه، وعلى خلاف العديد من المدارس الدينية أو المستشفيات، لم يقم الحكام بخلق أوقاف للمراصد. ونتيجة لذلك، لم تنجح معظم المراصد في البقاء لفترة أطول من جيل واحد. انطباعاتنا دائماً كعرب والمسلمين أن الأوقاف هي الممول لجميع مناحي النشاط الفكري في الماضي الإسلامي. للأسف، كان علم الفلك استثناء لهذه القاعدة. منذ القرن التاسع عشر، تم إصلاح هذا الوضع، جزئياً، من خلال التمويل الحكومي السليم عبر الوزارات الحكومية ومعاهد البحوث وإدارات الجامعة.
مع ذلك، هذا ليس كافيًا. ميزة الوقف أنه كان خارج عن سيطرة الدولة وقدم دعمًا هامًا لدخل الناس، وخاصة الزوجات والأرامل، ولذا كان مصدراً للاستثمار حيث وضع الناس مدخراتهم في هذا الشكل من التمويل المؤسسي (institutional finance).
تحتاج الأوقاف إلى الترقية إلى نموذج الصندوق الاتئماني(trust fund) الحديث، من دون شك. بالنسبة للمصالح الخاصة ومجموعات الضغط، مصر والعراق اللتان كان لديها مجمع عسكري صناعي (military-industrial complex)متطوّر، مثل "إسرائيل"؛ ونحن جميعاً نعرف ماذا حدث للعراق والعلماء فيه والطموحات والإنجازات العلمية والتكنولوجية فيه، وكذلك للعلماء والمشاريع العلمية والبحثية في سوريا.
ما هو أكثر خطورة من هذا أن الكاب يؤكد النظرية التآمرية، وقصص النجاح مثل العراق وسوريا ومصر، وحتى الجزائر. عندما يكونون على وشك التحول العلمي، تظهر حروب خارجية أو صراع أهلي لكي يدمر هذه الإنجازات، علما بأن البيروقراطية والولاءات الحزبية في الدول العربية كفيلة بتعطيل أي تقدم علمي من دون مؤامرات أجنبية!.
"Koftagate" أو فضيحة جهاز الكفتة هو مثال جيد على ذلك - الجهاز المصري الذي سيعالج بطريقة سحرية مرض الإيدز والتهاب الكبد الوبائي C. وكان العالم المصري عصام حجي أول من فضح هذا الزيف العلمي. الفساد هو أيضاً عامل للتخلف.
رائد الفضاء العربي، الحقيقة والخيال
العلم لا يمكن أن يتقدم في عزلة. الكوزموبوليتية هي المناخ الطبيعي التي يزدهر فيها العلم، ويا لغرابة الأقدار فأول من تعلم هذه الحقيقة العلمية فى العالم العربي هم كتاب الخيال العلمي. لقد برزت الكوزموبوليتية في كتاباتهم، مثل حسين قدري في واحدة من رواياته في عام 1981 التي تصورت مركز فضاء عالمياً تابعاً للأمم المتحدة ومكرَّساً لـمصلحة البشرية جمعاء، مع 1200 عالم من جميع البلدان وبقيادة مجلس إدارة مؤلف من اثني عشر مسؤولًا من العلماء، كل منهم لديه جنسية مختلفة.
والواقع يعكس هذه الحقيقة، تدريجياً. يشير رواد الفضاء العرب إلى أنه عندما تنظر إلى الأرض الزرقاء أمام سواد الفضاء البارد القاسي، فإنك تقع في حب الإنسانية ولا تعد ترى خطوط التقسيم المصطنعة - والمعروفة أكثر باسم الحدود - التي تفرّق بين الدول. كان من الرائع العثور على هذا الشعور بالتفصيل في الكتاب. وكما هو الحال دائمًا، فإن الفن دائمًا ما يتقدم إلى الأمام.
إذا كنت معتادًا على أمثال نيل أرمسترونغ وكارل ساغان(Neil Armstrong, Carl Sagan) ، فستعرف أنهم يعبّرون عن نفس المشاعر بالضبط. حسين قدري قبل ذلك تحدث عن أهمية الوصول إلى القمر بغض النظر عن الجنسية، لا يهم، سواء كانت أسماؤهم جون، بيتر، شاتالوف، مصطفى أو حسن.
في الواقع، كان العرب هم من جعلوا وكالة الفضاء الأميركية - ناسا(NASA) مؤسسة عالمية حقيقية. وكما يقول الدكتور ديترمان: "جعل المصريون مثل فاروق الباز وصلاح حامد برامج الفضاء الأميركية أكثر عالمية من الألمان مثل فون براون وغيس، حيث مثلوا دولاً رائدة في حركة عدم الانحياز وعالم الجنوب… ليس رسمياً مع أو ضد حلف الناتو أو حلف وارسو، مصر، مثل البلدان الأفريقية الأخرى خلال الحرب الباردة، سعت للتعاون مع، والمساعدات الإنمائية من الشرق والغرب".
حتى قبل السباق للوصول إلى القمر، كان هناك إبراهيم عبد الرحمن، عالم الفيزياء الفلكية المصري الذي كان أيضاً رئيس المعهد المصري للتخطيط الوطني، وممثل مصر في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبعد ذلك مفوض الأمم المتحدة للتنمية الصناعية في عام 1963. في عام 1966، أصبح أول مدير تنفيذي منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية اليونيدو . (UNIDO; United Nations Industrial Development Organization)
لكن كالمعتاد، تتجاهل وسائل الإعلام العربية كل هذه الإنجازات. في الخمسينيات من القرن الماضي على سبيل المثال، فلم يبدَ أي اهتمام على الإطلاق بدور الأجانب في برامجنا الفضائية العربية، وحتى تجاهل إسهاماتنا الدولية في الخيال العلمي، مثل فيلم "رحلة إلى القمر" في عام 1959 يصور إطلاق صاروخ ألماني الصنع على متنه إثنان من المصريين وأحد الألمان. وسائل الإعلام العربية المعاصرة معروفة بكونها مناهضة للعلم، والمساهمات العربية في استكشاف الفضاء وتكنولوجيا الأقمار الصناعية تأتي في ازدراء محدد. عصام حجي هو مثال كلاسيكي، فيما يتعلق بالإعلام بعد فضيحة "الكفتة"، ولكن أيضاً أحمد زويل، الذي تراكم عليه الأعداء في الصحافة المطبوعة المصرية قبل حتى حصوله على جائزة نوبل(Nobel Prize) .
مرة أخرى، يظل الخيال العلمي العربي في الطليعة. أوجز الدكتور طالب عمران، وهو عالم سوري وكاتب في مجال الخيال العلمي، رؤيته لمدينة علوم عربية في كتابه "فضاء واسع كالحلم". مؤسسة عروبية، بطبيعة الحال، حيث كان الجميع يتحدثون العربية الفصحى وتركوا لهجات مميزة وطنية وراءهم. ومع ذلك، المدينة تقع تحت الأرض، لحمايتها من الأقمار الصناعية التجسسية، وعلى جزيرة معزولة. وكما يقول بوضوح، فإن العلماء "هربوا من" الاحتكارات الأجنبية التي كانت تسيطر على البلدان التي كانوا يعملون فيها من قبل".
إن الدكتور عمران هو أيضاً راعٍ كبير للخيال العلمي، وربما يكون الأكبر في العالم العربي، وهو رجل يعتقد بوضوح أنه من أجل تعزيز العلوم في العالم العربي فإنك تحتاج إلى تعزيز الخيال العلمي أولاً!.
لوحة ألمانية في أوقات أنجلو- عربية
ماذا عن الرجل وراء الكتاب؟ ما الفائدة لشخص ولد في ميونيخ (Munich, Germany) في ألمانيا في عام 1984 في التقلبات التاريخية للعلوم والحضارة الإسلامية العربية؟ ما قد يجعله يشغل منصب أستاذ مساعد في جامعة (فرجينيا كومنول (في قطر ويؤلف ثلاثة كتب كاملة حول مواضيع ذات صلة: "التأريخ في المملكة العربية السعودية: العولمة والدولة في الشرق الأوسط" (2014)، و"بحث علم الأحياء والتطور في دول الخليج: شبكات العلوم في الشرق الأوسط" (2015)، ثم "علوم الفضاء والعالم العربي"؟.
في حديثه مع الدكتور ديترمان نفسه، تكتشف أنه بدأ تعليمه الجامعي في عام 2003، وهو نفس العام لغزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية، وأنه كان في التعليم الثانوي في عام 2001، عندما وقعت هجمات 11 أيلول سبتمبر. كانت السياسة دائمًا موضوعًا مفضلاً للمناقشة في شبابه، فقام الشرق الأوسط بالضغط تلقائيًا على ذهنه. كان "مركز السياسة العالمية في ذلك الوقت"، كما قال لي عبر البريد الإلكتروني، مما دفعه إلى دراسة التاريخ والدراسات العربية في جامعة فيينا (Vienna) وفي الوقت نفسه كان يتلقى دورات في تاريخ العلوم الحديثة في فيينا.
إن التزامه بتحسين نفسه نقله أيضًا إلى جامعة مالطا (2006-2007)، من خلال برنامج إيراسموس (Erasmus)، في محاولة لتحسين مهاراته في اللغة الإنجليزية. كانت المحطة التالية في مهنته التعليمية التسجيل في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية، جامعة لندن في عام 2009، وتحولت دراساته إلى مشروع الدكتوراه، وجمع بين اهتماماته في التاريخ العربي الحديث وتاريخ العلم.
تعتبر قراءة التاريخ مهمة بقدر أهمية التاريخ نفسه، وقراءتنا للتاريخ كعرب ناقصة؛ مبنية على فرضيات خاطئة لعصر ذهبي لا بد من إحيائه.
لاحظ أن أول عربي في الفضاء الخارجي، الأمير السعودي سلطان بن سلمان، كان قد وصف رحلته على متن المكوك في عام 1985 على أنها "إعادة إحياء" إنجازات الحضارة الإسلامية السابقة في العلوم، والتي شكلت "الأساس لما نراه. الآن في برنامج الفضاء" )مقابلة له على قناة (CBS.
وتقريبا كل شخصية علمية في التاريخ العربي الحديث تصر على نهضة العصر الذهبي الإسلامي لعلم الفلك والعلم. ما حدث فيما يبدو هو أن العرب والمسلمين نقلوا ومن دون وعي النموذج الأوروبي للتاريخ. إنهم يرون ما يمرون به الآن، فترة الركود والانهيار في العلوم العربية، كعصر مظلم (Dark Age) ويرون أنه من واجبهم الدخول في عهد جديد عن طريق إحياء لما كان من قبل.
ودعونا لا ننسى دور الخيال العلمي في حياة الدكتور ديترمان. كما نشأ على السياسة الشرق أوسطية وتاريخ العلم، تربى وترعرع على الخيال العلمي؛ سمح له والداه بمشاهدة رحلة النجوم (Star Trek) عندما كان طفلاً، من دون خشية على تعليمه وحياته المهنية!.
ولحسن الحظف إن عدداً من صانعي القرار العرب هم مؤيدون للخيال العلمي والعلوم، فلا معنى للتنمية من دون تنمية "مستدامة" وكذلك بناء البنية التحتية التي ستقوده. فقد تم تصوير أجزاء من فيلم Star Wars: The Force Awakens في أبو ظبي، على سبيل المثال، وفيلمCode 46 . وقدمت الإمارات العربية المتحدة، مؤخرا، حوافز مالية لمنتجي الأفلام الغربيين، وهي جزء من تنوعها الأوسع بعيداً عن استراتيجية النفط أيضاً. وينطبق نفس الشيء على مهمتهم على المريخ.
وكما يشرح عمران شرف، أحد مديري المشاريع، فإن المهمة، "لا تتعلق بالوصول إلى المريخ، بل إلهام جيل جديد بالكامل وتحويل طريقة تفكير الشباب في المنطقة ... الهدف هنا هو الأمل، للبشرية وبالنسبة للمنطقة، وللشباب في البلدان التي تشهد الكثير من الصراعات." أي كوزموبوليتية مرة أخرى.
هذا بالضبط ما يفعله هذا الكتاب للقارئ العربي. يملأه بالأمل في المستقبل، بينما يمنحه أيضا الأدوات اللازمة لخلق ذلك المستقبل بطريقة عملية من حيث التكلفة والإستدامة. إن التاريخ، بالنسبة لي على الأقل، هو خادم الخيال العلمي. المتعة التي تحصل عليها من الاكتشافات الأثرية في يدك هي نفس التشويق من السفر إلى عالم جديد ولقاء كائنات فضائية. التاريخ موجود لأخذنا إلى الأمام وليس إلى الوراء. ولكن عليك أن تعود إلى الوراء أولاً، ودراسة الماضي وعثراته العديدة، والمضي قدمًا. وإذا كان بإمكان كتاب دكتور ديترمان أن يلعب دورًا في هذه المؤسسة، فببساطة يمكنك قراءتها.
د. عماد الدين عيشة باحث أكاديمي، وعضو نشط في الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي.