المبارزة.. باكستان على مسار رحلة القوة الأميركية
لم يتعاون برويز مشرف دائماً مع الولايات المتحدة، ولم يقبل كل طلب لها. وفي لقاء جمعه مع الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، قدم مشرف هذه النصيحة: "نحن أكثر مشاكسة منكم مع الأميركيين بكثير. إفعل كما فعلت أنا. وافق على ما يقولون وإفعل ما شئت".
صدر حديثاً عن دار الطليعة الجديدة في دمشق كتاب "المبارزة: باكستان على مسار رحلة القوّة الأميركية" للكاتب البريطاني من أصل باكستاني طارق علي نقله إلى العربية حسين علي.
يُعتَبر طارق علي من أهم المُتخصّصين في شؤون جنوب آسيا وقد سبق له ونشر العديد من المقالات والدراسات حول النزاع في شبه القارة الهندية وأفغانستان. ولا شك بأن كُتب طارق تُعتَبر من أهم الكُتب ليس في باكستان فحسب، بل في كل العالم التي شرحت وحلّلت باستفاضة الأزمة الباكستانية والثمن الذي يدفعه شعبها، وما تُعانيه هذه الدولة جرّاء حدودها الغربية مع أفغانستان ونزاعها مع الهند في قضية كشمير، وتحكّم المخابرات والجيش الباكستاني بالقرارات المصيرية والدور الذي تفرضه الولايات المتحدة على باكستان أن تلعبه.
وتُشير قصة كتابه "هل تستطيع باكستان البقاء؟" الذي كان وضعه بعد بضع سنوات على انقسام البلاد في عام 1971، إلى مدى قوّة وتأثير "طارق علي" على الزعماء والقادة في جنوب آسيا. يقول طارق علي "أدان ديكتاتور البلاد حينذاك الجنرال ضياء الحق، الأسوأ في تاريخ البلاد، الكتاب علناً ومنع نشره. تم تداول الكتاب سراً، وكما أخبرت لاحقاً قرأه عدد من الجنرالات بعناية. قلت فيه إذا ظلّت الدولة تسير على الطريقة القديمة نفسها فإن بعض مناطق الأقليات التي أُهملت قد تنفصل، تاركة منطقة البنجاب لوحدها تتباهى كالديك على المزبلة. وعندما التقى طارق بأنديرا غاندي عام 1984 قبل أشهر من اغتيالها ذكرت له أنها قرأت كتابه المذكور، وطرحت عليه أسئلة عدة في ما يخصّ الوضع الباكستاني.
يبدأ طارق علي كتابه بقوله: "لم يكن القرن العشرون كريماً مع باكستان. وقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة منه، بشكلٍ خاص، تقلّصاً تدريجياً للدولة المُضمَحِلة الباهتة، حتى وصلت إلى مستوى راكِد آسن. ازدهرت المشاريع الحكومية والخاصة في فترات مختلفة، لكن من دون مساعدة قطاعات التربية والتكنولوجيا والعلوم. ففي عام 2005 استقبل افتتاح صالة عرض سيارات "بورش" في إسلام أباد بأصوات الابتهاج الصاخبة، واحتفل بهذا الحدث كمؤشّر، من بين مؤشّرات أخرى، على دخول باكستان عصر المدنية والحداثة أخيراً. لكن الأمر الذي لم يُذكَر هو بيانات سوء التغذية التي أظهرت حقائق مروِّعة؟ انخفاض طول قامة المواطن العادي. ووفقاً لآخر إحصائيات الأمم المتحدة، كان 60 بالمائة من الأطفال الباكستانيين تحت عُمر خمس سنوات مُعاقين إما إعاقة متوسّطة أو شديدة".
ويُكمل طارق علي مُطالعته لحال باكستان قائلاً: "كانت شريحة صغيرة من الأغنياء تكدِّس الأموال، بعيداً عن حاجات الناس العاديين. كان هدير النقود يكتم الأصوات الأخرى كلها. لم تعد معظم الأحزاب السياسية الرئيسية، مُلتزمة برامج أيديولوجية، بل أصبحت مُعتمدة عل المحسوبيات والعلاقات الشخصية، الزبائنية. أصبح الهدف التنظيمي هدفاً شخصياً بحتاً، يرمي إلى الحصول على وظيفة: من دون عمل، نقود، سلطة، أو طاعة عمياء للقائد أو في بعض الحالات للجيش كقائدٍ أوحد. يبرز بوضوح في كل حزب العداء لكل موهبة حقيقية. من النادر أن تتحدّد المناصب السياسية والمقاعد النيابية بالكفاءة والنزاهة. بل في أن الشخص الشريف أو حاد الذكاء هو شخص غير مؤهّل".
لقد خلق الإشمئزاز العام من السياسات التقليدية فراغاً أخلاقياً، امتلأ بالأفلام والصوَر الإباحية، والتديّن المُتكلّف المُفرط من مختلف الأنواع. كان الدين والأفلام والصوَر الإباحية جنباً إلى جنب في بعض المناطق: مبيعات أفلام الجنس هي الأعلى في بيشاور وكويتا، معقليّ الأحزاب الدينية. استهدفت طالبان في أفغانستان متاجر الفيديو، لكن بقي تجّار هذه الصناعة يعملون سراً. إنه لمن الخطأ التصوّر بأن شحنات الأفلام الإباحية تأتي من الغرب، بل توجد صناعة سرية مزدهرة في باكستان ولها نجومها المحليون من ذكورٍ وإناث.
ويرى الكاتب أن ما يضمن بقاء باكستان "ليست أيديولوجيتها الغامضة ولا حتى الدين، بل هناك عاملان إثنان آخران: قدرتها النووية ودعم واشنطن لها. يشتد بوضوح أحد التناقضات الأساسية التي تواجه البلاد: لا تزال آلاف القرى والأحياء الفقيرة غير مخدمة بالكهرباء والماء. يوجد المحراث الخشبي إلى جانب المفاعل الذري. هذه هي الفضيحة الحقيقية".
ويفضل الغرب أن يرى باكستان من خلال نظرة أحادية. فتعطي صحف الأوروبيين والأميركيين انطباعاً بأن المشكلة الرئيسية – إن لم تكن الوحيدة – التي تواجه باكستان هي قوّة المُلتحين المُتطرّفين المُتخّفين في كشمير الهندية، الذين هم على وشك السيطرة على البلاد .
ويؤكّد طارق بأن خطر سيطرة "الجهاديين" في الواقع على باكستان هو خطر بعيد. ليس هناك احتمال انقلاب يقوم به المُتطرّفون المُتديّنون، إلا إذا أراد الجيش ذلك.
واضح جداً التأثير الأميركي في بنية الدولة الباكستانية، ففي عام 1948 تشكّل جهاز الأمن الداخلي من ضباط في الجيش الباكستاني بفروعه الثلاثة، كان في الأصل مديرية أمنية مختصّة في جمع وتحليل المعلومات، وتركّزت أعمالها إلى حد كبير حول الهند و"المُخرّبين الشيوعيين المحليين". كبر حجم المديرية، ونمت ميزانيتها بمعدل كبير خلال الحرب الأفغانية الأولى ضد الاتحاد السوفياتي، وعملت خلال تلك الفترة بشكلٍ وثيقٍ مع الاستخبارات الأميركية والفرنسية والبريطانية، ولعبت دوراً في تسليح وتدريب المجاهدين، وساعدت لاحقاً على تسلّل عناصر حركة طالبان إلى أفغنستان. عمل جهاز الاستخبارات الداخلي في كل مكان بموافقة رسمية من قيادة الجيش العليا وبمستوى مُعيّن من الاستقلالية، لكن ليس أكبر مما سمحت به وكالتا "سي آي إيه" أو "دي آي إيه" في الولايات المتحدة.
ويعطي طارق علي في كتابه حيزاً مهما لقبائل البشتون في أفغانستان وباكستان التي لم تعترف بخط ديورند الذي يبلغ طوله 2,640 كيلومترًا والذي فرضته بريطانيا عام 1893 نتيجةً لاتفاقية وُقعت بين حكومة الهند البريطانية والأمير الأفغاني عبد الرحمن خان. فعندما لجأ "الفدائيون" الذين يقاتلون حلف الناتو إلى مناطق القبائل التي تحت سلطة باكستان، لم يتم تسليمهم إلى إسلام اباد، إنما قدم لهم الطعام والحماية كما هو الحال مع قادة تنظيم القاعدة. هذا ما يدور القتال حوله في جنوب وزيرستان التي تقع في شمال غرب باكستان، ودخلت دائرة الاهتمام العالمي بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 باعتبارها معقلاً رئيسياً لحركة طالبان - باكستان والقاعدة. فواشنطن تريد أن ترى قتلى أكثر، ويغضبها صفقات مشرف مع قادة القبائل التي تعتبرها إستسلاماً لحركة طالبان، وخصوصاً أن الأعمال التي يقوم بها الجيش الباكستاني تدفع أجرها بشكل مباشر القيادة المركزية الأميركية التي تشعر بأنها لا تتلقى قيمة ما تدفعه من أموال، هذا إذا لم نذكر العشرة مليارات دولار التي إستلمتها ياكستان منذ 11 أيلول/سبتمبر من أجل "الحرب على الأرهاب".
جاءت الحملة المستمرة في إعلام الولايات المتحدة وأوروبا على "التهديد الجهادي" للأسلحة النووية. بعد محادثات سرية طلبت فيها واشنطن من باكستان السماح لها بالدخول إلى المنشأة النووية، لم يستطيع مشرف قبول هذا الطلب.
واجه الجنرالات الباكستانيون بعد 11 أيلول/سبتمبر خياراً صعباً، إذا لم يوافقوا على مطالب الولايات المتحدة، قد تتبع واشنطن المثال الإسرائيلي، وتعمل على عقد إتفاقية ضد المسلمين مع المتشددين الدينيين الذين كانوا يحكمون الهند حينذاك. لكنهم لو أذعنوا، فقد تكون النتيجة كارثية، اَخذين بالحسبان دعم وتمويل جهاز الإستخبارات الباكستاني لمجموعات إسلامية أصولية متشددة في باكستان من أعوام ضياء الحق في الحكم. وكان هناك تهديد آخر لم يأتِ مشرف على ذكره: لو رفضت باكستان لكانت الولايات المتحدة إستعملت القواعد الهندية التي كانت موضوعة تحت الطلب في هجومها على أغانستان.
رأى مشرف، مدعوماً من معظم جنرالاته ، أن من الضروري الأنسحاب من كابول، لإقناع مناصريه من حركة طالبان بعدم مقاومة الإحتلال الأميركي، وقرر فتح القواعد الباكستانية العسكرية والجوية أمام الولايات المتحدة الأميركية. من هذه القواعد شنت الولايات التحدة هجومها على أفغانستان في تشرين أول/أكتوبر 2001.
ويؤكد طارق علي حقيقة مفادها أن مشرف لم يتعاون دائماً مع الولايات المتحدة، ولم يقبل كل طلب. كان لديه أيضاً حس الدعابة وإلا كيف له أن يحضر مؤتمر عدم الانحياز الذي بدأ اعماله في هافانا في 11 أيلول/سبتمبر 2006؟ في لقاء جمعه مع الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، قدم مشرف هذه النصيحة: "نحن أكثر مشاكسة منكم مع الأميركيين بكثير. إفعل كما فعلت أنا. وافق على ما يقولون وإفعل ما شئت".