عن أهمية الصداقة في الأخلاق
يدافع الكاتب عن الصداقة وينصح بضرورة ربطها بنسيج التطور الإنساني، وبتطور الدول والقيم التي تبنى عليها، وبالحاجات الإنسانية الضرورية للسعادة الذاتية مثل المحبة المتبادلة، والدافع الأخلاقي للعاطفة الإنسانية.
كان الاهتمام بالصداقة كقيمة أخلاقية جديرة بالتحليل الأخلاقي الجدي معدوماً حتى السنوات الأخيرة من الفترة المعاصرة. ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من نظرة سريعة إلى الكتابات الأخلاقية لهذه الفترة - المقالات والكتب والتعليقات النقدية- حتى نتبين غياب الصداقة كقيمة أخلاقية مركزية عن هذه الكتابات".
هكذا بدأ الكاتب ميشيل حنا متياس مقدمة كتابه المهم "الصداقة قيمة أخلاقية مركزية" محاولاً تبرير كتابته من منظور آخر غير المنظور المعتاد لمفهوم قيمة الصداقة في حياة الإنسان. فقد أوضح في مقدمة هذا الكتاب الآراء التي سبق وأن تناولها الفلاسفة في العصور القديمة والوسطى والحديثة، وحاول أن يبرز منظور الصداقة بمفهوم آخر غير المفهوم الأخلاقي أو الديني أو الفلسفي، معتبراً أن الصداقة حاجة إنسانية أنطولوجية وأنها أحد مقومات الحياة الإنسانية والتطور والنمو اللذين يلحقان بهذه الحياة.
مفهوم النموذج الأخلاقي للصداقة
يبدأ الكاتب ميشيل حنا متياس الفصل الأول من الكتاب حول فكرة مفهوم النموذج الأخلاقي، وذلك عن طريق مناقشة جادة للعلاقة بين النموذج الأخلاقي والنظرية الأخلاقية وتحول هذا النموذج بتحليل بعض المفاهيم الخاصة به مثل فكرة الخير الأسمى والقيمة الأخلاقية والقاعدة الأخلاقية والعلاقة بين هذه المفاهيم مجتمعة.
ويعتمد الكاتب في التحليل الخاص بهذه المفاهيم في الفصل الأول على عدد من النقاط المركزية الهامة والتي قسمها إلى عدة نقاط منها :" بنية المحاجّة" وهي عبارة عن مقدمة تفكير الكاتب حول مفهوم الصداقة ولماذا اعتمد تفكيره على فلسفة خاصة أن الصداقة حاجة إنسانية محضة، ترتبط ببعض العوامل سواء في العصور القديمة او الحديثة، بناء على كلام الفلاسفة، وتتبع هذه النقطة، عدة مفاهيم اخرى في تصور الكاتب منها تصور النموذج الأخلاقي في إطار المفهوم الذي يتشكل من المعتقدات والقيم الأخلاقية للجماعة وتأثيراتها على الفرد.
ويعتمد الكاتب أن تشكيل وعي الجماعي بالقيمة الأخلاقية للصداقة يعتمد على بعض المبادئ في العنصر التالي لهذا المفهوم، حيث ربط بين الخير الأخلاقي والقواعد الأخلاقية، حيث تحدث الكاتب وفق منظور أن السعادة سلسلة متصلة يجب أن تتم خلال حياة الفرد في حياته كاملة بعيداً عن تحقيقها في جزء من حياته فقط، او بمعنى آخر، أنها مسيرة متصلة من التحقق ويحتاج الفرد إلى عمر كامل لكي يحققها، ومن هذه المفاهيم التي تتحقق على مدار الحياة كلها - وفقاً لمفهوم الكاتب السابق - الصداقة بطبيعة الحال.
قيمة الصداقة في الفلسفة اليونانية القديمة
وبعد الحديث عن جميع المفاهيم والنظريات حول القيمة والأخلاق وإرتباطها بقيمة الصداقة عند الإنسان بشكل شمولي، يبدأ الكاتب حنا متياس في الفصل الثاني في سرد قيمة الصداقة وفق المنظور التاريخي، حيث يتحدث عن الصداقة والأخلاق في الثقافة اليونانية القديمة، كأحد الثقافات المهمة التي وضعت أسساً أخلاقية وفلسفية للإنسانية بعد ذلك.
ثم يبنتل متياس إلى الحديث عن تحول النموذج الأخلاقي في الثقافة اليونانية القديمة، حيث يقول: "إن المعتقدات والقيم التي ترتكز عليها الثقافة وتدير مسيرتها هي التربة الخصبة التي تغذي المعتقدات والقيم الجزئية للأنماط السلوكية النموذجية".
ثم يتحدث الكاتب عت دينامية تحول النموذج الأخلاقي في الثقافتين الهيلنية والهيلنستية، أو اليونانية القديمة وانتقالها إلى العالمية بعد إنتشار تلك الثقافة في بلدان الشرق والغرب على السواء في العالم القديم حينها، وأصبحت مرادفاً للثقافة العالمية في العصر الحديث.
وينتقل متياس إلى سرد النموذج الأخلاقي في الثقافة اليونانية القديمة، حيث الرؤية الأخلاقية للعالم القديم وفق النموذج اليوناني تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات وهي: الاتجاه الميتافزيقي والاتجاه الغائي، ثم الاتجاه الإنساني.
الاتجاه الميتافزيقي: يقول الكاتب إن اليونانيين تميزت رؤية العالم لديهم بعقلية ميتافزيقية حيث كان لديهم اهتمام عميق بمصدر الأشياء والرغبة القوية في اكتشاف الحقيقة التي تسيّر المشهد المنظور للوجود الطبيعي. وهذا نجده في أشعار وكتابات وفلسفة اليونانيين القدامى والتي عبّرت بصدق عن هذا الاتجاه، حيث نجد أشعار هوميروس ثم هزيود، معبرة عن هذا الاتجاه، كما نجد أفكار أفلاطون وأرسطو ثم الإسكندر الأكبر قد نهلت واستمدت من كتابات هوميروس وغيره، لتنال حظها هي الأخرى في تثبيت هذا الاتجاه الميتافزيقي في العقول والثقافة اليونانية.
الاتجاه الغائي: يسرد الكاتب عقلية اليوناني القديم وتصوره للعالم الذي يعيش فيه بأنه عالم مخلوق لغاية وهدف معين وحكمة علوية غير ظاهرة، أي إنه ربط الاتجاه الميتافزيقي بالاتجاه الغائي ووجود هدف في هذه الحياة، وهو ما أثّر في أخلاق الإنسانية جميعها، ومن ضمنها بلا شك الصداقة.
الاتجاه الإنساني: يوضح حنا متياس هذا الاتجاه بقوله: "على الرغم من أن الإنسانوية كانت تشع في نسيج الرؤية الهيلنية للعالم كما تشع الحياة في الكائن العضوي، فإن الفلاسفة هم الذين صاغوا هذه الخاصية كمثال ثقافي".
وأتبع الكاتب هذا القول بشرح نظرية العالم اليونانية تجاه الإنسانية بأنها أهم حقيقة في هذا العالم وأنها مقياس المعرفة وأنها أزلية لا مادية، وانتقل هذا المفهوم وازدهر في عصر النهضة وخاصة في إيطاليا وشكل حجر زاوية في الثقافة الأوروبية إبان عصر النهضة وما بعدها.
ومثل أي حضارة تتفاعل مع الأفكار في تناسق وتناغم تام، فإن تأثر الدين والسياسة والفن، وهي من منجزات الحضارة اليونانية القديمة، بالاتجاهات الفكرية السابقة. وبلا أدنى شك ارتبطت مفاهيم الدين والآلهة اليونانيين بهذا المنظور الأخلاقي السابق المعتمد على الميتافزيقا والغاية والإنسانية. وهذا يتضح وفقاً لرؤية الكاتب في نسيج المؤسسة الدينية اليونانية وتأثيراتها في الحضارة والمنجزات الحضارية، سواء المادية منها أو المعنوية. وانتقلت هذه التأثيرات إلى الفن اليوناني أيضاً حيث يقول الكاتب: "دعوني أحوّل انتباهي إلى نمط فني آخر يعبّر عن الخصائص الاساسية للثقافة اليونانية وهي العقل، والنظام، والغاية، والإنسانية، والتوجه الميتافزيقي، حيث انبثقت التراجيديا اليونانية من الإحتفالات الدينية وانتقلت سريعاً إلى الأعمال الغنائية والراقصة والشعرية التي ابتكروها في القرن السادس قبل الميلاد".
وهذا القول يؤكد شمولية الحضارة وارتباط الثقافة اليونانية القديمة بالاتجاهات الفكرية السابقة وفق منظور أخلاقي بحت.
ويشير الكاتب إلى أن المنظور السياسي للحضارة اليونانية والمتمثل في أشهر السياسيين اليونانيين على الإطلاق "بركليس" وخطبته التي تسمى خطبة الجنازة، وهي خطبة سياسية معبرة بجلاء ووضوح عن خلاصة المنجزات الفكرية الأخلاقية للثقافة اليونانية، حيث كانت الخطبة تعبّر عن مدح الجنود الذين قضوا نحبهم في حرب أثينا ضد إسبرطة، حيث عبّر بركليس في هذه الخطبة عن روح الحياة اليونانية وفق الاتجاهات الثلاثة السابقة وارتباط المؤسسة السياسية اليونانية بهذه الإتجاهات.
ويختتم متياس الفصل الثاني بعناصر هامة أخرى يتحدث خلالها عن تحولات النموذج الأخلاقي في الثقافة الهيلنية وكيف تحولت الثقافة الهيلنية إلى أخرى هيلنستية، والتي كانت تعني الثقافة العالمية المستمدة من الثقافة اليونانية القديمة، حيث نجد أن الثقافة اليونانية انتشرت في البلدان التي انتشرت فيها بفضل الإمتزاج بين هذه الثقافة والثقافات المحلية الأخرى. وهذا الامتزاج نتجت عنه حضارة وثقافة جديدتان لهما منظورهما الأخلاقي الخاص وهي الثقافة الهيلنستية، والتي كانت مرادفة للثقافة العالمية في العصر الحديث.
وينتقل الكاتب إلى نظرية إرتباط كل من المؤسسة الدينية والسياسية في العصر الهيلنستي بالثقافات المختلفة ومزجها مع الثقافة الجديدة، وكيف أن منجزات فنية كثيرة عبّرت عن هذا بإيضاح شديد.
أما عن النظرة الهيلنية للخير، فقد عبّر عنها الكاتب بقوله: "كان تفهم اليونانيين للخير بلغة الفضيلة أن الشعب الصالح (الخيّر) هو الشعب الفاضل وهو الشعب الذي يسلك وفقاً لفضائل اليونانيين. غير أن الفضيلة أساس السعادة، إذن يكون الإنسان سعيداً أو يصبح سعيداً عندما يعيش حياة فاضلة".
ويتضح من خلال نظرة اليونانيين للصداقة من خلال منظورها الأخلاقي البحت، والذي يحاول الكاتب إثباته في الكتاب، أن للصداقة منظوراً أخلاقياً أعمق من جميع المفاهيم الخاصة بها.
الصداقة في النظرية الأخلاقية للعالم الهيلينستي
في الفصل الثالث من الكتاب وعنوانه "الصداقة في النظرية الأخلاقية الهيلنية والهيلينستية" يعرض الكاتب رأي الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو في الصداقة، حيث تتلخص أراؤه في ارتباط قيمة الأخلاق بحب الخير والعاطفة الإنسانية المحبة للفضيلة، وهي بلا شك نظرة عامة تتميز بها الحضارة اليونانية في الإتجاهات الثلاثة الذي تحدث عنها الكاتب حول تميز الحضارة اليونانية.
ويسرد الكاتب رأي أرسطو حول شروط الوئام بين الأصدقاء، حيث يضع شرطين أساسين لهذا الوئام والذي يعتبر "قضية مفصلية في قضية الصداقة"، وهما ضرورة وجود المساواة والمماثلة حتى يصل الوئام بين الأصدقاء إلى الذروة.
ويبني متياس نظريته عن التصور الأخلاقي للصداقة في الثقافة اليونانية من خلال إرتباط الصداقة بمنظور السعادة، وجعل هذه السعادة حاجة إنسانية لا بد من تحقيقها. كما أن السعادة ترتبط بحياة الإنسان السوية، وكأنه يريد أن يقول إن الصداقة جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان السعيدة، وبغير وجود الصداقة لا توجد السعادة من الأساس.
ويختتم متياس الفصل بمفاهيم عدة منبثقة من رؤية الكاتب شيشرون عن الصداقة، والتي تتمحور حول جوهر الخصائص الأساسية للتصور الكلي للخير الأسمى لأن نظرته إلى الصداقة تأسست على هذا التصور. ورؤية شيشرون مستمدة من الفلاسفة اليونانيين القدامى بطبيعة الحال والذي افترضوا ميتافيزيقا مادية في تحليلهم للحياة الأخلاقية والتي تشكل الصداقة حجز زاوية فيها.
وارتبطت نظرة شيشرون للصداقة بنظرات الفلاسفة اليونانيين في العالم الشرقي والغربي القديم على السواء.
وقد أجاب الكاتب عن سؤالين هما: ما هي الصداقة؟ ولماذا نحتاج إلى الصداقة؟ ويشير إلى أن الإجابة على هذين السؤالين تكمن في الخلاصة التي استخلصها من أفكار الفلاسفة اليونانيين والتي تتلخص في أن الصداقة جزء من السعادة وشرط من شروط الفضيلة الإنسانية التي خلق الإنسان من أجل الوصول إليها.
غياب الصداقة في أخلاق العصور الوسطى
ينتقل الكاتب إلى الصداقة في نظرية أخلاق العصور الوسطى، ويبدأ بسؤال هام وهو لماذا غابت الصداقة في نظريات أخلاق العصور الوسطى؟
وقد أكد الكاتب أن الأخلاق والقيم ارتبطت بالرؤية الأخروية للعالم التي سادت في تلك العصور، حتى أن المؤسسات الدينية والسياسة ارتبطت بتلك النظرة الشمولية التي تنظر إلى العالم وربطه بالنظرة المسيحية عن البشر. وقد ظهرت هذه النظرة في كل الملامح الفنية والفلسفية طوال العصور الوسطى ولا سيما في أوروبا.
وقد برر متياس غياب الصداقة في العصور الوسطى بأن الرؤية الشاملة للعالم في تلك العصور طغت على كل قيمة أخلاقية، ومن بينها الصداقة، حيث همشت كل القيم ومن بينها هذه القيمة لصالح الرؤية الشاملة للعالم، وخاصة مع نسب جميع الأفعال التي تحدث إلى الله الذي يتحكم في كل شيء، والكنيسة التي تعتبر ظله على الأرض.
قيمة الصداقة في عصور النهضة والعصور الحديثة
ينتقل الكاتب إلى الحديث عن قيمة الصداقة في العصور الحديثة، حيث بدأ بتحليل النظريات الفلسفية الخاصة بعصر النهضة، والعصور التي تلت ذلك، وعودة مبدأ الإنسانوية، والتي أرجعت بعض القيم الإنسانية ومن بينها الصداقة إلى الواجهة مرة أخرى، بسبب النظرة الفلسفية التي تتحدث أن الإنسان هو القيمة الوحيدة التي يجب أن تتطور في هذا العالم، وأن الكون جميعه مسخر له، والإهتمام بالعقل الإنساني دون غيره، وبداية ظهور مفاهيم خاصة بالعقل مثل الثقافة والهوية، وربط كل هذه المفاهيم بالنظرة الشمولية الجديدة التي تبناها العديد من فلاسفة عصر النهضة.
وقد ربط الكاتب بين القيم الإنسانية ومن بينها الصداقة ونظرة فلاسفة العصر الحديث مثل ديكارت ودوركايم وغيرهما، والذين أكدوا على القيم الإنسانية دون غيرها في المقام الأول، وربطها بالسعادة، وتأثير التحولات الثقافية والفنية والسياسية في أوروبا خلال تلك العصور على ظهور بعض القيم واختفاء الأخرى.
ويتبنى الكاتب تعريف الصداقة في العصر الحديث على أنها علاقة محبة مشتركة تنظر إلى المصلحة المتبادلة بين شخصين لهما نفس الإهتمامات والمحبة المشتركة بينهما، وهذه نظرة شمولية تبناها الفلاسفة في تلك العصور.
ويشرح الكاتب من خلال الفصل السادس على نظرية قيمة الصداقة في العصور الأخيرة، وارتباطها بالتغيّرات الهائلة على مستوى العلم والتكنولوجيا، والتغيّرات الفنية والسياسية في العالم أجمع، وبداية وجود نظريات فلسفية وعلمية متخصصة، وهذا بلا شك جعل من الصداقة قيمة من ضمن القيم التي تأثرت بهذه الثورة الهائلة.
ويحاول الكاتب شرح التغيّرات السياسية والفنية التي حدثت في خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وكيف أن القيم الديموقراطية والحرية همشت من قيمة الصداقة، كقيمة أخلاقية مركزية، وظهور الإهتمامات الأخرى مثل الإهتمام بالنفس البشرية، وطغيان المادية على الأخلاق جميعها ومن بينها الصداقة.
الصداقة حاجة أنطولوجية للإنسان
يختتم متياس الفصل السابع والأخير من الكتاب، بتقييم شامل وربطه بضرورة وجود الصداقة كقيمة لها أسس وقواعد وكحاجة أنطولوجية للإنسان، وتفسير الأسباب "غير المبررة" لاستبعاد الصداقة من الأخلاق المركزية للإنسان في العصور الوسطى والحديثة والمعاصرة.
ويدافع الكاتب عن الصداقة وينصح بضرورة ربطها بنسيج التطور الإنساني، بل لا بد من ربطها بتطور الدول والقيم التي تبنى عليها، وربطها بالحاجات الإنسانية الضرورية للسعادة الذاتية مثل المحبة المتبادلة، والدافع الأخلاقي للعاطفة الإنسانية.
ويختم الكاتب بقوله "إن الصداقة قيمة أخلاقية مركزية يحتاجها الإنسان وهي شرط من شروط الخير الأسمى، وحاجة جوهرية في النموذج الأخلاقي الأمثل للإنسان".