"اختراع الهند": قصة حياة جواهر لال نهرو

قال تشرشل إن "الهند ليست بلداً أو أمة بل هي مجرد تعبير جغرافي وأنها لا تعبّر عن بلد واحد أكثر مما يعبّر خط الاستواء". وجهة نظر تشرشل هذه هي التي ستملي على جواهر لال نهرو "اختراع الهند".

كتاب "اختراع الهند: قصة حياة جواهر لال نهرو" للكاتب ساشي تارور

كتاب "اختراع الهند: قصة حياة جواهر لال نهرو" للكاتب الهندي ساشي تارور هو سيرة مختصرة للزعيم الهندي الراحل جواهر لال نهرو، هذه الشخصية العظيمة التي كانت أبرز مثال على الوطنية في القرن العشرين، "لأن مراحل حياته المختلفة، ابتداء من الطفل المتمتع بالامتيازات، والشاب العادي، مروراً بالشاب الوطني المختال، والمقاتل البطولي من أجل الاستقلال، لا يمكن فصلها عن رئيس الوزراء بلا منازع، والسياسي المنقطع النظير في العالم".

والكتاب – بحسب مؤلفه ساشي تارور - "ليس من الأعمال العلمية، ولا يقوم على بحوث جديدة في سجلات محفوظة غير مكتشفة، ولكنه تفسير لحياة غير عادية وسيرة مهنية للإرث الذي خلفه لكل هندي، لقد أسبغ نهرو على لفظة (هندي) من المعاني ما يجعل استعمالها مستحيلاً من دون الإقرار بدين،.. إن جوازات سفرنا تجسد المثل التي آمن بها".

يعتبر تارور أن "تأثير نهرو في الهند أعظم من أن لا يعاد النظر فيه بصورة دورية، فإرثه إرثنا سواء اتفقنا مع كل ما يرمز إليه أم لم نتفق. ونحن ندين إلى حد كبير، يما نحن عليه اليوم إلى رجل واحد"، هو نهرو.

ولد جواهر لال نهرو في 14 تشرين الثاني - نوفمبر 1889 لأب محامٍ ثري يدعى موتيلال وأم فائقة الجمال تدعى سواروب راني كول. وعاش في دلال وثراء جعلاه بطيئاً في الكشف عن أي من سمات العظمة المحتملة، فقد كان طالباً لا مبالياً، بسبب ثراء الأب ودلال الأم الفائق له.

تكونت أفكار الطفل الصغير بفعل مجموعتين مختلفتين من المؤثرات العائلية التي لم يجد فيهما أي تناقض، الهندوسية التقليدية لأمه ونساء أسرته، ونزوع أبيه نحو المواطنة الحديثة والعلمانية. فقد كانت النسوة يروين له قصصاً من الأساطير الهندوسية ويصطحبنه إلى المعابد بشكل منتظم، ويجعلنه يستحم في مياه نهر الغانج. بينما كان والده يرفض أن يخضع جواهر لمراسم التطهير، وإن لم ينكر عقيدته الهندوسية. وبسبب عناد الأب، قام كبار الشخصيات الهندوسية بطرده رسمياً من الطائفة عام 1899، وتعرضت الأسرة للمقاطعة الاجتماعية من قبل أنصار التطهير. لكن عائلة نهرو تغلبت على هذا النبذ من خلال النجاحات الباهرة التي حققتها في حياتها الدنيوية.

كان أفراد العائلة ينتمون إلى طبقة بانديت الكشميرية، وهم يتحدرون من مجتمع البرهميين من أقصى المناطق الشمالية لشبه القارة الهندية، الذين استطاعوا أن يكوّنوا حياة جديدة لهم في شمالي الهند ووسطها منذ مطلع القرن الثامن عشر على الأقل، أي بعدما اعتنق الكشميريون، وعلى نطاق واسع، الديانة الإسلامية في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين. لكن هؤلاء المسلمين الكشميريين اتبعوا النسخة التوفيقية من العقيدة وتشرّبوا الأفكار الرقيقة للدعاة المتصوفة، وتعايشوا بانسجام مع جيرانهم الهندوس.

وعلى الرغم من أن البانديت نزحوا من كشمير بأعداد كبيرة، فإنهم لم يفعلوا ذلك كلاجئين هاربين من بطش المسلمين، بل كمهاجرين متعلمين ومهنيين ماهرين ساعين وراء فرص أفضل للحياة. فقد نموا وازدهروا في دولة يفوقهم مسلموها عدداً بنسبة 13 إلى واحد، دون أن يكون لهم تاريخ في النزاعات بين الطبقات، إذ أن الطبقات الاجتماعية غير البرهمية، حيث اعتنق الكثير من البرهميين الإسلام، كانوا مرتاحين للثقافة الإسلامية واللغة الفارسية وحتى لاستهلاك اللحوم، التي يجتنبها معظم البرهمميين.

وهكذا كان البانديت الكشميريون الآمنون في ما بينهم ميالين فطرياً إلى التحرر من الأحقاد القومية. وليس مصادفة أن يكون كبير خدم عائلة مولاتيل نهرو مسلماً، وهو المنشئ مبارك علي، الذي تعلّم منه جواهر الكثير.

ترعرع جواهر في بيت فيه كل وسائل الراحة والرفاهية على غرار الإنكليز، من كهرباء وماء ومسبح وملعب تنس واسطبل خيول وأحدث الألعاب. وكانت لديه مربيتان بريطانيتان ومدرسة إيرلندية – فرنسية علمته الشعر الإنكليزي والمبادئ الأساسية للعلوم وغرست فيه حب القراءة. ولما بلغ جواهر الخامسة عشر عاماً أرسله والده إلى بريطانيا ليدرس القانون، حيث درس في مدرسة هارو وهي مدرسة مستقلة للبنين في هارو في الكابيتول هيل وهي المدرسة نفسها التي درس فيها ونستون تشرشل.  

كان تشرشل ينظر إلى الهند باستخفاف في حين أن نهرو ينظر إليها باعتزاز وطني، وذات مرة قال تشرشل إن "الهند ليست بلداً أو أمة.. بل هي مجرد تعبير جغرافي وأنها لا تعبّر عن بلد واحد أكثر مما يعبّر خط الاستواء". وجهة نظر تشرشل هذه هي التي ستملي على جواهر نهرو "اختراع الهند" ذات يوم. فقد كتب تشرشل "أن وحدة الشعور القائمة في الهند ناجمة تماماً عن الحكم البريطاني المركزي، كما يعبّر عنه باللغة المشتركة الوحيدة للهند – الإنجليزية".  وقد استخدم جواهر، بصفته خريج المدرسة البريطانية الشهيرة التي تخرّج منها تشرشل، ذلك التعليم واللغة الإنجليزية لإكمال ما وصفه بـ"اكتشاف الهند" وتأكيد حقها في الاستقلال عن حكومة تشرشل.

شهدت السياسة الوطنية الهندية خلال سنوات دراسة نهرو في مدرسة هارو تغيّرات جذرية مع نشوب الاحتجاجات الجماهيرية ضد القرار البريطاني بتقسيم ولاية البنغال عام 1905. وأبدى جواهر اهتماماً كبيراً بالتطورات السياسية في الهند، حيث كان والده، عضو حزب المؤتمر الوطني الهندي، يرسل له أهم أخبار الصحف ونشاطات الحركة الوطنية التي دعت الهنود إلى مقاطعة السلع البريطانية، وواقع الانقسام الداخلي في المؤتمر بين المتطرفين والمعتدلين، والاستسلام البريطاني النهائي في قضية تقسيم البنغال الذي ألغي بسبب الضغوط الشعبية.

بدأت النزعة الراديكالية لدى جواهر تظهر منذ وصوله إلى إنكلترا وكانت أنباء انتصار البحرية اليابانية على روسيا في تسوشيما عام 1905 قد أثارت في نفسه نشوة إدراك أن أمة آسيوية تستطيع إلحاق الهزيمة بقوة أوروبية عظمى. كما تأثر بزيارة إلى ايرلندا بدعوة حركة شين فين ضد الإنكليز.

في تشرين الأول - أكتوبر 1907 التحق جواهر في كلية ترينيتي في جامعة كمبردج حيث درس الكيمياء وعلم طبقات الأرض والفيزياء ثم استبدل الفيزياء بعلم النبات لاحقاً. وانتقل إلى لندن حيث درس في كلية لندن للاقتصاد حيث يفترض أنه تشرب شيئاً من الاشتراكية التي ساعدت في تكوين آرائه عن العالم.

عاد جواهر إلى بلاده وهو في سن الـ22 عاماً بعد أن أتم دراسته وطاف في دول أوروبا مما زاد من أتساع أفقه، ولكنه أصبح بعيداً عن الثقافتين الشعبية والدينية الهندية. في عام 1912 تأهل نهرو لممارسة القانون بعد نجاحه في امتحان المحاماة. لكنه لم يستطع اجتياز امتحان الخدمة المدنية الهندية مما جعله يتجه إلى العمل في المحاماة والسياسة بدل الإدارة.

عمل جواهر في مكتب أبيه كمحام وتقاضى راتباً كبيراً وكان يجتهد في القضايا الموكلة إليه. لكنه لم يكن ناجحاً جداً بسسب اهتمامه الفاتر بالقانون حيث كانت أغلب القضايا التي أسندت إليه ضعيفة وتافهة ومملة.

بعد زواجه عام 1916 من فتاة تصغرة بعشرة أعوام بتدبير من أبيه، انضم جواهر إلى العمل السياسي حيث التحق برابطة من روابط المتطرفين الذين انشقوا عن "المؤتمر الوطني" كانت تتزعمها آني بيست التي علّمته مذهب الحكمة الإلهية حين كان فتى وقد دافع عن بيست بعدما حاكمها الإنكليز بموجب قانون الصحافة.

وفي العام نفسه، حضر ووالده "مؤتمر لكنو" حيث تم التوصل إلى ميثاق هندوسي – إسلامي بين حزب "المؤتمر الوطني الهندي" و"الرابطة الإسلامية" التي تم تأسيسها عام 1905 من أجل دفع مصالح المسلمين إلى الأمام، مع أن عدداً كبيراً من أعضاء "المؤتمر" البارزين، بمن فيهم ثلاثة من رؤساء الحزب، كانوا مسلمين.

وقد برز أبوه كشخصية رئيسة في الحزب، حيث سمّاه المؤتمر، مع محامٍ مسلم شاب ألمعي يدعى نجاح محمد علي، لصياغة المبادئ التي ستحكم التعاون مع "الرابطة الإسلامية". وكان عملهما الذي ضمن حقوق الأقليات أساس ميثاق مؤتمر لكنو.

وكان عام 1916 عاماً رئيسياً للحركة الوطنية حيث جرت وحدة الحزب بعد عودة المتطرفين، وسدت الفجوة بين المؤتمر والرابطة الإسلامية. وأعلن نجاح محمد علي أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، "يجب أن تمنح الهند حقها الطبيعي كعضو حر، وكمسؤولة ومتساوية في الإمبراطورية البريطانية". ولو أظهر البريطانيون الحكمة وقبلوا هذا المطلب، لبرز محمد علي كرئيس لوزراء الدومنيون الهندي داخل الإمبراطورية في عام 1918، ولربما تأخر كثيراً استقلال الهند الكامل عن الحكم البريطاني، ولما حدثت المناوشات بين الهندوس والمسلمين التي أدت إلى تقسيم البلاد، وربما اتخذت الحياة السياسية لجواهر لال نهرو مساراً مختلفاً. لكن بريطانيا الاستعمارية رفضت استيعاب طموحات رعاياها الهنود وردت على الوطنية المعتدلة بإصلاحات فاترة لم يقبلها المعتدلون ولجأت إلى أسلوب القمع المألوف.

بعد عودته إلى الهند لم يحب جواهر العمل المهني واتجه إلى السياسة وأعجب بالمهاتما غاندي وتتلمذ على يديه سياسياً ودينياً وأصبح مواظباً على أداء اليوغا وقراءة الكتب الهندوسية المقدسة، فنبذ الملابس الأوروبية وارتدى الملابس الهندية وأقنع والده وبقية عائلته بذلك، رغم أن والده كان من المعارضين لغاندي ويرى أن استقلال بلاده يمكن أن يكون استقلالاً جزئياً.

تميز جواهر بتبني أفكار الاشتراكية والعدالة ولم يكن متعصباً للديانية الهندوسية، وأسهم في إدخال الكهرباء إلى الكثير من مناطق الهند المحرومة. كما أدخل الطاقة النووية إلى الهند وشجّع الصناعة الثقيلة وكذلك الصناعات المنزلية حتى يطوّر الريف الهندي. كما ضمن الحريات والحقوق الاجتماعية للمرأة وأسس مع الرؤساء جمال عبد الناصر وسوكارنو وتيتو حركة عدم الانحياز.

رفع نهرو من شأن الهند عندما حصلت الهند على استقلالها في 15 آب - أغسطس 1947،  وهو أحد زعماء حركة الاستقلال، وأول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، وشغل المنصب من 15 آب - أغسطس 1947 حتى وفاته في 27 أيار - مايو 1964. كما شغل منصب وزير الخارجية والمالية، وهو أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز العالمية عام 1961.

كما أسس نهرو العديد من المنشأت العلمية الطبية والتقنية.

أنجب جواهر ابنة واحدة هي أنديرا غاندي التي أصبحت لاحقاً رئيسة للوزراء وأصبح إبنها راجيف غاندي من زوجها فيروز غاندي أيضاً رئيساً لوزراء الهند.

كان نهرو كاتباً غزيراً باللغة الإنكليزية وكتب عدداً من الكتب، مثل "اكتشاف الهند" و"لمحات من تاريخ العالم"، و"نحو الحرية".