"وصايا" عادل عصمت: رسالة مفعمة بالشجن
الرواية تنتمي إلى أدب الأجيال، وهو الأدب الذي تنتمي إليه روائع عربية خالدة مثل "ثلاثية" نجيب محفوظ، وخماسية "مدن الملح" لعبد الرحمن المنيف، وروائع عالمية مثل "مئة عام من العزلة".
وصايا عادل عصمت، رسالة مفعمة بالشجن
أطل علينا الأديب الكبير عادل عصمت أخيراً بروايته الجديدة "الوصايا" الصادرة عن دار الكتب خان للنشر والتوزيع في مصر. عصمت هو روائي مصري من مواليد محافظة الغربية عام 1959. تخرج في كلية الآداب - جامعة عين شمس - قسم الفلسفة عام 1984. وحصل على ليسانس المكتبات من جامعة طنطا عام 1996. حاز عصمت على عدد من الجوائز الأدبية الهامة مثل جائزة الدولة التشجيعية في الرواية عام 2011 عن روايته "أيام النوافذ الزرقاء"، وجائزة نجيب محفوظ للأدب المقدمة من الجامعة الأميركية في القاهرة عام 2016 عن رواية "حكايات يوسف تادرس"، والتي تُرجمت مؤخرًا إلى اللغة الإنجليزية.
بين أفراد عائلة سليم
يقول عادل عصمت إن رواية "الوصايا" هي العمل الذي ظل ثلاثين سنة يحلم بكتابته، وأنه يعدها عمله الأهم والأكبر على الإطلاق. الرواية تنتمي إلى أدب الأجيال، وهو الأدب الذي تنتمي إليه روائع عربية خالدة مثل "ثلاثية" نجيب محفوظ، وخماسية "مدن الملح" لعبد الرحمن المنيف، وروائع عالمية مثل "مئة عام من العزلة". فرواية "الوصايا" تتبع عائلة سليم وأجيالها بداية من عشرينات القرن الماضي، مرورًا بمراحل الملكية وثورة يوليو وعبد الناصر والسادات والنكسة وحرب أكتوبر، كأن "الوصايا" ليست انعكاسًا فقط لهذا الجزء الصغير من الريف الذي تدور فيه أحداث الرواية، بل انعكاسًا لتاريخ مصر في عصرها الحديث بكل ما مرت فيه من تقلبات.
تدور أحداث الرواية في تلك الفترة الزمنية الطويلة، ولكنها ليست رواية خطية، بل تدور في دوائر، أحيانا يتبع السرد شخصًا، وأحيانًا أخرى يتبع حدثًا، ولكنها في إطار الوصايا العشر التي يوصي بها الجد عبد الرحمن إلى حفيده الذي لا يناديه الجد سوى بالولد الساقط ولا نعرف اسمه طيلة الرواية. وكأن الكاتب يجعل الحفيد مرآة للقارئ، كما جعله مرآة للجد ذاته كما قال على لسان الحفيد ص16: "ذلك الرجل الذي حبسني في غرفته في يوم من ديسمبر حتى خُيّل إليّ أنه صورتي وأنا صورته".
الراوي في معظم الرواية هو راوٍ عليم، إلا في الفصل الأول والفصل الأخير، وبعض المشاهد القليلة، حين يصير الحفيد هو الراوي من منظور الشخص الأول. ومن خلال تلك الوصايا ينقلنا الجد إلى أزمانٍ متعددة، لنرى وجوهًا وأحداثٍ مختلفة، بدءاً من ضياع أرض العائلة، ومحاولة استعادتها، وتبدل الأحوال والمصائر، فنصحب أجيال عائلة سليم عبر رحلتهم، ونشاركهم مسرتهم وتعاستهم.
والجميل في "الوصايا" أن الكاتب لم يقدم الشخصيات النمطية "الإكليشية" التي يلجأ لها الكُتّاب عادةً عند حديثهم عن الريف المصري أو صعيد مصر، بل قدم شخصيات أصيلة، لها ملامحها النفسية المميزة ودوافعها الخاصة، مثل الشيخ عبد الرحمن ونور الدين وعلي سليم والسيدة خديجة والسيدة كوثر ونبية وصالح ونعيم والقائمة طويلة. وقد أعجبني حقًا التعبير المكتوب على ظهر الغلاف. ولا أجد أفضل منه للتعبير عما يجول بخاطري وأنا أقرأ عن هذه الشخصيات: "للحظات يتصور القارئ نفسه وسط عائلة حقيقية من لحمٍ ودم، يجلس في صحن الدار معهم أو على رأس أرض النخل، يسوق البهائم أو يعلن تذمره من أجل الزواج، يرى الشيخ ويراه، وتأسره النظرات ذاتها والصوت العميق ذاته فلا يتمكن من مخالفته".
روح معذبة تهفو للخلاص
أبطال "عادل عصمت" هم دومًا باحثون عن الحقيقة والخلاص، مثل يوسف تادرس في حكايات يوسف تادرس، وريم في حالات ريم. ورواية "الوصايا" لا تخلو من التيمة ذاتها، فأبطال الرواية حيرى، باحثون عن الخلاص، في ذواتهم، أو بالهرب منها. فالشيخ "عبد الرحمن" يلجأ إلى كتاب تفسير الأحلام، بينما ابنه صالح يهرب من ذاته، ومن عائلته، حتى ينتهي به الأمر إلى ترك مصر كلها، ويوصي في وصيته بدفنه في مدافن أخرى غير مدافن العائلة. كأن الكاتب يقول إنه قد حمل مخاوفه معه إلى العالم الآخر، فهناك من يئد تلك المخاوف والتساؤلات في أعماقه لكيلا تطفو على السطح مثل علي سليم فيدفعه هذا الكبت إلى الثورة والغضب. يقول الكاتب واصفًا ما يجول في نفسه ص117: "الأفكار باهتة تتحرك كسحب في الأعماق. تفعل فعلها في الداخل، بعيدًا، كما تفعل ظلمات الأرض في البذور. تدفع إلى السطح أبخرة من الغضب".
أبطال روايات "عادل عصمت" هم انعكاس لروحه الشفافة القلقة، فعيناه تنظر واحدة إلى الماضي بحزن وأخرى إلى المستقبل بخوف، وما بين الماضي والمستقبل يبحث الكاتب من خلال شخصياته عن الخلاص. فالرواية ليست مجرد سرد، بل هي طرح لأحجيات نفسية وفلسفية من خلال تيمة الأرض الضائعة. ولا يقدم "عادل عصمت" الإجابة للقارئ، بل يترك هذه المهمة له كي يُعمل فيها عقله، وحتى الشيخ يقول في أيامه الأخيرة ص213: "في نهاية الرحلة تبدو حياتي مثل السديم، ضباب معتم غير متشكل، ضباب خفيف بلا ملامح تظهر فيه آثار الحياة، بقع خافتة من الضوء".
حتى الوصايا العشر نفسها يقر الحفيد أنه لم يتمكن من أي منها، ولم يصل حتى إلى فهم بعضها، مهما حاول بلا جدوى، وحيرة الحفيد هي ذاتها حيرة الكاتب الذي قال عن نفسه: "هناك حيرتي من فكرة الزوال وهي أصل فكرة الزمن، كل ما يحدث يمر بعيداً. إلى أين يرحل؟ وهل من سبيل إلى استعادته؟". ويمكن تلخيص فكرة رواية "الوصايا" في هذه العبارة البديعة وحدها.
خصوصية المكان لدى عادل عصمت
كما قلت في مراجعتي لرواية "حالات ريم" للكاتب عادل عصمت إنه "من الملامح المميزة لكتابات عادل عصمت هو أنه يجيد رسم عالمه كما يجيد رسم شخصياته، وهو يجيد رسم المكان كأنك هناك؛ الشوارع، الأشجار، رائحة الهواء، فهو يهتم بكل تفصيلة صغيرة بشكل لا يجعلك تشعر بالملل؛ بل يجعلك ترى العالم من زوايا ومرايا مختلفة. فالكاتب ينظر إلى الأماكن بعين رسام يقتبس روح المكان وينقله إلى القارئ كلوحةٍ مرسومة، ولكنها لوحة نابضة بالحياة يستطيع القارئ التفاعل معه."
وهذا الملمح المميّز هو ما مكّنه من نقل الريف المصري إلى القارئ، فيشعر أنه يعيش فيه ويراه بعينه ويتنفس هواءه. فكتابات عادل عصمت لها خصوصية مصرية، كخصوصية نجيب محفوظ في نقل الحارة المصرية في أعماله الخالدة مثل "الحرافيش" و"الثلاثية" وغيرهما. وعصمت مولع بالحديث عن "المكان" وخصوصاً مدينته طنطا وما حولها، وقد أفرد لها كتاباً خصصه لذلك وهو كتاب "ناس وأماكن" الذي يحتوي على مقالات عن المقاهي التي اندثرت، وعن دور السينما وتقاليد الحياة في السبعينيات من القرن العشرين في مدينة صغيرة من مدن مصر.
وقال الكاتب إنه كان يسير مع ابنه ذات مرة في مدينة طنطا فراح يقول له "هنا كان مقهى كذا، وهنا كان مقهى كذا". ثم أضاف قائلًا له "إن هذه الأماكن لم يعد لها وجود إلا في كتاب أبيك".
وعن خصوصية المكان يقول الكاتب في إحدى الحوارات معه: إن "الأماكن لها روح مثل البشر، وعلينا أن ننتبه إلى أن خصوصية المكان وتقاليد أهله سوف تقرّبنا من الخبرة الأساسية في حياتنا".
ومن أمثلة براعة عصمت في رسم عالمه وأماكنه النابضة بالحياة وبراعة تصويرها ما كتبه ص25: "حارة ضيقة، تقود إليها درجات سلم حجري. يخطو "نور الدين" بتمهل. يبسمل ويشق طريقه على ضوء فانوس معلق أمام باب خشبي. محلات مغلقة الأبواب، بأعمدة مائلة من الحديد. كلب رفع رأسه ونبح بكسل، ثم عاد ليرقد من جديد أمام باب مفتوح يشع منه ضوء أصفر باهت."
وأيضًا في ص27: "الشوارع خالية. قطط تعبر مسرعة من جانب إلى آخر، مثل أشباح تتخفى. نباح كلب بعيد. شارع الخان هاجع. المحال مغلقة. كل شيء نائم. الحارات ضيقة مثل أخاديد مظلمة."
هذه اللوحات النابضة بالحياة التي يرسمها عادل عصمت تجعل القارئ يتعلق بالأماكن المذكورة في الرواية، وتخلق حالة من "النوستالجيا" إلى أماكن وأحداث لم نعايشها بأنفسنا. هذه الحالة التي جعلت مشهد هدم الدار هو أكثر مشهد مؤثر ومؤلم بالنسبة لي في رواية لا تخلو من مشاهد الموت وفراق الأحباب. وقد أجاد الكاتب التعبير عنها ببراعة بقوله ص189: "لم يكن أحد يتخيل أن الأبواب والنوافذ والحيطان وساحات الدار وأركانها لها هذا الثقل العاطفي... الجدران والأبواب والنوافذ والسلالم والعتب وكوات النور، والفرن وغرفة المعاش وخزانة اللبن وعشة الفراخ، وزريبة البهائم لم تكن مجرد إناء يعيشون فيه بل كيان غامض لم يكتشفوه إلا في تلك الأيام. الكيان غير المرئي لهذا الشيء المسمّى "الدار" يكشف عن بعض معناه عندما يرحل عنه المرء، ولكنه يعطي كامل معناه في أثناء الهدم، فهذا البيت الذي عاشوا فيه قد رحل عنهم بشكل نهائي."