صانعو الفكر الاستراتيجي العالمي

كانت ظاهرة الردع من أهم مظاهر الاستراتيجيات الدولية في مرحلة الحرب الباردة وهي التهديد باستخدام القوة من دون المباشرة باستخدامها من أجل منع الطرف المقابل من تهديد مصالح الدولة أو تغيير سلوكها الاستراتيجي

الفكر الاستراتيجي العالمي يعبّر عن طبيعة الأسس والمبادئ العسكرية التي اتخذها القادة كوسيلة لتحقيق الأهداف العليا

لا تزال الدراسات الاستراتيجية وخصوصاً على المستوى العربي تحاول أن تجد لها طريقاً يمكّنها من الوصول إلى ما وصلت إليه الدراسات الغربية في هذا الجانب، إذ أن التأثر بالمقاربات النظرية والمداخل المختلفة للاستراتيجيات وكيفية تأثيرها على سلوك الدولة الداخلي أو الخارجي كان له أثر مهم في تطوير المداخل النظرية لدراسة الاستراتيجية.

والاستراتيجية هي الأطر النظرية التي تمكن الدولة من التفوق وتحقيق الأهداف، ومن ثم فإن دراسة الفكر الاستراتيجي تفترض أن تتعامل مع الطريقة التي يتعامل بها القادة من أجل بلوغ الأهداف الكبيرة التي يسعون إلى تحقيقها. هذه الفكرة يتحدث عنها الباحث علي فارس حميد في كتاب صدر حديثاً عن دار الرافدين للنشر والتوزيع تحت عنوان "صانعو الاستراتيجيات مدخل لدراسة الفكر الاستراتيجي العالمي".

 

ماهية الفكر الاستراتيجي

يربط حميد بين دراسة النظريات الاستراتيجية ومناهج التفكير الاستراتيجي وبين التراكم المعرفي الذي ساعد صانعي القرار على فهم المصالح الحيوية التي يندفعون باتجاه تحقيقها ومن خلال مدهم بالخيارات التي يمكن اعتمادها لتجاوز التحديات والتهديدات.

ويرى حميد أن مضمون التطور الفلسفي لمفهوم الاستراتيجية يعود إلى المراحل البعيدة من التاريخ، التي انطوت على تفكير الفلاسفة والمفكرين بكيفية تحقيق الانتصارات في المعارك التي يقودها ملوكهم، وهي تعود إلى الفكر الإغريقي والذي عرف الاستراتيجية بأنها خطة القائد. إذ ساد مفهوم الاستراتيجية السمة العسكرية في تحديد المفهوم والأبعاد، ومن أبرز ما يعبّر عن ذلك التعريف الذي أورده كلاوز فيتز والذي عرّفها بأنها "استخدام الإشتباك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب".

ويشير الباحث إلى أن مراجعة أدبيات الفكر الاستراتيجي العالمي تجلعنا نعتبره محوراً لهذه الحقبة يعبّر عن طبيعة الأسس والمبادئ العسكرية التي اتخذها القادة كوسيلة لتحقيق الأهداف العليا.

وينبّه الكاتب بوضوح إلى أن معظم الكتابات التي تناولت مفهوم الاستراتيجية لا تميّز بين استراتيجية الأمن القومي والاستراتيجية الكبرى كما يصفها البعض في الأدبيات الاستراتيجية، حيث تقترب دلالة كلا المفهومين من بعضهما ولاسيّما من حيث النظر إلى الغايات التي ترتبط بكليهما خصوصاً فيما يتعلق بضمان الأهداف، إذ يرى "كريستوفر لاين" أن الاستراتيجية الكبرى هي العملية التي تقوم بها الدولة من أجل المطابقة بين الغايات والوسائل سعياً إلى تحقيق الأمن. فهي تسعى إلى تحقيق المصالح الأمنية وتحديد التهديدات التي تتعرض لتلك المصالح وتخصيص الموارد الأساسية لتحقيقها".

وفي رأي حميد فإن الاستراتيجية تجمع ما بين العلم والفن فهو فن وفقاً لاعتبارات تتعلق بنمطية التفكير من خلال اعتبارها ساحة للعبقريات النادرة والتي من خلالها يتوصل القادة بفعل جملة من الوسائل، من بينها التنبؤ والاستشراف، إلى حلول عظيمة لقضايا معقدة في السياسة الخارجية والحرب.

وإن استطرد الباحث في البحث النظري لماهية الفكر الاستراتيجي، إلا أنه أوضح أن المنهجية التي يتعامل معها المختصون في دراسة الفكر الاستراتيجي ترتبط بالأهداف الكبيرة، فهي تمثّل الأصل في التعامل. أما الأهداف الأخرى فهي لا تعد كذلك وإن كانت تعني بالنسبة للدولة ذاتها.

 

الفكر الاستراتيجي عند ميكافيلي

يعتبر البعض أن ميكافيلي هو نقطة البداية للفكر الاستراتيجي الحديث، نتيجة لإسهاماته الفكرية في إيجاد تحولات جذرية مهمة في جوانب متعددة. فلا بد من أن يقوم من يقبض على السلطة باستخدام جميع الوسائل من أجل تحقيق أهداف الدولة والارتقاء بها. ولذلك فإن ميكافيلي برّر الوسيلة لتحقيق الغاية التي تمثل هدفاً استراتيجياً وطلباً ضرورياً لبناء الدولة.

لقد حدد ميكافيلي ضعف الدولة من جميع الجوانب، فقد تعامل وفق مبدأ تشخيص نقاط الضعف ومحاولة تجاوزها من قبل الحاكم، إذ كانت الدولة الإيطالية ضعيفة جداً وهذا ما استدعى من ميكافيلي البحث عن إصلاحات ضرورية من أجل أن تستعيد إيطاليا قوتها ونفوذها الاستراتيجي. كما أكد ميكافيلي على ما يسمّى في الفكر الاستراتيجي بحرب الأمة مشدداً من خلالها على مستوى الترابط بين الأمة والحرب.

ويقول مسكايا في "كتاب الاستراتيجية الإقليمية والدولية" أن ميكافيلي هو أول من عكس التقدم الذي حدث في المجتمع الاقطاعي في العصور الوسطى، إذ جاءت أفكاره حول الحرب تعبيراً عن التطور البورجوازي الذي ساد أوروبا، فكانت بداية التفكير الاستراتيجي المعاصر فيما يتعلق بمسائل الحروب الحديثة.

وقد ركز ميكافيلي في مجال تمكين الدولة وتعزيز قدرتها على المواجهة على جملة من المعطيات في مقدمتها:

  • الأخلاق لا تمثّل شيئاً بالنسبة لمصالح الدولة، فالدين والأخلاق هما وسيلة لكسب الشعب فقط.
  • على القائد أو صانع القرار عدم التردد في استخدام القوة عندما تقتضي الضرورة استخدامها.
  • على الدولة أن لا تعتمد على المرتزقة في دخول الحرب، إنما يجب أن يكون لها جيش وطني قادر على الدفاع عنها.
  • على الحاكم أن يسعى إلى تحقيق العدالة الاقتصادية وتوزيع الدخل بشكل عادل.

 

الفكر الاستراتيجي عند نابليون بونابرت:

يتطرق الكاتب إلى الفكر الاستراتيجي عند نابليون بونابرت، فيشير إلى أن حروب نابليون تشكل أحد المرتكزات المهمة في الفكر الاستراتيجي الحديث، خصوصاً في إطار الأهداف الكبيرة التي كان يحملها بونابرت، والتي كان يسعى إلى توسيعها من خلال اللجوء إلى الحرب كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف وبناء الإمبراطورية الفرنسية. وقد اعتمد على عاملين رئيسين هما:

  • استغلال المشاعر الأوروبية من خلال الترويج لمبادئ المساواة والحرية وتوظيفها في خدمة أهدافه الاستراتيجية. إذ ساعدت الأفكار التي تبناها بونابرت في توفير قواعد شعبية له في معظم دول أوروبا، الأمر الذي ساعده في تحقيق أهدافه العليا.
  • تفتيت الأحلاف التي تهدد الإمبراطورية الفرنسية بالشكل الذي يجعلها قادرة على مواجهة كل دولة على حدة. إذ كان لطبيعة التعامل مع توازنات القوى القائمة في أوروبا دور مهم في قوة نفوذ فرنسا الاستراتيجي اقليميا وعالمياً.

إلى جانب ذلك اعتمد بونابرت على استراتيجية التجنيد العامة وتعبئة كل الأمة للحرب، وتوظيف هذه المعطيات في مجال المناورة. وهنا بدأت الاستراتيجية تؤدي دوراً حاسماً قبل الدخول في الحرب. ومن أبرز ما قام به تحديد الأهداف الوطنية، وإعداد الدولة للحرب، ووضع نظام للتجنيد، ونظام الفرق وتطبيق المناورات العملياتية لتحقيق أهداف استراتيجية.

 

الفكر الاستراتيجي عند هتلر

يتحدث الكاتب عن الفكر الاستراتيجي عند الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر، فيعتبر أنه لا يمكن لأي شخص أن يمر عند هتلر من دون أن يصفه بالعقلية الجبارة التي استطاعت بناء نمط جديد للاستراتيجية العالمية وتمكن من تحقيق أهداف واسعة وكبيرة لا يمكن أن تتجاهلها أي دراسة تحاول أن تبني من الفكر الاستراتيجي موضوعاً لها. ويشير حميد إلى أن هتلر كان يؤمن كما هو الحال بالنسبة إلى القائد الألماني شيلفن بأن استراتيجية الملامسة هي الوحيدة القادرة على تحطيم الخصم.

وتقوم هذه الاستراتيجية على إجهاد العدو بالضربات المستمرة من دون القيام بهجوم كبير والاشتباك معه اشتباكاً عنيفاً. وتعتبر عمليات الحصار من أدوات استراتيجية الملامسة حيث تقوم على عامل الوقت لإجهاد العدو من خلال حرمانه من الموارد التموينية اللازمة لاستمراره.

ويبيّن الكاتب أن هتلر بعد أن وصل إلى السلطة عام 1933 وجد أنه بحاجة إلى سياسة تقوم على عقيدة استراتيجية تؤمن له توحيد ألمانيا وقيادة العالم. وقد قام بإعادة تسليح الجيش الألماني وضم الأقليات الألمانية إلى الرايخ الثالث، فضلاً عن جعل أوروبا الشرقية مجالاً حيوياً لألمانيا.

 

أهمية الموقع الجغرافي

يشدد الكاتب على أهمية الموقع الجغرافي في الدراسات الاستراتيجية، ويشير إلى أن فريدريك راتزل أول من درس وعالج أهمية الموقع في التفكير الاستراتيجي، إذ أكد على وجود قوانين للتوسع الإقليمي، وأن لطبيعة المساحة أثراً مهماً في نشوء الدول الكبيرة. وهذا ما جعله يرى بأن تاريخ العالم ستتحكم فيه الدول الكبيرة المساحة كروسيا في أوراسيا والولايات المتحدة في أميركا الشمالية. ويرى راتزل أن الحدود والتخوم السياسية هي مرآة قوة الدولة أو ضعفها وتختلف الحدود عن التخوم.

ويشير الباحث إلى أن ماكيندر أكد فيما بعد على أهمية ما أسماه قلب الأرض في السيطرة على العالم من خلال معادلته المشهورة التي تضمنت من يحكم شرق أوروبا يسيطر على القلب الأرضي ومن يسيطر على القلب الأرضي يسيطر على جزيرة العالم، بفعل حركة انتقال القوة بين الدول المعاصرة.

كذلك درس سبيكمان باهتمام المداخل النظرية التي قدمها ماكيندر وعلى أثرها تقدم بصياغته لمخطط جيوبوليتيكي أساسي يختلف عن أنموذج ماكيندر، حيث كانت فكرة سبيكمان الأساسية تقوم على أساس أن ماكيندر قد بالغ في تقييم الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة قلب الأرض، وهذه المبالغة لم تتناول فقط التموضع الحيوي للقوى على خارطة العالم.

 

التوسع والمدى الحيوي

يقول كارل هاوسهوفر إن الدولة يجب أن تتوسع وإلا ستموت وبهذا المعنى يعطي هاوسهوفر معياراً مهماً في ضرورة التوسع والتي ترتبط بفكرة المجال الحيوي من حيث المجال التطبيقي.

ويلفت الكاتب إلى أن نهاية الحرب العالمية الثانية أدت على أثر هزيمة دول المحور إلى بروز حالة جديدة في التفاعلات الدولية لم تشهدها العلاقات الدولية في المراحل السابقة. وكان في مقدمة ذلك تحول فاعلية التوازن الدولي من الدول الأوروبية التقليدية التي كانت تسيطر على التفاعلات الدولية إلى نظام القطبية الثنائية، حيث انقسمت القوة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي وتبلورت مرحلة جديدة في العلاقات الدولية. ثم أدى تفكك الاتحاد السوفياتي لاحقاً إلى تبدل جديد في التفاعلات الدولية.

ويشير حميد إلى أن ظاهرة الردع كانت من أهم مظاهر الاستراتيجيات الدولية في مرحلة الحرب الباردة والتي يمكن أن تعرف على أنها التهديد باستخدام القوة من دون المباشرة باستخدامها من أجل منع الطرف المقابل من تهديد مصالح الدولة أو تغيير سلوكها الاستراتيجي بالاتجاه الذي يحقق مصالح حيوية للدولة. وقد أدى تفكك الاتحاد السوفياتي إلى تبدل واضح في مجال العلاقات الدولية، وكان هذا التبدل انطلاقاً من التغيير الاستراتيجي الذي طرأ على البيئة العالمية.

ويتطرق الكاتب إلى مرحلة التفكير الاستراتيجي بعد سقوط جدار برلين، ويقول إن مرحلة سقوط الاتحاد السوفياتي شهدت مناقشات ومناظرات جادة وواسعة ومضطربة حول المصالح القومية الأميركية. ويعود ذلك إلى اضطراب الأوضاع العالمية أنذاك، حيث وُصف الوضع بنهاية التاريخ. وقد أدرك صناع القرار أن طبيعة النظام الدولي الجديد الذي أعلنه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب يختلف عن طبيعة النظام الثنائي القطبي الذي كان قائماً في مرحلة الحرب الباردة.

 

تطور الفكر الاستراتيجي بعد أحداث 11 أيلول

يتطرق الكاتب إلى تطور الفكر الاستراتيجي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول - سبتمبر 2001، حيث أثارت تلك الأحداث جملة من التحولات الواسعة التي لم تقتصر على الجانب المتعلق بنمطية الأداء الاستراتيجي الأميركي فقط، بل شمل ذلك منظومة التفكير الاستراتيجي الأميركي برّمتها، خصوصاً أن مدخلات الصياغة الاستراتيجية لصانع القرار الأميركي بدأت تقترب من رؤيتها في جهة تحديد العدو بصورة عشوائية.

ويرى الكاتب أن التحولات الاستراتيجية الأميركية، تشكل بعد أحداث 11 أيلول - سبتمبر واستجابتها لنمط وطبيعة هذه التحولات، جملة من القضايا في مقدمتها تحول آليات الأداء في الاستراتيجية الأميركية إلى الاستخدام المفرط للقوة العسكرية وإن كانت هذه الممارسات خارج الشرعية الدولية.

وبعد عرض النظريات الأميركية للحديث عن الافتراضات الاستراتيجية المعاصرة، حيث يشير الباحث إلى الهيمنة التي تعد من المداخل النظرية التي أخذت حيزاً كبيراً في أدبيات الدراسات الدولية والاستراتيجية كونها تشكّل مرحلة تفاعل ذات أبعاد معقدة في نمطية العلاقة التي تحكم أدوار القوى الإقليمية والكبرى التي تسعى فيها إلى ممارسة دور يتناسب مع طموحاتها. وتشير الهيمنة إلى الدولة القائدة لمجموعة من الدول، ومن ثم فإنها تفترض العلاقات بين الدول عنصر القيادة ووجود السلطة البنيوية التي تمكّن الدولة المهيمنة من احتلال موقع مركزي داخل نظامها الخاص.

وقد تزايد اهتمام الباحثين ومخططي الاستراتيجيات الأمنية العالمية، ومنهم جون ميرشامير، الذي يرى أن سعي الدولة في ظل النظام الفوضوي نحو زيادة حصتها من القوى العالمية إلى أقصى حد لتشمل السعي إلى تحقيق الهيمنة الذي يؤدي إلى زيادة المنافسة الأمنية.  

ويرى جوزيف ناي أن الهيمنة تشير إلى وجود قوة دولية مسيطرة تكون هي المتفوقة في المصادر المادية وتتوافر لديها القدرة والإدارة اللازمتان في صياغة قواعد التفاعل في النظام الدولي. أما كريسيتوفر لين، فإن الهيمنة عنده تتخذ أشكالاً مختلفة تبدأ بإزالة الأخصام (مثل الإمبراطورية الرومانية) ولا تنتهي بإخضاع الأخصام وهو ما يناقض مفهوم الإقناع الذي يعتبره كوكس عنصراً أساسياً لمفهوم الهيمنة.

بالاضافة إلى كل تلك التعريفات والأطر النظرية، فإن الهيمنة، وفقاً لإطارها العام، تقوم على مبدأ السيطرة الجيوسياسية والذي يعد المدخل الأكثر تناسباً مع منطق الهيمنة عبر تحقيق التفوق. فالقوة الجيوسياسية هي التي يمكن من خلالها تحقيق الهيمنة. فالهيمنة استراتيجية واقعية تسعى إلى إدامة السيطرة الجيوسياسية. ويعني بالتمكين الجيوسياسي المقدرة على ضبط التفاعلات الدولية بحيث تكون الدولة العظمى قادرة على التأثير بتوجيه مصالحها ضمن نطاق التفاعلات المقصودة.

وإلى جانب التمكين الجيوسياسي يمكن فهم الهيمنة أيضاً بالموازن او الدولة الحاملة الميزان. فيعتبر جون مير شايمر أن القوة المهيمنة يجب أن تكون قادرة على ضبط أدوار القوى الإقليمية والدولية بحيث يمكن من ترجيح كفة أحد الادوار على الأخرى.

 

الهيمنة والإمبراطورية

بعد هذه المداخل والافتراضات، يقدم الكاتب مفهموم الهيمنة مع باقي المفاهيم المقاربة، ليبدأ أولاً بالهيمنة والإمبراطورية، والتي يمكننا اختصارها برأي هيرفريد مونكلر. حيث يرى الأخير أن الإمبراطورية تختلف عن الهيمنة من حيث ما يتحدد بينهما من قوانين ومنطق يحكم تصرفاتها وممارستها في بنية النفوذ، فالقوة المهيمنة تمارس النفوذ في إطار مجموعة لاعبين سياسيين متساويين في الحقوق، أما حالة النفوذ في ظل الإمبراطورية فإنها تنهي هذه المساواة.

من ثم يعرج الكاتب على مفهوم الإمبريالية الذي يرتبط يسياسات التوسع الإستعماري على حد تعبير موركنثارو، فالإمبريالية تعني أن ثمة إرادة لخلق الإمبراطورية وهي تشكّل السبب الأساسي وراء تشكيل الإمبراطوريات العالمية. كذلك يعرض الأدبيات والتفسيرات الماركسية لهذا المفهوم، على اعتبارها نتيجة مباشرة لتطور الاحتكار بشكل عام ولتطور الثروة المالية.

وقام الباحث بالتمييز بين مفهومي الهيمنة مع مفهوم القطبية الأحادية حيث عرف الأخير بأنه يعني بنية تكون فيها قدرات دولة واحدة أعظم من أن تقابل بوزن مماثل. وهنا يصبح التمييز واضحاً بينه وبين الهيمنة. ففي حالة الهيمنة يكون هنالك قدر من التعاون بين القوة العظمى والقوى الكبرى، في حين أن القطبية الأحادية تنقل مركز التأثير في النظام إلى القطب الأحادي الذي تتمركز عنده القوة العالمية.

يعرج حميد إلى توازن القوى والاستراتجيات الدولية المعاصرة فيقسمه إلى بسيط وآخر معقد أو مركب. وهنا يتناول المعضلة الأمنية وتحديات توازن القوى والتي تنشأ من حالة الفوضى التي تجد الدول أنفسها فيها كنتيجة لمساعي الدول في زيادة أمنها القومي فتزيد قدراتها العسكرية. وعليه تنشأ حلقة مفرغة من غياب الأمن لا حل لها سوى زيادة القوة عند مختلف الدول.

إن الهيمنة تعني انتفاء التوازن بين القوى الدولية، وعليه وتحت عنوان الهيمنة وتوازن القوى والاستراتيجيات المعاصرة، يستند الكاتب إلى مصطلح التمكين الجيوسياسي الذي تفرضه الهيمنة بحيث عى الدولة المهيمنة أن تلعب درو الدولة الحاملة الميزان. لهذا الغرض فإن التوازن الفرعي يصبح محافظاً على وضع الهيمنة كشكل للنظام العالمي كما هو الحال بالنسبة لإيران وتركيا أو الصين واليابان. ويذكر الكاتب نماذج عدة لـ"الأداء الاستراتجي مع السلوك التوازني" فهناك القيادة من الخلف والتوازن من الخارج.  

وتناول الكاتب بعد ذلك كمثال، الكيفية التي تتعامل فيها الولايات المتحدة الأميركية مع القوى الكبرى، للحفاظ على تمركزها الجيوسياسي، وهذا ما جاء تحت عنوان "إدارة التغيير ومتطلبات القوة العظمى وفق خيارات الهيمنة". وتطرق إلى التغيير الداخلي والذي يقترن بعدم قدرة النظام على توفير احتياجات الدولة من القوة أو المصالح. وهنا ربط بين التغيير والأمن في التفكير الاستراتيجي، وبين القوة والتأثير في الأداء الاستراتيجي.

في ختام الكتاب، جاء الفصل الأخير ليشرح الأطر النظرية في دراسة الاستراتيجية من حيث المداخل والافتراضات. فتناول الاستراتيجية كوثيقة تطرحها الدول للأمن القومي، وكمنهج عمل تتبعها الدول في مسارها والتي تكون ذات طابع تفصيلي تعمل على تحديد الوسائل لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. من ثم ذهب لتناول الأداء الاستراتيجي ومكوّناته، من ثم عرج على كل من التفكير، والتحليل والتخطيط الاستراتيجي.

وفي خاتمة الكتاب، اعتبر الكاتب أن المكتبة العربية بحاجة إلى جهود كبيرة من أجل مواكبة التطور في الدراسات الاستراتيجية.

لقد حاول الكاتب أن يكون شاملاً في دراسته التي قدمها عن مفهوم الاستراتيجية والفكر الاستراتيجي من الناحية العسكرية، ولكن يؤخذ على ما قدمه أنه أغفل العوامل الأخرى التي تؤثر في الاستراتيجية والخطط الاستراتيجية، وهي العوامل الاقتصادية والعلمية من حيث قدرات الدولة وكذلك العوامل البشرية والإجتماعية والإعلامية. هذا فضلاً عن أنه أسقط ما توصل إليه العلم الحديث من ضم قطاعات جديدة للحديث عن المفهوم الاستراتيجي وهي تتعلق بحقول علمية غير عسكرية لأن مفهوم الاستراتيجية وفق دراسات حديثة لم يعد يقتصر على الخطط العسكرية والأمنية فقط.