"كنت في الرقة": قصة تونسي هارب من "داعش"
كتاب "كنت في الرقة – هارب من الدولة الإسلامية" للكاتب التونسي هادي يحمد هو ثمرة لقاء غريب بين يحمد وأحد مقاتلي "داعش" التونسيين الذي فرّ إلى تركيا. مأتى الغرابة ليس في الرواية المشوقة، ولا في أهمية وقوة تفاصيلها فحسب، ولكن في أن يرويها فاعلها وهو شاب عاش ضمن "داعش".
هذه الشهادة التي يرويها الكتاب الصادر عن "مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" ليست شهادة أسير، إنها شهادة حرة، من محمد الفاهم الذي كان مقاتلاً في "داعش".
يقول يحمد إن إصدار كتابه جاء إثر الأعمال الإرهابية والقتل الأعمى التي شهدها العالم طول السنوات الخمس الأخيرة تحت عنوان "نصرة الدولة الإسلامية".
عاش العالم منذ صعود أبي بكر البغدادي على منبر الجامع الكبير في الموصل وإعلان خلافته (2014) مرحلة دموية: مذبحة سبايكر في العراق (حزيران - يونيو 2014)، وبعدها مجزرة مطار الطبقة في سوريا في آب - أغسطس 2014، ومجزرة نزل الإمبريال في مدينة سوسة التونسية في حزيران - يونيو 2015، ومجزرة باريس في تشرين الثاني - نوفمبر 2015، ومجزرة مدينة أورلندو في الولايات المتحدة الأميركية في حزيران - يونيو 2016 ومجزرة اسطنبول في 31 كانون الأول - ديسمبر 2016 في ليلة رأس السنة.
يقول الكاتب إنه لم تعد الإدانة لداعش كافية لفهم ما يجري، بل يجب أن نفهم طريقة تفكير هؤلاء وما هي حوافزهم؟
ومن المحاولات القليلة التي تمكنت من استنطاق افراد من داخل داعش عام 2014 شريطان مصوران: الأول للصحافي الألماني يورغن تودنهوفر الذي زار الموصل والثاني للمصور للفلسطيني البريطاني مدين ديرية، إضافة إلى كتاب "العائدون" للصحافي الفرنسي دافيد تومسون الذي حاور فيه مجموعة من العائدين الفرنسيين من "داعش" الذين يخضعون للمراقبة الأمنية حالياً في فرنسا .
يوضح يحمد أنه عندما عثر على شهادة كاملة من "داعش" تغيرت منهجية بحثه. فقد بدأ في تأليف هذا الكتاب متخذاً من هذه الشهادة عموداً فقرياً لكله: "داعش" فكره ورعبه وجاذبيته ووعوده وإحباطاته من رحلة أحد مقاتليه.
يقول يحمد إن منهجية كتابه هذا قد اختلفت عن منهجية كتابه السابق "تحت راية العقاب"، ففي الثاني بحث عن المشترك بين ذوات مختلفة وروى قصصاً عدة لـ"جهاديين" من مختلف الطبقات الاجتماعية. أما في الكتاب الجديد فنحن إزاء "بورتريه" واحد لشخصية محورية تحكي لنا حياتها كاملة وتحاول الإجابة عن أسئلة محورية هي: كيف صنع "داعش" داخل هذه الشخصية؟ لماذا ذهب هذا الشاب التونسي الى "داعش"؟ ولماذا خرج منه؟ وما فعله في هذه "الدولة"؟
يروي الإرهابي التونسي محمد الفاهم في هذا الكتاب تفاصيل حياته في الرقة وفي مدن سورية وعراقية أخرى ومسار هجرته السرية من تونس، مروراً باسطنبول ووصولاً الى تل أبيض في سوريا. ويحدثنا عن العلاقات بين المقاتلين وحياة المهاجرين وتطبيق الحدود وعن الهرمية التنظيمية وأمراء "داعش" وجنوده والدواوين والحروب والغزوات التي خاضها.
يقول الفاهم إن الوصول الى الشام كان حلمه والدخول الى "أراضي الدولة" (دولة داعش) قمة النشوة. فإعلان تأسيس الدولة في غرة رمضان من عام 2014 كان نقطة فارقة في حياتي. وأضاف أنه "وسط الحملة الأمنية على "التيار الجهادي" في تونس أصبح التمكن من مغادرة البلاد والوصول الى اسطنبول نجاحاً فعلياً في الوصول الى "الدولة الإسلامية". فكل أصحابي الذين سبقوني إلى الهجرة يرددون "الوصول الى اسطنبول يعني الوصول الى الرقة".
وصل الفاهم الى اسطنبول قادماً من مطار معيتيقة في العاصمة الليبية طرابلس عبر الخطوط الليبية في عام 2014. نزلت بهم الطائرة في مطار اتاتورك. اعترضه شرطي تركي يقوم بمراقبة جوازات القادمين. نظر الى صورته في الجواز، وأمعن النظر فيها وسأله بابتسامة ساخرة: تونسي؟ فأجابه: نعم.
يوضح الفاهم أن العلاقة بين تنظيم "داعش" والسلطات التركية كانت جيدة في ذلك الوقت إذ تكررت الأحداث التي تثبت متانة هذه العلاقة. ويقول إنه كان في الرقة حينما تم نقل قبر سليمان شاه في شباط فبراير 2015 الى الأراضي التركية من قبل الجيش التركي من الأراضي التي تسيطر عليها داعش. كان ذلك دليلاً على متانة العلاقة.
ثم جاء دور الانتقال إلى الحدود مع سوريا، وتم ختم جواز سفره من قبل الشرطية التركية بعد أن دققت به وبوجهه. بعدها هاتفه "الأخوة" في سوريا عبر رقم مشفر لا يعرف مصدره، وسألوه إلى أين وصل؟ فقد كانوا على اتصال به قبل ركوبه الطائرة من طرابلس. فأبلغهم بأنه في تركيا وسمع عبر الهاتف تكبيرات وحمدلة وابتهاجاً كبيراً لدخوله اسطنبول وطلبوا منه الاستعداد لدخول الشام .
قبل وصوله الى تركيا كان ابن عمه قد أمده برقم هاتف إمرأة سورية من إدلب مناصرة لداعش ومقيمة في اسطنبول وهاتفها فور وصوله الى أحد الفنادق عبر "الواتساب". وبمجرد أن عرفت هويته، طلبت مني المجيء للمبيت عندها وأرسلت له سائقاً حمله الى بيتها .
كانت للمرأة التي يطلق عليها اسم "أم المجاهدين" ثلاث بنات زوجهتن لمقاتلين من "داعش" وثلاثة أبناء صغار أكبرهم في عمر 14 عاماً تقريباً. كان من الواضح أن منزلها أصبح محطة للمقاتلين الأجانب الذين يصلون اسطنبول قبل اتجاههم الى الشام .
بعد أن قضى الفاهم يومين في منزل "أم المجاهدين" وبعد أن اخذ جميع وثائق هويته بما فيها جواز سفره، ركب سيارة يقودها السائق نفسه الذي اوصله الى منزلها، فأوصله إلى حي "اكساراي" وسط اسطنبول، حيث كانت في انتظاره مجموعة من "الأخوة"، علم الفاهم فيما بعد أنهم أربعة جزائريين يرافقهم سوري دورهم هو تسفير المهاجرين فور وصولهم اسطنبول الى الحدود السورية، وأن لداعش يملك شبكة متكاملة من الخلايا في هذه المدينة وفي مدن تركية حدودية مع سوريا كانت مهماتها حصراً استقبال المقاتلين والتنسيق مع المهربين على الحدود.
كانت إدارة الحدود في "داعش" تأخذ وثائق المقاتلين المهاجرين من جوازات سفر وبطافات هوية ويأخذون منهم كل شيء تقريباً إلا أمواله التي جاء بها. ثم يعطى لكل مهاجر هوية أخرى، اسم جديد وكنية يختارها.
يقول الفاهم: "خرجنا من اسطنبول ليلاً الى مدينة أورفا الحدودية ومنها الى المضافة التي تقع في منطقة ريفية. بعدها ركبنا سيارة يقودها سائق سوري الى المنطقة الحدودية التي تحت سيطرة لداعش. كان في استقبالنا مهربان تركيان بالكاد ينطقان ببعض الكلمات العربية بلهجة تركية، ومن الواضح أنهما يعملان مع إدارة الحدود التابعة لداعش .أشار لنا المهربان الى أضواء منبعثة من بعيد. وقال احدهما "عندما تصلون هناك، إقرعوا أي بيت يواجهكم وأخبروهم أنكم مهاجرون. وسيأتي عناصر داعش لاستقبالكم. سرنا ليلاً في اتجاه السياج الحدودي نحمل بعض متاعنا بحقائب صغيرة وأرهقنا تعباً. كنت على بعد أمتار من الوعد الذي سمعته عن ظهر قلب في مساجد تونس "يا طوبى للشام يا طوبى للشام". كثيرة هي فضائل الشام التي سمعت بها وقرأت عنها. أنا على أبوابها".
يضيف الفاهم: "وجدنا أمامنا أسلاكاً شائكة أخرى عبرناها وتأكد لنا أننا دخلنا أراضي داعش. وكانت رغبتنا في الوصول أقوى من كل العقبات. وصلنا في الثالثة ليلاً وطرقنا أول بيت رأيناه فاستقبلنا شابان وهاتفا عناصر حدود داعش ولم يمضِ وقت طويل حتى نقلتنا سيارة فيها مسلحان الى مضافة في منطقة تل أبيض. كان يغمرني شعور بالفخر والفرح وأنا أنظر الى أحد المقاتلين الشباب وهو طليق الشعر ومدجج بالسلاح.. مع انتهاء إجراءات الوصول كتبت على موقعي الاجتماعي على "الفيسبوك" "الحمد لله رب العالمين. الآن تطأ قدماي أرض الخلافة بعد عناء طويل. وفي صبيحة اليوم التالي قام أمير المضافة بالإجراءات الأولية للتعرف علينا وقدمت مجموعة ملثمين. عندما سألت عنهم أمير المضافة أجاب بأنهم أمنيون مهمتهم التحقيق مع كل شخص".
كانت أسئلتهم تدور حول علاقة المهاجر بالتدين وسأل المحقق الأمني الفاهم عن أي صنف من القنتال يفضل، المقاتل أو الانغماسي اي "الانتحالاي" فأجابه دون تردد: "أريد أن أكون مقاتلاً".
خضع الفاهم لدورتين شرعية وعسكرية في الرقة وشارك في معارك تدمر وتل أبيض ومعركة صد فك الحصار عن مطار كويريس الذي كانت تسيطر عليه داعش وقد فشلت محاولات اقتحام "داعش" للمطار أربع مرات بسبب صمود الجيش السوري وقوات النخبة في حزب الله بعد حصار دام عامين.
يقول الفاهم إن كان يرغب في زيارة الموصل وتحقق له ذلك عبر طريق سنجار. وفي مدخل الموصل استقبلتهم لافتة كبيرة كتب عليها "مرحبا بكم في الدولة الإسلامية: ولاية نينوي".
كانت داعش قبل عام من وصوله الموصل وبعد احتلالها منطقة "سنجار" قد قامت بسبي المئات من النساء الإيزيديات، وتوزيعهن على مقاتليها ممن شاركوا في غزوة "سنجار" تحت عنوان الغنائم .
تجربة محمد الفاهم مع داعش وما رآه بعينه من قضية تطبيق الأحكام وقضاء داعش جعلته يراجع نفسه إذ يقول: "نظرتي تغيرت كثيراً حول "الدولة الإسلامية" التي لم تعد كذلك، واكتشفت أن في هذه الدولة تكفيراً متبادلاً بين تيارين: "البنعلية" نسية الى شرعي داعش الأول البحريني تركي البنعلي، وشيخ آخر سعودي لع اتباع في داعش هو أحمد بن عمر الحازمي، ويطلق على أتباعه "الحازمية". كانت الحازمية فرقة سرية تعدها داعش من الخوارج الذين تستحل دمهم".
وكانت تهمة الشك في معتقدات "داعش" تؤدي الى القتل والصلب بتهمة الردة أو الغلو. وعمليات التصفيات التي كانت تجري ليلاً في مطار كشيش هي التاريخ السري الى ما يحسبونه أنه دولتهم الإسلامية.
يتحدث التونسيون الخارجون على تنظيم داعش أن هناك نحو 500 تونسي تم إعدامهم من قبل "داعش"، وقد يكون هذا الرقم مبالغاً فيه.
يختم مؤلف كتاب "كنت في الرقة" بالقول متوجهاً إلى محمد الفاهم: "لم تكن مجرد قصة لمحارب هرب من داعش، إنها إدانة وتعرية لكل السياق الثقافي الذي صنعك. نعم هنا الرقة لم تكن مجرد مكان. إنها كل النسق ولم تكن داعش مجرد منظمة إرهابية. إنها تلك الثقافة التي تحمل بعض أدرانها في داخلها.. محظوظ أنت لأنك نجوت من هوّتك الرقة. ولكن هل نجوت حقيقة؟.. أكان سبب هروبك بخلاف الحالمين، إنك تحققت من أنك عشت مجرد وهم؟ من يدري؟".