فلسطين في دائرة "الفوضى الخلاقة"
"فلسطين في دائرة الفوضى" هو كتاب للباحث الكويتي عبد الله غلوم الصالح، جاء في وقت تتهافت فيه الدول العربية لإقامة صلح مع إسرائيل، وليقول إنه لا تزال هناك أصوات ترتفع لتذكر بهمجية العدو الصهيوني وكيفية نشأته وتاريخه وجرائمه.
ميزة الكاتب بأنه كويتي وقد تنقل في الكويت في مناصب حكومية عدة، ومؤسس لجمعيات حقوقية عدة، وقد صدر كتابه هذا في وقت تتجه فيه عدد من دول الخليج الى تطبيق اتفاقيات ومعاهدات من أجل التطبيع مع الكيان الصهيوني.
الكتاب هو أصلاً مهدى لأبناء وبنات وشهداء فلسطين، ولكل هؤلاء الذين صمدوا ولا يزالون صامدين دفاعاً عن قضية فلسطين ووقفوا مؤازرين لها من داخل الأراضي المحتلة ومن خارجها.
يبدأ الكتاب بمقطعين لغولدامائير وموشيه يعلون، يذَكر فيهما بمتعة العدو الصهيوني بقتل أعدائه وبتمني الموت لكل فلسطيني.
يتألف الكتاب من سبعة فصول هذا بالإضافة الى مقدمة وخاتمة. كما أن الكتاب يعتمد العديد من المصادر التي يستند اليها في كتابة الأحداث والتقارير والتحليلات. وقال فتحي الراغب، الأمين العام للاتحاد العام لعمال فلسطين (1969- 1984)، إن الكاتب قد رصد تفاصيل دقيقة في كتابه. غير أنه قام بهذا العمل من أجل أن يسجل تطور القضية الفلسطينية في أروقة منظمة العمل الدولية ليسهل على القارئ استخلاص العبر والدروس التي أفرزتها مراحل الكفاح في هذا الميدان. وسنجد حول هذا الموضوع معلومات مفصلة في الكتاب، فمنظمة العمل الدولية الى جانب منظمة العدل الدولية هما جهازان كانا تابعين لعصبة الأمم المتحدة في العام 1919 قبل أن يرتبطا بالأمم المتحدة في العام 1946. كما يبدو أن العمال الفلسطينيين كانوا من النشطاء والفاعلين في الحركة العمالية ويظهر ذلك من خلال نشوء العديد من الروابط والجمعيات واللجان العمالية ما بين الأعوام 1920- 1940.
يبدأ الصالح كتابه بإعطاء لمحة تاريخية عن وعد بلفور وعن المعاهدات التي ترافقت مع وعد بلفور. ما ينقله الكاتب في كتابه، هو بمثابة معلومات يفندها كنصوص كما وردت في المصادر التي أخذت منها. هو بالطبع يعلّق عليها، ولكنه يعود لدعم ما كتبه بالإستناد الى معلومات أولية، أو معلومات أولية نشرت في كتب أخرى تتحدث عن القضية الفلسطينية.
والمقاطع التي يعود اليها في كل مرة لا تقتصر فقط على الأحداث التاريخية ولكنه يعود الى مواقف وكتابات شخصيات عربية وصهيونية من أمثال تيودور هرتزل وحاييم وايزمن (زعيم المنظمة الصهيونية ابان صدور وعد بلفور)، وبن غوريون وغولدا مائير وغيرهم من زعماء الصهيونية والذين مارسوا الإرهاب ضد الفلسطينيين بشكل خاص والعرب بشكل عام. ثم يعود في كل مرة لشرح دور العرب وخيبات الأمل المتتالية والتي تشير ومنذ العام 1916 الى أن الأمة العربية قد شاخت.
ثم ينتقل الى الحديث عن العمال الفلسطينيين وحركة العمال ومعاناتهم من أجل لقمة عيشهم. هذه المعاناة التي يوصفها ابتداء من العام 1919 ويفصل دور الأميركيين (في الصحافة وعلى المستوى الشعبي) في عهد الرئيس الأميركي وود ورد ويلسون وقرارات عصبة الأمم ومواقف أميركية وأوروبية، والتي كانت ترفض إقامة دولة يهودية في فلسطين، بل أنها كانت تتطالب بإقامة دولة ديمقراطية واحدة لكل السكان الذين يقطنون فلسطين.
هذه المواقف التي تغيرت بعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة لنشر قصص المذابح النازية لليهود. ولا ننسى أن ذلك كان متزامناً مع الهجرة اليهودية الكثيفة نحو فلسطين، وخاصة بعد صدور وثيقة الكتاب الأبيض في عهد رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في العام 1939 والتي شهدت أثناءها فلسطين هجرة يهودية مكثفة، وطرد لفلسطينيين من بيوتهم واهمال الشهادات التي تحدثت عن فظائع كل من البريطانيين واليهود في تلك المرحلة.
الحركة العمالية في فلسطين
في بداية القرن العشرين، نشطت الحركة العمالية في فلسطين والتي كانت تطالب بحقوق العمال الفلسطينيين وبضرورة حمايتهم وإيجاد فرص العمل لهم، خصوصاً إبان الإحتلال البريطاني لفلسطين. وابتدأت الثورات العمالية والتي عمل على اجهاضها ليس فقط البريطانيون وإنما أيضاً الحكومات العربية التي تشكلت إبان الإحتلال للوطن العربي، والتي ساهمت في إجهاض الثورات في فلسطين وكانت ذات تأثير سلبي على الحركة النضالية العمالية، حتى باتت في أربعينات القرن الماضي تعاني من التقسيم والتفكك، في مقابل صعود الإتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلي (الهستدروت) وتصدره الدفاع عن حق العامل اليهودي بشكل عام وفي مقابل العامل الفلسطيني بشكل خاص.
يدخل الكتاب بعد ذلك الى علاقة الولايات المتحدة الأميركية بمنظمة العمل الدولية والتهرب منها، ومن منظمة العدل الدولية. ولكي يؤكد الكاتب حجته في شرح ما أقدمت عليه أميركا في محاربة الفلسطينيين من خلال عمالهم، يعود الى وثائق من الأمم المتحدة والى محاضر الجلسات التي شهدتها قاعة الأمم المتحدة في جنيف. وتحديداً في بداية السبعينات التي شهدت محاربة محاولة الفلسطينيين من قبل الأميركيين والبريطانيين من أجل رفض دخول فلسطين كعضو مراقب في منظمة العمل الدولية.
نجحت منظمة التحرير الفلسطينية في العام 2012 في الدخول الى أروقة الأمم المتحدة بوصفها عضواً مراقباً، وذلك بعد عمل عربي حثيث كان باكورة الإنتصار الأول فيه في العام 1975. ابتدأ الحراك العربي منذ العام 1973، الذي وقف الى جانب الحركة العمالية الفلسطينية ونتج عنه القرار الذي أدان التفرقة العنصرية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في داخل فلسطين المحتلة والتفرقة العنصرية التي تعاني منها العمالة الفلسطينية. استطاعت المجموعة العربية أن تفرض وأن تشهد تلاحماً في داخل أروقة اأمم المتحدة وفُرض قرار الإدانة بعد عامين من النضال في داخل منظمة العمل الدولية. جاء قرار الإدانة بعد صراع مع الأميركيين والبريطانين والإسرائيليين من جهة وما بين العرب متحدين من جهة أخرى في أروقة الأمم المتحدة في جنيف. وقد جاء كدليل على قوة العرب اذا اتحدوا ولو من خلال النضال السياسي والدبلوماسي. عندها ابتدأت المنظمة بإرسال البعثات تلو الأخرى والتي كانت تقاريرها تشرح مدى معاناة عمال الفلسطينيين، وخصوصاً معاناة العمال الأطفال، وبالأخص من هم تحت السن القانوني.
معاناة الشعب الفلسطيني
ثم يدخل الكاتب بالتفاصيل الى معاناة الشعب الفلسطيني، والتي شكلت محطات مؤلمة في تقارير الأمم المتحدة في بعثة العام 1988 والتي جاءت إبان ثورة الحجارة في العام 1987. في تلك المرحلة كانت الولايات المتحدة الأميركية قد خرجت من منظمة العمل الدولية. يقول الصالح إن دور المنظمة قد ضعف ودور الدول الغربية لم يكن له وزن في فرض مقرراتها على الدولة الإسرائيلية. ولكن التقارير نشرت محاولات نشر الفقر والبؤس بين السكان الفلسطينيين. كما فضحت مخالفات بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمحاولات الحثيثة من أجل الإجهاز على الحركة النقابية الفلسطينية من قبل الهستدروت.
ثم يصل الكاتب في الترتيب التاريخي الذي اختاره في كتابة الكتاب. والذي يدل على أن الكاتب اختار في تقديم فكرته للقارئ كل المنهج التاريخي والتحليلي، وبالتالي فهو يدفع القارئ الى استقراء أسباب الحوادث بدلاً من تلقينه إياها. غير أنه كان يسأل في بعض الأحيان سؤلاً موجهاً تقليدياً يتبعه معظم الكتاب العرب الذين يتناولون القضية الفلسطينية. كسؤاله الموجه في عنوان الفصل الخامس: "أوسلو..اتفاق سلام أم قرار إذعان؟"، حيث يعود الكاتب إلى الأحداث من خلال الوثائق من أجل التحدث عن القرارات المتعلقة بفلسطين وبناء الدولة اليهودية، ابتدءاً من دعوة هرتزل لإقامة دولة يهودية وصولاً الى اتفاق أوسلو، ويبرز دور منظمة "الإيباك" في التأثير على قرارات الحكومة الأميركية.
ويشعر الكاتب أن تسوية القضية الفلسطينية، وهي أكثر قضايا العالم تعقيداً وإنسانية، من خلال اتفاق أوسلو كان أسوأ ما يمكن طرحه في أية مرحلة، وأن لديه تشاؤماً حول تنفيذ بنود هذا الاتفاق المجحف من الأساس.
اتفاق اوسلو وكبح الانتفاضة
ابتدأ اتفاق اوسلو كمحاولة في كبح جماح ثورة الحجارة في فلسطين من أجل إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وصون حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه. غير أنه كانت هناك في خضم هذه المفاوضات مفاوضات أخرى تبحر ما بين استوكهولم وأوسلو. هذه المفاوضات الأخيرة يكشف الكاتب عن مضمونها وأهدافها والتي تدنت فيها مستوى اللاءات العربية والفلسطينية الى أدنى معدل لها.
ولم يكتفِ الكاتب بتوضيح بنود الإتفاقات فقط وإنما تحدث عنها بإسهاب ومن خلال طرح الوثائق الأصلية وردود الأفعال عليها ونقلها كما جاءت في تلك المرحلة. وهو يعتبر أن هذه المفاوضات كانت بداية لنوع من استعمار جديد للمنطقة، والتي ابتدأت بالتنفيذ الفعلي على الأرض من خلال حرب الخليج الثانية في العام 1990 بعد أن فشلت حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية- الإيرانية) في العام 1980 في تنفيذ أهدافها بالتسبب في انقسام الشعب العربي ما بين سني وشيعي، بل على العكس لقي العراق كدولة عربية دعماً جماهيرياً كبيرة بين الدول العربية بسبب النظر إلى إيران كدولة فارسية، خصوصاً وأن الثورة الإسلامية في ايران لم تكن قد تجلت بعد أهدافها في دعم قضية فلسطين والوقوف ضد السياسات الإستعمارية في المنطقة ورفض سياسة الشاه بشكل مبدئي وعقائدي.
ينهي الكاتب في الفصلين الأخيرين النقاش حول فلسطين، وذلك من خلال طرح مستقبل هذه القضية في البداية في ظل القوى المتناحرة، والتي يسميها "بالمتناطحة" في الشرق الأوسط، والتي هي بحسب ترتيبه: الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا الاتحادية، والكيان الإسرائيلي الصهيوني، والجمهورية التركية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، والمملكة العربية السعودية.
التواطؤ الدولي ضد فلسطين
طرح جدير بالقراءة فهو يطرح التبدلات في المواقف في كل دولة من هذه الدول والمطامح والمطامع التي تأمل تحققها في حال قدر لها إمكان التدخل في القضية الفلسطينية والضغوط التي يمكن أن تمارسها ضد بعضها البعض من حيث إمكانيات التدخل. ومن ثم كان يؤرخ متى كانت هذه الدول تلتزم الحياد ومتى كانت ترى أن من مصلحتها التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر. ويطرح بناء عليه نتائج خروج الأمم المتحدة من دائرة الحلول الجزئية، والتي هي أساساً خارج الحلول الشاملة، خصوصاً أن هذا التناطح انتقلت ممارسته دولياً من خلال مجلس الأمن الدولي، في محاولة فرض موقع استراتيجي تسود من خلاله كل دولة في جزء المنطقة العربية أو كلها. أي أن هذا الصراع الإستعماري في المنطقة العربية لا يزال مشتعلاً حول الأراضي والمقدرات العربية ولا تزال فلسطين هي المركز الذي يبتدئ أو ينتهي عنده الصراع.
يبحث الكاتب أيضاً في أمور أساسية، وهي بناء الدولة الفلسطينية وقضية التهويد والإستيطان، ومن ثم حق اللاجئين في العودة، والسؤال عن إمكانية الوئام الفلسطيني- الصهيوني. وأخيراً يطرح السؤال حول العلاقات الفلسطينية- الفلسطينية، و"مبادرات السلام". هذا مع العلم أن التنبؤ بما سيحدث كما يقول الكاتب ليس بالأمر السهل وخصوصاً بعد دخول الكيان الصهيوني في علاقات تجارية وثقافية مع بعض الدول العربية.
هذا مع العلم أن الملحمات والثورات العربية في فلسطين ومن أجلها ورغم قوتها وفعاليتها لم تلقَ الدعم من قبل الدول العربية بل على العكس فقد تم التآمر عليها. ولذا في نهاية الأمر يُحمّل الكاتب مسؤولية ما حدث وما يحدث من جريمة اغتصاب فلسطين لأكثر من مليار مسلم وثلاثمائة مليون عربي، ولن يبرأ العرب من هذه الجريمة إلا بعودة فلسطين الى أهلها.
قد يقول البعض إن هذا النوع من الكتب يتم إصداره كل يوم، ولكن ميزة الكتاب في كونه يعرض الوثائق والمقاطع والمقررات التي تتناول فلسطين. ولا ننسى أن الكاتب يعرض القضية تاريخياً من باب التدخل الإستعماري في البلاد العربية، وما دامت فلسطين محتلة فلن يكون هناك حل حتى للمشاكل العربية، ولن يسلم العرب من المؤامرات. والأهم من ذلك التنبيه الى أن اسرائيل هي صنيعة الإستعمار وليس العكس هو الصحيح. ويأتي الكتاب ليؤكد أن بعض الحكام العرب في وادٍ والشعوب العربية في وادٍ آخر وأن قضية فلسطين لن تموت في ضمير العرب والأحرار في العالم.