الدعوة السلفية السكندرية: مسارات التنظيم ومآلات السياسة

يسعى الكتاب إلى تحليل تجربة السلفية السياسية المعاصرة، من خلال دراسة مراحل نشأة وتطور جماعة "الدعوة السلفية بالإسكندرية"، والتي تُعتبر واحدة من أهم التجمعات السلفية في مصر، بسبب تنظيمها وهيكلها الإداري وخطابها الدعوي والفكري المؤثر، ما مكّنها من لعب دور فعال على الساحة السياسية المصرية، منذ اندلاع أحداث ثورة يناير كانون الثاني عام 2011، وحتى اللحظة الراهنة.

كتاب "الدعوة السلفية السكندرية"

 من النقاط المهمة التي يتطرق إليها المؤلف عند تعرضه للسياق التاريخي الذي ظهرت فيه جماعة الدعوة السلفية في مدينة الإسكندرية، أنه يلفت النظر إلى حالة التناقض الحادثة ما بين تأسيس تلك الجماعة بكل ما انبنت وتأسست عليه من مبادئ سلفية دينية، ترى ضرورة الرجوع إلى التراث الإسلامي وأفكار القرون الأولى من جهة، وكون تلك الدعوة قد ظهرت في مدينة الإسكندرية، والتي لطالما عُرفت بكونها مدينة عالمية كوزموبوليتانية اختلطت فيها ثقافات وعادات الشعوب البحر متوسطية، وما ارتبط بها من ميل للحرية والتجديد والتنوع وتقبل الأخر من جهة أخرى.

يرى مؤلف الكتاب، أحمد زغلول شلاطة، أنه من الممكن أن نعثر على الكثير من أشكال التديّن السلفي عبر صفحات تاريخ المدينة الكزموبوليتانية، وأنه من الممكن أن نعتبر وجود أثر لنشاط الفكرة السلفية التقليدية بها، نوعاً من أنواع رد الفعل المضاد على حالة التنوع في المدينة.

ويبدأ شلاطة عبر صفحات كتابه، في ذكر عدد من أمثلة الاتجاه السلفي عبر تاريخ المدينة، منهم الشيخ محمد عبد الظاهر أبو السمح الذي كان أحد أعضاء جماعة "أنصار السنة المحمدية" وإمام الحرم المكي وخطيبه، والشيخ عبد السلام الطباخ إمام مسجد العطارين، والشيخ صلاح رزق إمام مسجد النبي دانيال/ وأمين رضا الذي شغل منصب سكرتير جماعة "أنصار السنة".

ورغم أن معظم الأمثلة التي يذكرها المؤلف، كانت ترتبط بشكل أو بآخر بـ"جماعة أنصار السنة المحمدية" أو بـ"الجمعية الشرعية"، إلا أن المؤلف يؤكد على أن الفكر السلفي السكندري في مراحله المتقدمة، لم يكن قد تم استيعابه في شكل جماعات وكان يقترب أكثر من الشكل الفردي غير المنظم.

في فترة السبعينيات من القرن العشرين، مرت الحالة السلفية السكندرية بتغيّر مهم، وذلك أن الدولة المصرية في ذلك الوقت أطلقت سراح عناصر "الإخوان المسلمين" الذين تم الزج بهم في السجون إبان الحقبة الناصرية، واتجهت العناصر الإخوانية بعد خروجها للعمل الدعوي والحركي في الجامعات المصرية، وبدأت بعض الخلافات الحادة تظهر ما بين صفوف الإسلاميين، حيث كان هناك تياران رئيسيان في تلك المرحلة، التيار الأول وهو تيار الإخوان المسلمين، ومن تبعهم من عناصر "الجماعة الإسلامية". أما التيار الثاني فهو الذي غلبت عليه النزعة السلفية، وكان قوامه الأساس من طلاب "الجامعة الإسلامية" الذين رفضوا الانضواء تحت راية "جماعة الإخوان المسلمين".

ويحدد شلاطة، ثلاثة مسائل خلافية أساسية بين التيارين، وهي الموقف من المرأة، وقضية حلق اللحية، والثورة الإيرانية، وقد أدى تزايد تلك الخلافات إلى انفصال التيار السلفي السكندري عن الصف الإسلامي. ففي عام 1980 تم تدشين جماعة جديدة في الإسكندرية، تحت مسمى "الدعوة السلفية".

 

التمدد

من الظواهر المهمة التي أثارت الكثير من علامات الاستفهام عقب اندلاع ثورة يناير في عام 2011، ظاهرة المد السلفي الذي تجلّت آثاره بشكل واضح في حصد مرشحي حزب النور والدعوة السلفية نحو سبعة ملايين صوت في الانتخابات البرلمانية الأولى بعد الثورة.

ويوضح شلاطة إن ظاهرة المد السلفي في المجتمع المصري لم تكن وليدة اللحظة، بل كان لها العديد من المقدمات والإرهاصات، فقد استفاد حزب النور كثيراً من كونه الفصيل السلفي الأكثر تنظيماً في تلك المرحلة الحرجة. كما استفاد أيضاً من ظاهرة التصويت العقابي التي طالت كلاً من الإخوان المسلمين وفلول الحزب الوطني. ولكن السبب الرئيس في انتشار وتمدد الحالة السلفية في السنوات التي سبقت الثورة، يتمثل -بحسب تعبير شلاطة- في كون التديّن السلفي قد أُعتبر نوعاً من "التدين الآمن"، وذلك أن الأسر والعائلات التي لطالما حذرت أبناءها المُقبلين على الدراسة الجامعية من الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة من قبل الدولة، لم تجد أي غضاضة في التحاق أبنائها بالأنشطة السلفية التي تبتعد عن السياسة ومعارضة النظام الحاكم. ولهذا، وبمرور الوقت، استطاع الفكر السلفي أن يجتذب إليه العديد من الشباب، من خلال أنشطة وعبادات بسيطة، مثل المواظبة على الصلاة في المسجد، وحفظ القرآن، وإعفاء اللحية، وحضور الدروس الدينية والاستماع إلى أشرطة المحاضرات والخطب الدينية.

ويرى شلاطة أن الادعاء القائل بكون الفكر السلفي ينتشر في وسط الطبقات الهامشية والدنيا، بعكس الفكر الإخواني الذي ينتشر وسط الطبقات الوسطى في المجتمع، يحتوي على مغالطات كبرى. فهو يتجاهل حقيقة أن معظم قادة الدعوة السلفية كانوا من أبناء الطبقة الوسطى في الإسكندرية، كما أن معظم هؤلاء كانوا من خريجي وطلبة الكليات العلمية مثل الطب والهندسة.

ويرى المؤلف أن خطاب الدعوة السلفية، الذي يمتاز مضمونه بالدعوة إلى الصبر والاحتساب والدعوة إلى التكافل والتراحم، قد أتاح الفرصة لانتشار الدعوة في الريف والمدن على السواء، حيث استطاع أنصار الدعوة، من طلاب جامعة الإسكندرية، أن ينشروا أفكارها ومبادئها في الامتدادات الريفية في محافظات الدلتا القريبة من الإسكندرية.

بعد ذلك يبين شلاطة، أهم سمات المنهج الفكري الذي تتبعه الدعوة السلفية بالإسكندرية، فيقول إن الدعوة السلفية اعتادت على أن تقدم نفسها على كونها الامتداد الطبيعي للسلفية التراثية سواء تلك التي نادى بها أحمد بن حنبل وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب، ولذلك فإن منهجها لا يختلف عن المنهج السلفي المتعارف عليه والذي يتمثل في تقديم النص على العقل، ورفض التأويل الكلامي، والاعتماد على الاستدلال بالآيات والقرآن الكريم والحديث الشريف.

وبحسب تعريف ياسر برهامي، وهو واحد من أكبر مرجعيات الدعوة السلفية، فإن المنهج الذي تنتهجه الدعوة "ليس فقط منهجاً فكرياً أو ثقافياً، ولا هو القدرة على القول والكلام فحسب، بل هو منهج متكامل في العقيدة والعبادة والسلوك والأخلاق والدعوة إلى الله عز وجل، إنه منهج يتحرك به الإنسان في كل مناحي حياته".

 

العلاقة بين الدعوة السلفية والتيارات الإسلامية الأخرى

بعد أن عرض المؤلف لأهم المحطات الرئيسة التي مرت بها الدعوة السلفية السكندرية خلال مرحلتي النشأة والنمو، فإنه يتطرق بعد ذلك إلى موقف الدعوة من باقي التيارات الإسلامية الأخرى، وبالأخص القوى السلفية المتواجدة على الساحة المصرية.

يبدأ شلاطة بتناول العلاقة ما بين الدعوة السلفية والسلفية الحركية، فيؤكد على أن هناك مرحلتين مميزتين لتلك العلاقة، الأولى كانت فيما قبل أحداث ثورة يناير 2011، وكانت السلفية الحركية فيها تتميّز بنوع من أنواع الجمود والشدة والتحفظ تجاه مدرسة الإسكندرية. فشيوخ القاهرة السلفيون، والذين كان أغلبهم من خلفيات جهادية، كانوا قد أعلنوا عن أن المشاركة في العمل الجماعي يُعتبر نوعاً من الحزبية المرفوضة، وكانت فتاواهم واقعية وبنت المجتمع المصري، بينما كانت أراء مرجعيات سلفيي الإسكندرية تميل إلى النكهة السعودية.

ويؤكد شلاطة أن الخلاف الأهم بين المدرستين في تلك المرحلة هو في أصول وضوابط ومعايير التكفير إذ قال مشايخ القاهرة بتكفير العين، بينما كان مشايخ الإسكندرية يكتفون بتكفير النوع فحسب.

بعد اندلاع ثورة يناير، استمرت العلاقات الجيدة بين سلفيي القاهرة والإسكندرية، وتم التنسيق بينهما، حيث قام مشايخ القاهرة بتدشين حزب الفضيلة بعدما أسس شيوخ الإسكندرية حزب النور، ودافع ياسر برهامي عن الشيخ محمد عبد المقصود عندما انتقده محمد سعيد رسلان وهاجمه. وكان برهامي يبرّر ذلك وقتها بأن الاختلاف الواقع ما بين مدرستي القاهرة والإسكندرية هو من الخلاف المقبول السائغ الذي يمكن تجاوزه وقبوله والتعامل معه.

الخلاف بين الجبهتين بدأ يتضح بشكل واضح في مرحلة الانتخابات الرئاسية في عام 2013، ففي الوقت الذي ساندت فيه أغلبية مشايخ الدعوة السلفية المرشح عبد المنعم أبو الفتوح، فإن مشايخ القاهرة دعموا مرشح الإخوان المسلمين، محمد مرسي، وأعلنوا أن جماعة "الإخوان" هي الفصيل الأكثر جاهزية لقيادة الحركة الإسلامية في هذا الوقت العصيب، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى وقوع الصدام ما بين التيارين. وتجلى هذا الصدام بعد فترة، في انتقاد كل من محمد عبد المقصود وفوزي السعيد، وهما من أعلام المدرسة السلفية الحركية في القاهرة، لياسر برهامي بسبب المبادرة التي أعلن عنها حزب النور في شباط فبراير 2013، حيث وصف عبد المقصود والسعيد "الدعوة السلفية" بكونهم عملاء لأمن الدولة.

وقد ظلت رقعة الخلاف تتسع ما بين الجانبين، ويزداد هجوم القاهريين على مرجعيات الإسكندرية، وخاصة بعد الخلاف الذي حدث مع اقتراب تظاهرات حزيران يونيو 2013، حول توصيف الرئيس محمد مرسي، وهل يجوز وصفه بأنه ولي أمر شرعي أم لا. فقد وقف السلفيون القاهريون وقتها في صف "الإخوان المسلمين" الذين أعلنوا عن اعتقادهم بكون مرسي ولي أمر شرعياً، وأن الخروج عليه غير مقبول، واتفق معهم في ذلك الرأي الشيخ سعيد عبد العظيم الذي يشغل مكانة مرموقة في البناء الإداري والتنظيمي في الدعوة السلفية السكندرية.

وكانت نقطة النهاية في العلاقة ما بين المدرستين، هي يوم الثلاثين من حزيران يونيو 2013، وما تبعه من عزل للرئيس المنتخب محمد مرسي في الثالث من تموز يوليو، حيث قام السكندريون بتأييد ذلك الإجراء باعتباره أخف الأضرار الممكنة، وهو الموقف الذي لم يرضَ عنه القاهريون بطبيعة الحال، حيث وجدوا فيه خيانة للمشروع الإسلامي برمّته.

بعد ذلك يتطرق شلاطة إلى العلاقة ما ببن الدعوة السلفية من جهة والسلفية المدخلية من جهة أخرى، حيث يؤكد في البداية أن المقصود من السلفية المدخلية، ذلك التيار السلفي الذي يضم عدداً من الشيوخ في مصر، والذين يتفقون فيما بينهم على رفض وإنكار العمل الجماعي.

 ويحدد شلاطة عدداً من أعلام المدرسة السلفية المدخلية في مصر، ومنهم محمد سعيد رسلان ومحمود عامر وأسامة القوصي وطلعت زهران، ويجمع بين هؤلاء جميعاً رفض التحزب والقطبية والخروج على الحاكم، كما إنهم لا يجيزون المشاركة السياسية بسبب صعوبة التوفيق فيما بينها وبين الضوابط الشرعية، ولا يعترفون بالانتخابات البرلمانية أو الرئاسية وما شابهها من الإجراءات الديموقراطية المتعارف عليها في العالم المعاصر.

ومنذ بداية التسعينيات من القرن العشرين، بدأ شيوخ التيار المدخلي في مصر، في توجيه الانتقاد والطعن في منهجية وأفكار رموز الدعوة السلفية، وكان هذا الهجوم في البداية بشكل مستتر وغير ظاهر. ولكن ومنذ بداية الألفية الثالثة، بدأ الهجوم يأخذ شكلاً أكثر وضوحاً وظهوراً، حيث خصص الشيخ محمد سعيد رسلان خطباً ومحاضرات عديدة للحديث عن مساوئ العمل التنظيمي. وكان الدافع الأساس لتلك المحاضرات هو ما كتبه الشيخ ياسر برهامي في كتابه "العمل الجماعي: بين الإفراط والتفريط"، وفي الوقت نفسه كتب الشيخ محمود عامر كتاباً ينتقد فيه الشيخ محمد إسماعيل المقدم، بسبب أن الثاني قد صدرت منه بعض إشارات المدح والتقريظ لسيّد قطب ومنهجه في كتابه المعنون، بـ"علو الهمة".

ونتيجة لتلك الاختلافات، سادت روح العداء بين التيارين السلفيين، وانجذب عدد من عناصر جماعة "أنصار السنة المحمدية" إلى التوجه المدخلي، وقام هؤلاء بوصف سلفيي الإسكندرية بكونهم خوارج هذا العصر، وهو الأمر الذي دعا ياسر برهامي إلى الرد عليه وانتقاد هذا التوجه، فقال في أحد الحوارات التي دارت بينه وبين مؤلف الكتاب: "الكثير جداً من هؤلاء يتكلمون باسم أنصار السنة، بأن حسني مبارك أمير المؤمنين، وأنه الحاكم الشرعي وولي الأمر، هناك من تدارك نفسه ووقف مع الثورة، ونحن، وقبل الثورة، نقول لا يُسمّى ولي أمر شرعياً إلا من يقود الناس بكتاب الله، ولهذا يقال عنّا بأننا خوارج، وفي أحد الأيام قال أحد الدعاة من هذا الاتجاه إن حسني مبارك أخطأ في تركه لياسر برهامي وعبود الزمر، لأنهما من الخوارج. وقبل إفتائه بقتل البرادعي والقرضاوي أوصى بقتلنا نحن –أنصار السنة- والتي تبرأت من لطفي عامر، لكنه منذ سنوات طويلة بالجماعة ويقول هذا الكلام".

 

كيف تحولت الدعوة إلى تنظيم؟

 

في عام 1980، وعقب الانفصال عن "الجماعة الإسلامية" و"الإخوان المسلمين"، تم إنشاء ما يُعرف باسم مجلس إدارة المدرسة السلفية، وشارك فيه عدد من رموز الدعوة ومرجعياتها من أمثال أبو إدريس ومحمد إسماعيل المقدم وأحمد فريد وسعيد عبد العظيم وأحمد حطيبة وكمال قريطم ومحمد ياقوت وغيرهم.

وقد تم اختيار الشيخ محمد عبد الفتاح، المعروف باسم أبو إدريس، ليترأس الدعوة، ووُصف بكونه (قيّم الدعوة). وبحسب ما ينقله المؤلف عن القيادي السابق في الدعوة عماد عبد الغفور، فإنه قد تم اختيار مسمّى القيّم بدلاً من الأمير، لأن الثاني في ذلك الوقت كان يحمل الكثير من الدلالات السيئة والسلبية في الأذهان، كما إنه قد تم اختيار ذلك المسمّى تحديداً، تيّمناً بالعالم الشهير ابن القيّم الجوزية.

أما عن سبب اختيار أبي إدريس تحديداً، لشغل هذا المنصب المهم، دوناً عمن سواه من كبار مشايخ الدعوة حينذاك، فيذكر المؤلف أن السبب في ذلك كان كبر سنه ودوره الكبير في تأسيس الدعوة ونشرها منذ مراحلها الأولى.

وعقب ثورة يناير في عام 2011، تحولت الدعوة إلى تنظيم مُعلن عنه، حيث تشكل مجلس مؤقت لإدارة الدعوة، وتكون هذا المجلس من خمسة عشر عضواً، كما تم اختيار مجلس رئاسي أيضاً، وتكون هذا المجلس من رئيس هو الشيخ أبو إدريس ومعه نائبان، وهما محمد إسماعيل المقدم وياسر برهامي. أما باقي أعضاء مجلس الإدارة فكانوا هم سعيد عبد العظيم وأحمد فريد وأحمد حطيبة وعلي حاتم وسعيد حماد وسعيد السواح ومحمود عبد الحميد وأشرف ثابت وشريف الهواري وجلال مرة ويونس مخيون وعبد المنعم الشحات وعماد عبد الغفور، وقد صار هذا الأخير فيما بعد أول رئيس لحزب النور.

وإلى جانب تلك المجالس، تم تكوين عدد من المستويات الإدارية داخل الدعوة، وهي مجلس الشورى ومجلس الأمناء.

 

الموقف من الأقباط

يؤكد المؤلف على أنه لا يمكن تفسير المواقف الفكرية ذات المنحى السياسي للدعوة السلفية، من دون النظر إلى أمرين، وهما السياق السياسي الذي نتج عنه ذلك الخطاب، والركائز الشرعية التي قدّمها شيوخ وعلماء الدعوة لتبرير مواقفهم بين أتباعهم.

من هنا، فإن شلاطة يلفت نظر القارئ إلى اثنتي عشرة قاعدة شرعية، لطالما ارتكز عليها الخطاب السلفي السكندري في العديد من المراحل والأطوار الزمنية، سواء فيما قبل ثورة يناير أو فيما بعدها. ومن تلك القواعد "اعتبار القدرة والعجز، ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، لا ضرر ولا ضرار"، وغير ذلك من القواعد الأخرى.

وقد وضحت التطبيقات المباشرة لتلك القواعد، في عدد من الموضوعات التي أثارت جدلاً كبيراً على الساحتين السياسية والمجتمعية في مصر.

ويُعد الموقف من الأقباط، من أهم تلك الموضوعات، حيث يؤكد شلاطة أن موقف الدعوة السلفية لم يختلف كثيراً في تعامله مع المسألة القبطية عن مواقف عموم التيار السلفي. فبالنسبة للتسمية، فإن الدعوة تستعمل في خطابها مسمّى النصارى، وإن كانت لا تحرّم مسمّى المسيحيين.

 ويلاحظ شلاطة أن الأقباط لم يستأثروا باهتمام مرجعيات الدعوة، فرغم أن سعيد عبد العظيم مثلاً، قد كتب الكثير من الكتيبات الخاصة بالفن والرياضة والمجتمع، إلا أنه من الصعب أن نجد كتيبات مماثلة تنتقد الدين المسيحي بشكل مباشر أو مُعلن عنه من جانب شيوخ الدعوة، وهو الأمر الذي يفسّره المؤلف بالخوف من الضغط الأمني والرقابة التي كانت مفروضة على المحاضرات والدروس في مرحلة ما قبل ثورة يناير 2011.

ومع ذلك فإن المؤلف يشير إلى أنه في الكثير من الأحيان، يتم انتقاد المسيحيين بشكل مبطن، من خلال المحاضرات التي تناقش مسائل الولاء والبراء أو الجهاد وتقسيمات الكفار والمشركين، ففي تلك الأحيان كان يتم العروج على الأقباط بشكل ضمني.

وتحضر المسألة القبطية، في الفضاء السلفي السكندري عند الحديث عن التعاملات مع الأقباط، وما ينبغي على المسلم عند التعامل مع المسيحي، فشيوخ الدعوة السلفية يرفضون حضور المسلم للاحتفالات المسيحية، ويرفضون تهنئة المسيحيين بأعيادهم. كما يرفضون وصف المسيحيين بالأخوة، ولا يرون بأن المناصب السياسية مفتوحة لهم على مصراعيها، فهم يُحرّمون أن يتولّى المسيحي منصب المحافظ أو رئيس الجمهورية، ويبيحون أن يكون مستشاراً أو عضواً في البرلمان.

وبحسب تعبير شلاطة، فإن تلك الرؤية الشرعية قد أنتجت "مأزقاً معرفياً" يتمثل في صعوبة التوفيق ما بين الرأي الشرعي من جهة، والسياسة والأمر الواقع من جهة أخرى. ويبرر شلاطة ذلك بقوله: "إن مؤسسي الدعوة السلفية صاروا شيوخاً وزعماء قبل امتلاك الأدوات اللازمة لمثل هذه الأمور، فاضطروا لاستكشاف كل القضايا الشائكة من خلال اجتهادات شخصية لا ترقى إلى أصول الاجتهاد أو الاعتماد الكلي على فتاوى اللجنة الدائمة للعلماء السعوديين من دون النظر إلى الفارق بين وضع غير المسلمين كوافدين أو غرباء عن البلد كما هو الحال في المملكة، وبين الوضع في مصر، حيث الأقباط مواطنون من أهل البلد".

وقد ظهر موقف الدعوة من الأقباط في عدد من الأحداث التي شابتها الصفة الطائفية، مثل قضية كاميليا شحاتة، التي أعلنت إسلامها ثم اختفت، وقيل إن الكنيسة هي من اختطفتها، حيث شدد ياسر برهامي حينها على "ضرورة ألا يمر هذا الأمر مرور الكرام، وانتقد تنازل الدولة عن هيبتها ومسؤوليتها تجاه بعض الرعايا من المسلمين مقابل من وصفهم بالأقلية المجرمة المعتدية الظالمة التي اعتدت على حق الأغلبية". ودعت الدعوة السلفية وقتها، لفعل كل ما يلزم لاستنقاذ المسلمات الأسيرات في قبضة الكفرة المشركين.

ومن المؤكد أن العلاقة بين الدعوة السلفية والأقباط قد شهدت تحسناً ملحوظاً بعد قيام ثورة يناير، وذلك عندما تم تأسيس حزب النور – الذراع السياسي للدعوة - ووجدت قياداته نفسها مضطرة ومُلزمة لإشراك بعض الأقباط في الحزب، وذلك تماشياً مع الموقف القانوني الذي يمنع من قيام أحزاب على أساس ديني أو طائفي.

وبحسب المعلومات التي صرّح بها عماد عبد الغفور للمؤلف، فإن الحزب تمكن من استقطاب عدد من الأقباط عن طريق بعض أعضائه الذين يمتلكون علاقات قوية مع المسيحيين السكندريين، مما أسفر عن اشتراك بعضهم في الحزب، وإن اقتصرت عضوياتهم على المشاركة الشرفية الصورية، وسرعان ما تم إيقاف تلك العضوية أو تعليقها بعدما تمت مهاجمتهم من قبل بعض الناشطين الأقباط.