غربة "آريا مهر نامة"
"إن الوطن هو مكان الولادة، لكنها الآن تقبلت أن يكون مكان الوفاة هو الوطن الجديد".
منذ أيار مايو الماضي وأنا أترقب اللحظة المناسبة للدخول في أجواء رواية الدكتور عقيل الموسوي (آريا مهر نامه). وصلتني وأنا أضع اللمسات الأخيرة على كتابي الجديد (من هو البحريني؟). وضع لي عقيل فخاً في إهدائه: "إلى الأخ العزيز علي الديري، لنا في هذه الرواية كلام عن الغربة.. عساه يكون سلوى لك في حياتك الجديدة".
وضعني الإهداء في حالة ترقب، ما الذي يمكن أن تقوله رواية معنية بتاريخ إيران السياسي والثقافي والحضاري، عن الغربة؟ رحت أربط الإهداء بسؤال كتابي الذي هو في معنى من معانيه: لماذا يغدو المواطن غريباً؟ إنه سؤال في السياسة والفلسفة والأدب.
أزحت الرواية جانباً، فلدي زيارة صيفية لمدينة مشهد، وهناك سيكون للرواية طعم خاص، في هذه المدينة لدي فائض غربات ثلاث، ولعل ما في الرواية من كلام عن الغربة، يفتح لي ثغرة أعالج منها كثافة الغربات.
تفتتح الرواية فصلها الأول بعنوان (تأبين في الغربة). يا للهول! شعرت وكأن الرواية تعبث بي، فأنا في جوار قبر والدي الذي أقمنا تأبينه الأول في الغربة، وأنا أترقب وصول كتابي (بلا هوية.. إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل)، وفي مقدمته أتحدث عن قبري ودفني في الغربة، والأكثر من ذلك إني أحمل في شنطتي قنينة تراب طلبت إحضارها من أرض قريتي (الدير) كي يخلط بتراب قبري، كي تخف غربة تراب القبر. فوق كل ذلك، فكاتب الرواية شخصية بحرينية شهد أحداث "الربيع العربي"، واختار أن يعيش في المهجر لفترة من الزمان، ومن هناك هو يكتب الرواية.
دفعتني هذه التطابقات لمتابعة الرواية متابعة جدية، رحت أضع علامات بقلم الفلاش، على كل جملة ترد فيها كلمة (غربة). صارت القائمة طويلة، ووجدت فيها معالجة لحالتي.
ينشغل الكاتب في الفصل الأول، بملاحقة خبر انتحار علي محمد رضا ابن (الشاه) محمد رضا بهلوي. لقد انتحر في غربته الوجودية والجغرافية. تواجه والدته الشاهبانو فرح بهلوي غربة مضاعفة، فأحفاد العائلة البهلوية يعيشون غربة ثقافية، ولا يعرفون طقوس حفل التأبين على الطريقة الإيرانية. لقد سدّت هذه الفجوة الثقافية، بمشهد رمزي يُعطي دلالة على أصالتها: صفت أعضاء العائلة البهلوية، شيوخاً وشباباً وأطفالاً، في حداد ملابس سوداء أنيقة، ونثروا بوقار، واحداً تلو الآخر، تراباً جُلب من إيران على جثمان الراحل.
إنه، مشهد آسر، الغريب الذي لا تستقر روحه إلا حين تمتزج طينته بطينة تراب بلاده. شخصياً، تحسست برودة هذا التراب، ورحت أتخيل بالتذاذ تراب قبري يغدو تربةً بتراب "الدير" المقدسة. شعرت بأني بالغت في ما ذهبت إليه، لكن الكاتب الغريب الذي يعيش في منفى ما بعد أحداث "الربيع العربي"، كان مصراً أن يُبقيني في المشهد، وكأنه كان يخاطبني: "إنه لمن الطبيعي أن تتعلق أرواحنا الرقيقة ببقعة من العالم محببة لنا، نولد فيها، ونتشكل منها، ونسمّيها أرض الآباء، أو الوطن… والغربة بسبب النفي أشد على النفس، لأنها تشقّ الأرواح عن الوطن وتبتر الذوات عن أرض الآباء".
بدت لي هذه المخاطبة إشارة اطمئنان، وعلاجاً يخفف من آلام هذا البتر، إلا أنَّ ختامها كان أشبه شيء بالكي، فآخر الدواء الكي: "ولا يبدو أنَّ لغربة المنفى أي علاج، ربما، إلا الانشغال بحلم الرجوع إلى الوطن".
هل مقدر على كل منفي أن يشغل حياته بحلم هذا الرجوع؟ إنه أشبه بمرض منه بعلاج، والدليل على ذلك، كما تقدمه الرواية، هو انتحار ليلى بهلوي قبل أخيها بعشر سنوات، وهي أصغر أبناء الشاه الأربعة من فرح بهلوي.
بين أن تموت منتحراً أو تعيش مريضاً بحلم الرجوع، هكذا يبدو حال الغريب المنفي، في رواية (آريا مهر نامه). إنه ليس أي رجوع بل حلم رجوع المنتصرين، بيقين الطبيب من تشخيص مريضه، يقرر الكاتب إنه "في المنفى تسيطر على كل منفي مثلي قصة متخيّلة لرجوعه إلى الوطن رجوع المنتصرين".
تطلّ الرواية على التاريخ الإيراني من خلال شرفة عائلة بهلوي، من زمنهم الحالي حيث الغربة والمنفى وحلم رجوع المنتصرين. يتوغل كاتب الرواية، الذي يعيش مثلهم في منفاه السياسي، في تفاصيل تاريخ الدولة الأخمينية والدولة الساسانية والفتح الإسلامي والدويلات الحاكمة، وصولاً إلى الدولة الصفوية، فالقاجارية، فالبهلولية، إنه تاريخ طويل ومعقد.
في عام 1941 تولى السلطة محمد رضا بهلوي عن أبيه الذي نفاه الإنجليز إلى جنوب أفريقيا ليموت هناك غريباً، فيدفن في مصر قبل أن ينقل جثمانه إلى إيران.
ورث الشاه من أبيه وصية في شكل درع بهلوي مصمم في عام 1932 على الشكل التالي: أسدان يقفان على الشريط الملكي الأزرق الملكي مكتوبة عليه عبارة من ملحمة الشاهنامه للفردوسي "بالعدل يأمرني وبه سيحاسبني"، يحمل الأسدان سيفين مشهرين يحميان التاج البهلوي، ويحوي الدرع صورة جبل دماوند في طهران ومن خلفه الشمس المشعة، كذلك يحوي الفراوهر الشعار الزرادشتي ووردة النيلوفر والسيمروغ وسيف (ذو الفقار) مع زهرة لاله.
يعتبر الشاه هذه الوصية خطة عمل لحكم العائلة البهلوية، ووصية عامة للشعب الإيراني. وجد الشاه نفسه بحاجة إلى تفكيك إشارات الدرع ورموزه، لفهمها والعمل بها، فاستعان بالبروفسور فرشاد عليخاني، مدير متحف إيران الوطني، ورئيس قسم الدراسات التاريخية في جامعة طهران سابقاً، ليتولى شرح إشارات الدرع بالتفصيل الذي يكشف أسرار الهوية التاريخية لإيران المودعة في هذا الدرع.
يتولى البروفيسور ترتيب رحلات ميدانية إلى مواقع أثرية، ليشرح للشاه بتفصيل تاريخي أسرار الدرع. يستغرق ذلك التفصيل التاريخي أكثر من نصف الرواية، يأخذنا فيها البرفيسور في رحلة ممتعة وسلسة في التاريخ الإيراني.
يتحول تاريخ الإخمينيين والساسانيين ونور الآريين ونار الزرادشتيين من الغربة إلى الألفة. ينجح البروفيسور في إزالة ركام الظلام عن هذه الحضارات وديانتها، ليجعلها ضمن خطة عمل الشاه لبناء الهوية القومية الإيرانية التي جبّت بإسلامها ما قبلها.
نحتاج إلى وقفة نقدية لتقييم خطاب الرواية في تحويل هذا التاريخ من الغربة إلى الألفة، ونكتفي هنا بإثارة هذه الأسئلة: هل حوّلت المادة التاريخية الرواية إلى خطاب تاريخي؟ هل أثقلت معلومات الراوي البروفيسور الذي سيطر على أكثر من نصف السرد، الرواية لتغدو رواية تعليمية؟ هل كنا أمام بروفيسور يلقننا عِبَر التاريخ ووقائعه أم كنا مع بروفيسور يروي لنا ما يفتحنا على جدل التاريخ ومكره وصراعاته؟ أو لنقل هل بقي (فرشاد عليخاني) أستاذ تاريخ أم غدا شخصية روائية مركبة الأبعاد؟
هذه الأسئلة تحتاج إلى تحليل معمق لخطاب الرواية، ربما أترك ذلك لمقالة أخرى.