هكذا رأى أحمد داود أوغلو الحضارات والمدن
يسلط الكتاب الضوء على تصورات وتأملات رئيس وزراء تركيا ووزير خارجيتها السابق المنظّر الأكاديمي أحمد داود أوغلو في الحضارات والمدن التي زارها خلال حياته والأبعاد الحضارية والثقافية والاجتماعية التي تلمسها.
قراءة: جلال سلمي
لندن ونيويوركوعند الوصول إلى مدينة لندن، نرى أن داود أوغلو يصفها بأنها البوابة الأولى لتعرّفه على ثقافة المدينة في الحضارة الغربية، فقد زارها لأول مرة عام 1978، وكانت أول رحلة له خارج تركيا.ويذكر داود أوغلو أنه عمل في زيارته الأولى والزيارات الأخرى التي تتالت على لندن، لمقارنة أماكنها التاريخية وصفات أناسها بالأماكن التاريخية لإسطنبول وصفات أناس الحضارة الشرقية، ساعياً إلى الوصول لأوجه الفرق والشبه بين الحضارتين.وفيما يتعلق بانطباعه عن المدينة، يشير داود أوغلو إلى أنه شعر أثناء إقامته هناك لدراسة اللغة الألمانية بأنه يسير في مدينة لا تحمل التنوع العضوي بل تخضع لنظام ميكانيكي، حيث أن الجميع يتعامل مع بعضه وفقاً لأمور معيّنة وفي أطر محدودة، ولا يوجد ذلك التنوع العضوي في الثقافات والترابط بين المجتمع، فلا أحد يلتفت إلى أحد ولا أحد يتحدث مع أحد. وطبقاً لكتاب داود أوغلو، فإن التساؤل الذي خطر على باله أثناء التجول في لندن هو"أين الترابط الديني بين الكنائس والمساجد والمعابد في شوارع لندن؟"، مجيباً على ذلك بالقول "إن إسطنبول في شارع الاستقلال فقط تعكس هذا الترابط الديني الفريد الذي تفتقر إليه لندن".وفي القسم الأول أيضاً، يتحدث داود أوغلو عن تجوله بين مدن بكين ودلهي وإسطنبول والقدس ونيويورك وكاتماندو، واصفاً تلك المدن "بالمدن المحورية" التي شكّلت حضارات عتيدة تركت آثارها القوية في تاريخ الإنسانية، موضحاً أنه حصل على فرصة لزيارة بعض هذه المدن بواسطة رحلة تفكرية أقامتها كلية الشريعة في جامعة مرمرة عام 1983، تحت عنوان "نظرية العالم التوحيدية والآثار التاريخية عليها".وفي إطار مقاربته الحضارية بين المدن، يصوّر داود أوغلو مدينة نيويورك بالمدن البابلية التاريخية التي تجمع ما بين الكبرياء، بواسطة الأبنية الشاهقة، والسُحق الناتج عن هذه الأبنية الشاهقة التي يحاول الفقراء الوصول إليها، ولكن من دون جدوى، تماماً كما الحضارة البابلية التي جمعت بين النقطتين.وعن نيويورك أيضاً، يُشير إلى أن الثقة بالنفس والراحة النفسية الموجودة في إسطنبول وقونيا تكاد معدومة في نيويورك، وهو ما عزز الإدراك الوجودي الحضاري الذاتي في داخله، على حد تعبيره.وبعد نيويورك، كانت المحطة التالية لزيارات داود أوغلو الخارجية هي القدس التي يعبّر داود أوغلو عن سعادته الغامرة بالتخلّص من الكبر الساحق لمدينة نيويورك والشعور بالسعادة الباطنية نتيجة الطراز المعماري المتواضع التي تتمتع به المدينة.ومن القدس إلى روما التي يصورها الكاتب على أنها إحدى أهم العواصم للحضارات القديمة، وقد مثّلت المدينة للكاتب مصدر إلهام للتحول الحضاري من سيطرة الكنيسة "التعسفية والمظلمة" إلى سيطرة التجربة العلمية الناضجة التي عادت على الإنسانية بالفائدة المضطردة.وعند وصوله إلى مدينة دلهي، يصوّر الكاتب نفسه على أنه شعر بخلاصة تاريخ الحضارات متعددة الأبعاد، فالروح الفارسية والأوردية والإسلامية والهندوسية والتركية والأوروبية والأسيوية مجتمعة في هذه المدينة التي تؤدي إلى غوص الإنسان في فكرة التفاعل الحضاري ونتائجه على المجتمع.وبعد دلهي انطلقت رحلة داود أوغلو إلى كاتماندو التي تتميز عن دلهي بالروح المعنوية الدينية التي تتجلى من خلال الانتشار الهائل للمعابد، وكانت بمثابة المدينة الفاقدة للوجود الحضاري المتنوع، حيث تظهر مقاومتها للانفتاح الحضاري والبقاء على الحضارة الهندية الخالصة.وأما بكين، فتشترك مع كاتماندو بذات الخصال، فهي مدينة بروح قديمة تصدت للانقلابات الثقافية، إلا أنها من ناحية أخرى تلمّح للمتأمل بها أنها تحتوي انعكاسات للتيارين الاشتراكي والرأسمالي، إلا أن الحضارة الكونفوشوسية تُبدي نفسها وبقوة بخليط ببعض من المبادئ الماوية.
القاهرة وعمّانومن هناك إلى القاهرة؛ المدينة المحورية الحاضنة لتفاعل حضاري طفا على السطح لقاء التفاعل الكثيف بين حضارات العالم المختلفة، حيث مكث فيها داود أوغلو ثلاثة شهور لإجراء أبحاث ميدانية خاصة برسالته في الدكتوراه.ويُشير الكاتب إلى أن القاهرة من أكثر "المدن المحورية" في المنطقة، موضحاً أن القاهرة تقف اليوم على منعطف طُرق، فأما تكون "موَحِدةً" لدول الشرق الأوسط، أو مشتتةً لهم، والأمر يقف على نوعية النظام الحاكم فيها، فإن كان نظام حريات فهي موحدة، وإن كان نظام سلطوي فهي مشتتة، بفعل الأطماع الشخصية لأعمدة هذا النظام.ويتطرق داود أوغلو إلى الأيام التي أفناها في عمان التاريخية التي استطاعت تحقيق انتقال للحداثة السياسية والاقتصادية، وقد بقي فيها لمدة 8 شهور، ويصفها بأنها "مدينة الوصل" بين أواصر منطقة الشرق الأوسط منذ القدم وحتى يومنا الحالي، ففي الماضي كانت عاصمة مملكة عمون القديمة، وكانت حلقة وصل بين الحجاز ومصر، ومن ثم بين أواصر الحضارة الهيلينية، وصولاً إلى الحضارة العثمانية التي وجدت في عمان موقعاً مهماً لمد سكك الحديد. واليوم تشكّل حلقة وصل مهمة بين الفلسطينيين ودول العالم الأخرى، مختتماً حديثه عن عمان بأنها المدينة التي وصلت بين قلبه والعالم العربي بشكل قوي، ففي حينها كانت "انتفاضة الأقصى" فاعلة حيث رأى حجم الحماس الذي انتاب الشباب الأردني المنتفض من أجل فلسطين، الأمر الذي انعكس على قلبه بحب وافر للشباب العربي الذي لا يزال يحفظ أهم قضية بالنسبة له. كوالالمبوركوالالمبور هي مدينة تقاطع بين الحضارة الهندية والصينية والإسلامية، ففيها أقام داود أوغلو لمدة 5 سنوات، موضحاً أن كوالالمبور مدينة حديثة تأسست عام 1857، لاستخدامها كقاعدة اقتصادية للاستعمار الإنجليزي في المنطقة، إلا أن ماضيها التاريخي يوحي إلى أنها مختبر تاريخي استقبل هجرات المجموعات الهندية والصينية والملايا على مر التاريخ وكأنها ميناء عبور. ويصف داود أغلو المدينة على أنها مدينة مزيج حضاري فريد يكاد يكون الأوحد في المنطقة الموجودة فيها كوالالمبور، مزيج حضاري ينعدم في الكثير من البلدان الغربية على حد زعمه. دمشق وبغدادمثلت الشام وبغداد هو من محطات الإدراك التاريخي "الحزين" بالنسبة لداود أوغلو الذي زار الشام "دمشق" عام 2003، شاعراً بنفس الشعور الروحي غير الطبيعي الذي شعر به في القدس، فالإدراك التاريخي تشكّل لديه في دمشق، بعد زيارته لعدد من الأماكن الأثرية ومن ثم لقبري "ابن عربي" و"صلاح الدين الأيوبي" اللذين كانا من القامات التاريخية الهامة التي تعيد للإنسان الأمل في استعادة حضارته وقوته. ومن ثم ينتقل داود أوغلو إلى الحديث عن بغداد التي زارها عام 2008، وعاد له الإدراك التاريخي المفعم بالأمل بعد رؤية أسوار بغداد القوية التي لا تزال قائمة على أصولها بالرغم من الهجمات المغولية البربرية وما أعقبها من هجمات أخرى.ويوضح الكاتب ًأن الحزن الذي انتابه حيال إدراكه التاريخي نابع عن الأوضاع التي تمر بها المدينتان في الوقت الحالي، مضيفاً أن عدم تمكنه من زيارة الأعظمية، الحاضنة لقبر الإمام أبو حنيفة ـ والكاظمية، الحاضنة لقبر الإمام موسى الكاظم، في بغداد، لأسباب أمنية، هو السبب الذي نمّى حالة الحزن المسيطرة عليه إزاء الإدراك التاريخي "الإسلامي الشرقي" الضائع. شيراز وأصفهانشيراز وأصفهان، حيث الشعر والصفاء الأدبي اللذان شعر بهما داود أوغلو خلال زيارته لهما عام 2008، مبيّناً أن المدينتين اللتين عكستا التاريخ والشعر والأدب الإسلامي لفترات طويلة، لا تزالان إلى اليوم تحملان عبق ذلك التاريخ، وما تحتاجانه هو إعادة إحيائه كمركز حيوي لتلك العناصر.خراسان الممثلة للجذور الإسلامية في مدن ما وراء النهر، وإلى جانبها هناك سمرقند وطشقند، تلك المدن التي يقيّمها الكاتب على أنها مراكز لانطلاق كتابات وعلوم الحضارة الإسلامية. فخلال زيارته لها عام 1995، لمس فيها الذاكرة الثقافية والرابط التاريخي الجامع لجميع أعراق الحضارة الإسلامية.تركستان، والأندلس والمدن الإسلامية المحورية التي تم ويتم تصفيتها من قبل بعض الأطراف، "فهناك حيث الأندلس التي زرتها عام 2007، فشعرت بالجمال المعماري الحضاري الفريد"، ذلك الجمال الذي يصفه داود أوغلو بالعتيد، كونه حافظ على وجوده حتى يومنا هذا، بالرغم من كافة المحاولات الرامية لتغيير ملامحه ودثره، فمن لا يرى القصر الأحمر وقرطبة وغرناطة، لا يدرك الوجود الذاتي والتاريخي لحضارته.
البلقانفي البلقان "مدن الأمانة التاريخية"، يقول داود أوغلو عن هذه المدن بأنها العنصر الأساسي الذي يرتكز عليه كلما رغب في استعادة الروح التاريخية للحضارة العثمانية التليدة، مضيفاً أنه بدأ بجولته حول مدن البلقان عام 1996، أي بعد انتهاء الحرب مباشرة، موضحاً أن معالم الحضارة الموجودة هناك يجب المحافظة عليها مهما كانت نوعية السلطة السياسية الحاكمة، فالإبقاء على هذه المعالم يجعل "السيادة التاريخية" للحضارة المشيّدة لها قائمة عليها للأبد. "المنهجية الحرجة"في القسم الثاني من الكتاب، وتحت عنوان "المنهجية الحرجة" الذي يعد الموضوع الأول للقسم الثاني، يتحدث داود أوغلو عن تجاربه النظرية حول الكتابة عن الحضارات والمدن، فكانت أول دراسة موسّعة تناولها فيما يتعلق بالمواضيع الحضارية عام 1999، حيث كانت بعنوان "تاريخ العالم من حيث التفاعل الحضاري والدولة العثمانية"، وكان العنصر الأهم للدراسة هو "ظاهرة المدن المركزية في التاريخ".ويوضح داود أوغلو أن المشكلة الأساسية التي يواجهها أي مؤرخ أو باحث يتناول المواضيع التاريخية والحضارية هي مشكلة "الذات والموضوعية" التي نرى أن أحد مؤسسي سوسيولوجيا المدينة "ماكس فيبر" وقع في هذا اللبس في كتابه "ذا سيتي"(المدينة)، مشيراً إلى أن فيبر يصف المدن الغربية على أنها كانت دوماً مدناً مناسبة للتجارة والاستثمار والتسويق ونيل الحريات وتطوير الأبحاث العلمية، على العكس من المدن الشرقية التي اتصفت دوماً بالتخلّف والرجعية والانغلاق.وينتقد داود أوغلو طرح فيبر القاضي بأن المدن الشرقية عرفت حياة المدينة بالتزامن مع سيطرة إسكندر الكبير عليها، موضحاً أن فيبر بذلك يطمث الحضارة الشرقية، وينفي أنها حجر الأساس للحضارات العالمية، وذلك يوقعه في بئر الانغماس بالكبر "الذاتي" البعيد عن التقييم الموضوعي، متسائلاً أين الحضارة المصرية وحضارة ما بين النهرين بالنسبة لفيبر؟ويتطرق الكاتب إلى تعريفات وتقييمات المدن العثمانية في الكتابات التاريخية في جزء يحمل عنوان "المدن العثمانية في كتابات تاريخ المدن"، ويلقي اللوم على الغرب ذي النظرة المستعلية ومن تبعه من المؤرخين وعلماء الاجتماع الشرقيين "ذوي النظر الغربية التقدمية"، متهماً إياهم بتحريف التاريخ عن مساره في اعتبار المدن العثمانية من حيث معايير المدن كالطراز المعماري والتخطيط المدني والنشاط الاقتصادي والخدمات الحكومية والتوزيع الديموغرافي، غير متزنة ومثالاً نموذجياً للمدن "المنهارة" اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وأمنياً.ويتحامل داود أغلو على "القوميين العرب" الذين يتهمون العصر العثماني بعصر "الانحطاط"، مستندين في ذلك إلى انعدام الحياة المدنية إبان حكم الدولة العثمانية، ويتساءل "إن كان ذلك انحطاطاً، فلماذا تعتمد، اليوم، أغلب المدن العربية على أرشيف الدولة العثمانية فيما يتعلق بالمعاملات الضريبية وسندات الأراضي وغيرها، أليس ذلك نموذجاً على التنظيم المدني للدولة العثمانية؟".وبعيداً عن الأرشيف، يدعو الكاتب المؤرخين العرب والأوروبيين إلى الإنصاف في رصدهم التاريخي حول المدن العثمانية، مبيّناً أن زيارة دول البلقان والأناضول ودول الشرق الأوسط، سيؤكد لهؤلاء أن المدينة العثمانية زاخرة بالطرازات المعمارية الفريدة، ومنظمة بشكل تنظيمي لا صنو له، وما يحتاجه الإنسان لرؤية الوجود الذاتي لهذه المدن هو التفكر بموضوعية وليس بتحيّز فكري حسب وصفه.
اسم الكتاب: الحضارات والمدن الكاتب: أحمد داود أوغلو دار النشر: كورا للنشر - باللغة التركية - تاريخ الصدور: 2016