"حافة الهاوية – وثيقة وطن.. الرواية التاريخية لمباحثات حافظ الأسد وهنري كيسنجر" - الحلقة الثانية
تبدأ بثينة شعبان الفصل الثالث من كتابها "حافة الهاوية - وثيقة وطن" بعرض ملخص عن علاقة الرئيس السوري حافظ الأسد بالرئيس المصري أنور السادات، وتصف الرئيسين بالصديقين الحميمين.
كان اللقاء الأول بين الرجلين أثناء الوحدة السورية المصرية التي لم تعش طويلاً في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. كما تُذكّر شعبان بتاريخ القائد العسكري المصري وبمدى إعجاب الأسد فيه، قبل أن يتلقى خيبة الأمل الأولى منه في أيلول سبتمبر 1961، كما أوضحت الوثائق المنشورة في الكتاب. وفي تعريج سريع تعود بنا الكاتبة إلى أواخر عام 1970، عندما تولى الأسد والسادات السلطة في سوريا ومصر وبفارق زمني أقل من شهر واحد، بعدما خلف السادات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، في الوقت الذي كان الأسد يقود حركته التصحيحية في تشرين الثاني نوفمبر، إذ بعد 10 أيام فقط من تولي الأسد السلطة اتجه إلى القاهرة، العاصمة السابقة للجمهورية العربية المتحدة. وهناك عقد اجتماعاً مطولاً مع السادات وقرر الرجلان أن يعملا جنباً إلى جنب ويداً بيد. في هذا الجزء تعرض الكاتبة لفترة أمنية حرجة في تاريخ مصر بعد حرب تشرين الأول – أكتوبر 1973 التي اخفقت في استعادة الأراضي المحتلة، وتركت السادات على شفا انهيار عصبي كما وصفته، حيث كانت مدينة السويس محاصرة حصاراً كاملاً من قبل الإسرائيليين، والجيش المصري الثالث كان مطوقاً، حيث أمضى السادات فترة الحرب بأكملها في اتصالات متبادلة مع هنري كيسنجر، الذي احتاج إلى كسر الاتفاق العربي الأوروبي، وإلى إحداث فجوة بين السوفييت ومعظم الأنظمة العربية، والعمل على صدع الجبهة العربية التي كانت موحدة حتى ذلك الحين. وكانت الأداتان الرئيسيتان اللتان استخدمهما كيسنجر لتحقيق برنامجه هما قلق السادات حول مصير جنوده، وتعطشه للانفتاح على الأميركيين والابتعاد عن الاتحاد السوفييتي كما أظهرت الوثيقة المنشورة في الكتاب. وتحدثت الكاتبة عن نكوث السادات بوعوده مرة أخرى للأسد فيما يخص فصل القوات المصرية عن الإسرائيلية، وتذكر بالتفصيل حيثيات اللقاء الذي جرى بين الأسد والسادات في القاهرة حينما زارها الرئيس السوري في طريقه لحضور مؤتمر عربي في الجزائر في أواخر تشرين الثاني - نوفمبر 1973. في تلك الأثناء كانت المفاوضات بين المصريين والإسرائيليين تسير قُدماً عند الكيلومتر 101، من دون حضور أميركي. واقترب الجانبان أكثر نحو إتمام اتفاقية فصل القوات في سيناء، لكن كيسنجر أفسد الاتفاق في النهاية. تقول شعبان إن الأسد كان يستشيط غضباً تجاه كل ذلك الحديث عن فصل للقوات المصرية، وسأل صديقه القديم غاضباً: "ما الذي تفعله؟ ما هذا الفصل للقوات؟ كيف يمكن لك فصل قواتك عن قوات إسرائيل وهي لا تزال تواجه سوريا على أرض المعركة؟". تقول الوثائق إن السادات كان يجلس على أريكة ذات ذراعين ويرتدي زيه العسكري الكامل، ويطلق الدخان من غليونه، مقلداً الأسلوب الأرستقراطي الأوروبي الذي أخفى خلفيته تماماً. سأله الأسد غاضباً: "هل خضنا الحرب لنحقق هذا؟". أجاب السادات بهدوء: "ألا تثق بي؟". كان الأسد على وشك الانفجار فقال: "هناك أفعال تناقض الثقة". رد عليه السادات: "حسناً إذن سألغي كل شيء". ووعد بإنهاء المحادثات إلى أن يتحقق شيء ملموس على الجبهة السورية، لكنه لم يفعل ذلك، ولم تتوقف المحادثات إلا بسبب تدخل كيسنجر. وفي كانون الأول - ديسمبر 1973، التقى الرجلان مرة أخرى في القاهرة وتعهد السادات ألا يحضر مؤتمر جنيف ما لم تحدد خطوط فصل القوات على كلتا الجبهتين، المصرية والسورية، ولكنه نكث بوعده مرة أخرى. في 18 كانون الثاني يناير 1974، نجح كيسنجر في التوصل إلى اتفاقية لفصل القوت بين مصر وإسرائيل بعد فترة من الدبلوماسية المكوكية المحمومة. فقد انسحبت إسرائيل من الضفة الغربية لقناة السويس وتراجعت عشرة كيلومترات أخرى إلى الشرق لإيجاد منطقة عازلة بين القوات المصرية والإسرائيلية تحت إدارة الأمم المتحدة. وأذعنت مصر لوجود منطقة محدودة السلاح وما تلاها من إجراءات اتفق عليها. تقول شعبان إن أيام العبور العظيم قد ولّت، وكان الأميركيون سيتولون مراقبة التزام كلا الجانبين من خلال الطلعات الجوية. في ذلك الوقت كان الرئيس الأسد على حافة الانفجار وهو يشاهد الأخبار على التلفزيون، حيث وجد نفسه وحيداً يواجه إسرائيل إن فشلت عملية السلام، لكن الولايات المتحدة أدركت الحاجة إلى الاستمرار في التعاطي مع سوريا للإبقاء على دور السادات كــ"قوة معتدلة" في السياسة العربية، ولتبرهن للعرب أن السلام واستعادة أراضيهم لا يمكن أن يتحققا إلا عن طريق الدبلوماسية الأميركية. وبعد يومين فقط من اتفاق "سيناء 1" وصل كيسنجر المزهو بانتصاره كما وصفته الكاتبة إلى دمشق لمقابلة الأسد قبل عودته إلى واشنطن، وقبل أربع وعشرين ساعة تماماً من هبوط طائرته التي أطلق عليها الصحافيون إسم "وزارة الخارجية الطائرة". عقد الأسد اجتماعاً وُصف بالعاصف مع السادات، استمر تسع ساعات في قاعة الشرف في مطار دمشق، وفي هذه المرة تقول شعبان كانت ورقة التوت قد سقطت، واتهمه الأسد بالازدواجية والطعن بالظهر، قائلاً إن اهتمام سوريا ينصب على مصر وليس على أنور السادات، وبعد نقاش طويل وعد السادات بإبقاء فرقة لمجابهة إسرائيل في سيناء، ولكنه مرة جديدة ذهب وعده أدراج الرياح.
الجولة الثانية في دمشقانتقل كيسنجر إلى قصر الروضة ولم يبقَ في المطار، لم يخفِ الأسد غضبه تجاه الإتفاقية المصرية، وكان همه الأول التأثير الذي ستحدثه الصفقة المصرية المنفردة في الشعب السوري. توالت النقاشات مع الأسد وكيسنجر ونجح الأخير في تهدئة غضب الأسد، حيث شرح المنهجية التي استخدمها لتحقيق فصل القوات بين مصر وإسرائيل. اعتقد كيسنجر أن على إسرائيل الانسحاب من الجيب الذي احتلته داخل الأراضي السورية أثناء الحرب، إضافة إلى دخول موقعين إضافيين في جبل الشيخ تم احتلالهما بعد 22 تشرين الأول أكتوبر 1973، أي بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. إلا أن استعادة القنيطرة، كبرى مدن هضبة الجولان، إلى السيادة السورية كانت تستوجب الكثير من الحكنة. وهنا تتساءل شعبان عن المصدر الذي أتى منه اقتراح القنيطرة، فلا وجود في مذكرات كيسنجر ولا في السجلات الرسمية الأميركية لأي ذكر للقنيطرة خلال هذه المرحلة من المفاوضات. وتخمّن أنه ربما ناقشها كيسنجر مع وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان، أو مع السادات، من دون أن يتم تسجيل ذلك في المحاضر الرسمية. ولكن الإشارة الأولى حول القنيطرة وردت في محضر هذا الاجتماع الرسمي بين الأسد وكيسنجر، والذي دوّنه الدكتور إسكندر لوقا. إن هذا الدليل التوثيقي الوحيد على أن مسألة القنيطرة كانت قد نُوقشت في هذه المرحلة المبكرة من العملية التفاوضية. وعن هذا الموضوع، شرح الأسد لضيفه، جغرافياً وديموغرافياً هضبة الجولان، حيث كان يعلم من خبرته العسكرية الطويلة، أن إسرائيل تقلق من وجود القوات السورية المسلحة بالمدفعية والدبابات على التلال المطلة على سهل الحولة، تلك الرقعة من الأراضي الخصبة على الجانب الغربي المحتل من هضبة الجولان. بالصورة الأشمل، كان الأسد يعلم أن إسرائيل لا يهمها بضعة كيلومترات، فقادتها يريدون تحقيق "إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل".في محضر اجتماع الأسد - كيسنجر في 20 كانون الثاني يناير 1974، عندما صرخ الرئيس الأسد في وجه كيسنجر قائلاً: "مصر تركت المعركة"، كانت القيادة العسكرية السورية قد أخبرت نظيرتها المصرية أن التحضيرات لشن هجوم معاكس تجري على قدم وساق، وأن الحرب يجب أن تستمر على الجبهتين، لكن السادات رجا الأسد أن يقبل بوقف إطلاق النار قبل أن تخسر مصر وسوريا كلّ شيء. ولكن الأسد رفض، فتصرفت مصر منفردة، وأعلنت قبولها وقف إطلاق النار في 22 تشرين الأول كانون 1973. أدركت القيادة السورية أن مواجهة إسرائيل من دون مصر خاصة في ظل الجسر الجوي الأميركي الذي ينقل كميات هائلة من السلاح والعتاد أمر مستحيل، فقبلت وقف إطلاق النار مساء 3 تشرين الثاني - نوفمبر عام 1973. وتذكّر الأسد بمرارة كما وصفتها الكاتبة، ما دار حينذاك: "أخبرني السادات على الهاتف أن هناك ضمانات من القوتين العظيمتين أن إسرائيل ستنسحب من الأراضي المحتلة، وبالطبع أن استعادة الأراضي دون استمرار الحرب هو الخيار الأفضل" ، وبعد ذلك بدأت معضلة أسرى الحرب. قناة اتصال مباشرحط الفريق التفاوضي الأميركي في تل أبيب قبل مغادرته إلى واشنطن قادماً من دمشق، وهناك تقول الرواية أن كيسنجر نقل إلى مجلس الوزراء الإسرائيلي موافقة الأسد المبدئية على انطلاق العملية التفاوضية على الجبهة السورية. ولكن غولدا مائير رفضت القيام بأية خطوة قبل إطلاق سراح أسرى الحرب الإسرائيليين. حاول كيسنجر فتح قناة خاصة للتواصل المباشر بين دمشق وواشنطن، قبِل الأسد ونشأت آلية تم من خلالها تبادل الرسائل من خلال مكتب رعاية المصالح في عاصمتي البلدين، وتم أول تواصل في 30 كانون الثاني يناير 1974، حيث نقل سكوتس تقريراً عن نتائج مباحثات كيسنجر مع الإسرائيليين. أُبلغت سوريا مجدداً أن المفاوضات غير ممكنة قبل أن تقدم لائحة بأسماء الأسرى الإسرائيليين لديها وتسمح للصليب الأحمر الدولي بزيارتهم. وبعد أقل من أسبوع أرسل كيسنجر مقترحاً لكسر الجمود حول قضية أسرى الحرب. قَبِلَ الأسد بمقترح النقاط الخمس، وبذلك بدأت المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل. وبعد لقاء القمة العربي في الجزائر، جمع الأسد والسادات وبو مدين وفيصل في 12 فبراير شباط 1974، أخذ الأسد يستعد من جهته لمعركة دبلوماسية طويلة وشاقة، بعد أن سُلبت منه أهم ورقتي ضغط في جعبته، ألا وهما الجبهة المصرية والحظر النفطي. الفصل الرابع: الجولة المكوكية الأولىفي الفصل الرابع، تستعرض الكاتبة الجولة المكوكية التي قام بها كيسنجر في 26 فبراير شباط عام 1974، حيث قام برحلة أسمتها "بالاستكشافية" التي طال انتظارها في الشرق الأوسط. حيث تُعد هذه الرحلة بمثابة الخطة الرسمية الأولى نحو فصل القوات السوري – الإسرائيلي. تنقّل كيسنجر في أقل من أسبوع بين دمشق وتل أبيب والقاهرة، عاقداً سلسلة اجتماعات متتالية مع الأسد والسادات وغولدا مائير. وكان أحد الأهداف الأساسية وراء تلك الرحلة هو حل قضية أسرى الحرب الإسرائيليين بعد الضغوطات التي تعرضت لها مائير بسبب الهجوم العربي المفاجئ.بدأت المحادثات بدعوة مفاجئة – غير رسمية – من كيسنجر إلى الأسد لزيارة البيت الأبيض، الذي قال ممازحاً إن ذلك من شأنه أن يُحسّن لغة الأسد الإنكليزية. وتذكُر شعبان في هذا السياق أن الرئيس الأسد كان يتقن الإنجليزية إلى حدٍ كبير ولكنه كان يرفض الحديث إلا باللغة العربية، لتعزيز هويته العربية. لقد قدم رؤساء أميركا، ابتداءً بكارتر وانتهاءً بكلينتون، مروراً بجورج بوش الأب، دعوات مشابهه للأسد لزيارة الولايات المتحدة، وكان يرفض تلبيتها في جميع المناسبات بكل أدب، تماماً مثلما فعل مع نيكسون وكيسنجر عام 1974. وتذكر محاضر الجلسات المنشورة في هذا الكتاب بتاريخ 26 فبراير شباط 1974، أن كيسنجر عرض تصوره للأيام القليلة المقبلة، آملاً أن ينهي الجلسة بسرعة، وقال إنه يريد إعلان تسلّمه قائمة أسماء أسرى الحرب الإسرائيليين في دمشق أولاً. أما حقيقة الأمر أنه تسلّمها عن طريق مكتب المصالح السورية في واشنطن في 20 فبراير شباط. لم يكن كيسنجر ليسافر إلى المنطقة لو لم يحمل تلك القائمة في جيبه، لكن الوقت أصبح مؤاتياً للاستفادة من هذا الامتياز لمصلحة سوريا، حيث وافق الأسد بحماسة. وتابع كيسنجر أنه سيأخذ القائمة ويسافر بها إلى تل أبيب، حيث سيطلب من الإسرائيليين تقديم اقتراح حول فصل القوات مع سوريا، وقال متذمراً "أعلم أنني سأمضي ليلة طويلة في إسرائيل غداً".في هذه المرحلة دخل عامل جديد إلى الواجهه، وهو وزير الخارجية السوفييتي آندريه غروميكو، الذي أعلن عن طريق اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية نيّة غروميكو القيام بجولة في المنطقة مع وزير خارجية الولايات المتحدة في وقت واحد، ما اعتبره كيسنجر إقحاماً في الدبلوماسية الأميركية الشرق أوسطية، وذهب شاكياً للرئيس الأسد الذي تجنّب بدوره الوقوع في فخّ القوتين العظميين. إذ كان الاتحاد السوفييتي مزوّد الأسلحة الرئيسي لسوريا، كما كان الارتباط الدبلوماسي بالولايات المتحدة الفرصة الأفضل للأسد لاستعادة الأراضي المحتلة.