كيف تؤثر الهجرة في عالمنا؟

البلد الأصلي للمهاجرين يتأثر كثيراً بهجرة أبنائه إلى الخارج، وبخاصة ما يسميه الباحث بول كوليير في كتابه هذا بهجرة العقول واستنزافها.

كتاب "الهجرة: كيف تؤثر في عالمنا؟" للباحث بول كوليير

 مراجعة: محمد يسري أبو هدور 

 

في بداية الكتاب يطرح بول كوليير عدداً من التساؤلات حول المعايير الأخلاقية والقيمية المرتبطة بموضوع الهجرة.

من المعروف أن الهجرة تحدث عندما تغادر العناصر البشرية أوطانها الفقيرة البائسة لتستوطن بلدانا أخرى أكثر ثراء واستقراراً. يتساءل كوليير هنا عن أخلاقية ذلك الفعل، أليس للأوطان الأصلية لهؤلاء المهاجرين حق عليهم؟ لماذا لا يمكثون فيها ويحاولون أن يستخدموا قدراتهم وإمكاناتهم في تحسين الأوضاع بدلاً من استثمار تلك الطاقات في أماكن غريبة عنهم؟

السؤال الثاني الذي يطرحه المؤلف، هل يحق لدولة ما أن تفرض قيوداً على حركة الهجرة إليها؟ وإلى أي مدى تتوافق تلك القيود مع المعايير الأخلاقية البشرية التي تؤكد على إعلاء قيم الإنسانية والتراحم؟

يلاحظ كوليير أن العديد من المجتمعات المتطورة والمتقدمة، تفرض قيوداً صارمة على الهجرة إليها، وأنها تحاول أن تبقي نفسها في عزلة عن العالم الخارجي.

وهل لتبني بعض من تلك الدول مثل اليابان والنرويج، برامج مساعدات ضخم لسكان الدول الأشد فقراً، يمكن أن نجد فيه محاولة للاعتراف بالذنب ولتسكين أوضاع تلك الدول المنكوبة مع إبقاء سكانها في أوطانهم من دون أن يتحركوا صوب حدودها؟

يرى كوليير أن أهم العوائق التي تجعل دولة معينة ترفض استقبال المهاجرين الراغبين في النزوح إليها، هي تلك المرتبطة بالهوية والنزعة القومية، فسكان البلد الذين يرتبطون ببعضهم البعض بروابط قومية وتاريخية معينة، يحرصون على استبقاء تلك الرابطة على حالها، وتقويتها وعدم التفريط في صيغتها النقية الصافية.

ومن هنا فإنهم يعارضون استقبال عناصر أجنبية وافدة من ثقافات وهويات وقوميات مختلفة.

ويؤكد كوليير أن للهوية معنىً مختلفاً في مختلف أنحاء العالم، ففي فرنسا مثلاً توجد هوية قوية تؤكد على الانتماء لفرنسا. أما في دول أخرى متقدمة كبلجيكا وكندا، فإن هناك التباساً يحيط بمسألة الهوية المشتركة، وذلك لأن هناك العديد من العناصر الثقافية والتاريخية التي لم تستطع أن تمتزج مع بعضها البعض أو تنصهر في بوتقة واحدة.

 

لماذا تتصاعد الهجرة؟

يرى بول كوليير أن هناك أسباباً منطقية تساهم في إفقار بعض الدول، من أهم تلك الأسباب الموقع الجغرافي السيء والإرث التاريخي المغرق في ثقافة الاستبداد، والوقوع تحت رحمة الاستعمار الخارجي وتوافر رؤوس أموال ضعيفة. ولكن كوليير يؤكد أن كل العناصر السابقة تأتي خلف ما يسمّيه بـ(النموذج الاجتماعي السياسي الفاشل)، ذلك الذي لا تستطيع فيه الأيدي العاملة في الدول الفقيرة أن تعمل بكامل إنتاجيتها وطاقتها.

 ويؤكد المؤلف أن العمال الذين يهاجرون من بلدان فقيرة إلى بلدان غنية، يبدلون في الواقع (نموذجاً اجتماعيا بآخر). ونتيجة لذلك، فإن انتاجيتهم تنطلق إلى أعلى، وأنه من الممكن الوصول إلى الطموح نفسه في الإنتاجية، لو انتشرت نماذج إنتاجية فعالة في المجتمعات ذات الإنتاجية المنخفضة، بدلاً من أن ينتقل الناس إلى مجتمعات ذات إنتاجية عالية.

ويرى كوليير أن معدلات الهجرة تتناسب طردياً مع ثلاثة نقاط رئيسة، وهي حجم الفجوة في الدخل ما بين البلد الفقير والبد الغني، ووجود دخل كافٍ للمهاجرين في بلادهم ليسمح لهم بتحمل تكاليف الهجرة، والعنصر الثالث هو حجم شتات مهاجري البلد الفقير في الدولة الغنية.

ويلاحظ كوليير أن استجابة الدول الغنية للمطالب المتزايدة بالهجرة إليها من الدول الفقيرة، تأتي وفق معايير اقتصادية وسياسية وأيديولوجية متشابكة، وأن القول بكون ارتفاع نسبة البطالة في تلك الدول هو السبب في فرضها قيوداً على الهجرة إليها، هو أمر منافٍ للحقيقة.

 

كيف تتقبل المجتمعات المضيفة المهاجرين؟

يؤكد كوليير أنه إذا استثنينا جميع المعايير الأخلاقية التي من شأنها أن تعطينا جواباً واضحاً على هذا السؤال، فإن الإجابة عليه سوف تتحد بموجب الطريقة التي ستتجاوب بها المجتمعات المضيفة مع المهاجرين، وبالنظرة التي سينظرون بها إليهم.

يتحدد تجاوب المجتمع مع العناصر الوافدة، بعدد من النقاط، تأتي الثقة وروح التعاون على رأسها جميعاً، فالثقة المتبادلة ما بين الطرفين تؤدي إلى إمكانية إقامة علاقة نفعية حقيقية فيما بينهما، فتصبح المصلحة هي الهدف الأعلى المنشود، ويكف الطرفان على العمل للفوز والانتصار على نحو منفرد.

ويلاحظ كوليير أن هناك علاقة ما بين سيادة القانون في مجتمع ما، والثقة الموجودة ما بين أفراده وبعضهم البعض، فالمجتمعات التي يكون حكم القانون فيها ضعيفاً أو أن هناك فرصاً كبيرة للتحايل عليه، يسود فيها النزعة الانتهازية التي تحاول أن تغتنم الفرص من دون احترام المصلحة المشتركة للعناصر المحيطة، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى فقدان الثقة ومن ثم روح التعاون.

الثقافة الأصلية للمهاجرين هي أيضاً من العوامل الرئيسة التي تؤثر في سرعة وكيفية اندماجهم في المجتمعات المضيفة، فالمهاجرون يأتون وهم محمّلون بأيديولوجيات وعقائد وأفكار مترسخة في وجدانهم الجمعي، ومن الطبيعي أنهم يفاجأون بمنظومات فكرية جديدة مختلفة بشكل كامل.

السياسات التي تتبعها المجتمعات المضيفة باتجاه الوافدين اليها، لها دور كبير في تغيير هوياتهم وثقافاتهم الاصيلة.

يضرب كوليير مثالين متناقضين على ذلك الموضوع، وهما أميركا وألمانيا.

في أميركا تظهر الدراسات التي يستند إليها المؤلف أن الجيل الثاني من المهاجرين دائماً ما يختار التخلي عن هويته الأم، ويختار طوعاً أن ينغمس في ثقافته الأميركية.

أما في ألمانيا، فقد فشلت السياسات الحكومية التي لطالما اعتادت أن تعامل المهاجرين الأتراك على كونهم مجرد أيدي عاملة رخيصة، في إدماجهم في المجتمع أو تغيير ثقافتهم، فاستمروا دائماً في اعتبار أنفسهم أتراكاً أكثر من كونهم مواطنين ألمان.

ويلاحظ كوليير أن هناك أموراً معينة تبيّن قدرة المهاجر على الاندماج في مجتمعه الجديد، منها استخدامه للغته الأصلية في بيته، ومنها تعريفه لنفسه أمام جيرانه. فبحسب دراسة أجريت على مجموعة من المكسيكيين المهاجرين لأميركا، فإن الشخص الذي يستخدم اللغة الإسبانية في بيته ويعرّف نفسه بأنه من أميركا اللاتينية أمام جيرانه، يكون أصعب في عملية الاندماج مع مثيله الذي يتكلم الإنجليزية ويعرّف نفسه على كونه مواطناً أميركياً.

 

ما هي النتائج الاقتصادية المترتبة على الهجرة؟

يرى كوليير أن المبادئ الاقتصادية المعروفة، تؤكد على أنه في حالة قيام أعداد كبيرة من المهاجرين بالانتقال إلى مجتمع ما، فإنه سوف يحدث وفرة في الأيدي العاملة، بسبب أن العمال القادمين سوف يتشاركون في نفس الفرص مع العمالة الأصلية في الدولة، وهو ما يعني أن الطبقة الفقيرة في المجتمع سوف تزداد فقراً لانخفاض أجورها، في الوقت الذي تتضخم فيه ثروات الطبقة الثرية، لكونها هي الطبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج.

ولكن مع تلك النظرة النمطية للموضوع، فإن المؤلف يلفت النظر إلى أن هناك دراسات أخرى أكثر تشابكاً وتعقيداً تثبت أنه من الممكن أن تزيد أجور العمالة الأصلية في البلد بعد مشاركة العمالة المهاجرة.


كيف يحدث ذلك؟

يذكر كوليير أن هناك سببين رئيسين لذلك، السبب الأول، هو أن العمال المهاجرين يميلون للسكن والإقامة في بعض المناطق النائية والمتطرفة، لأن تلك المناطق تحديداً قد تشهد إقامة مشروعات اقتصادية وتنموية، مما يجعل هناك فرصة لعمل المهاجرين.

يؤدي ذلك إلى ظهور سوق جديد مرتبط بتلك الرقعة الجغرافية، وينشط ذلك السوق في النواحي الخدمية التي يقوم عليها المواطنون الأصليون، مما يؤدي إلى تزايد أجورهم وثروتهم.

السبب الثاني، هو أنه وفي الكثير من الحالات، تكون العمالة المهاجرة أفضل على الصعيد التقني والمهارى من العمالة الأصلية، وبدلاً من حدوث منافسة ما بين الطرفين، يحدث تكامل ونقل للخبرات مما يزيد من مهارة العمال من أهل البلد، ويؤدي إلى رفع أجورهم.

  الجوانب الإيجابية التي قد توجد في موضوع الأجور، بالتأكيد لن تتوافر في بعض النواحي الأخرى، من أهمها السكن.

فالمهاجرون الذين يقدمون بأعداد كبيرة يميلون دائماً للإقامة في المناطق الفقيرة والعشوائية، وهي نفسها المناطق التي يعيش فيها الفقراء من السكان الأصليين للبلد.

هنا لا تتأثر الطبقة الغنية بتلك المسألة، بل تعاني الطبقة الفقيرة منها بشدة، ولا تنحصر تلك المعاناة في تكاليف السكن، بل تمتد إلى فرص التعليم والدراسة كذلك. فالمدارس الحكومية التي توفر فرص محدودة للفقراء، تجد نفسها مطالبة بتوفير فرص مماثلة للمهاجرين، الذين يتطلب تعليمهم جهوداً أكبر وتكاليف أكبر لاختلافهم في اللغة والتعليم الأولي عن تلك السائدة في المجتمع المضيف لهم.

 

هل نحتاج إلى المهاجرين للتعويض عن كبار السن؟

من الموضوعات الديموغرافية التي تثيرها قضية الهجرة، ذلك السؤال الذي يحاول أن يربط ما بين شيخوخة المجتمع ومعدلات الهجرة الشبابية إليه.

فالكثير من المجتمعات الغربية والأسيوية مثل إيطاليا وروسيا والصين، تتعرض لمشكلة حقيقية فيما يخص ارتفاع نسبة معدلات الأعمار المرتفعة ومن هم في سن الشيخوخة، وتناقص نسبة الشباب، مما يعني أن تلك المجتمعات في القريب العاجل، سوف تنخفض نسبة الأيدي العاملة فيها، بحيث يكون كل شاب عامل مطالب بأن يعيل عدداً من الأفراد الكبار في السن الذين لا يعملون.

ويشرح كوليير كيف أن تلك المجتمعات التي تتعرض لهذه المشكلة، تقوم بالاعتماد على استقدام العمالة الأجنبية والتشجيع على الهجرة إليها بأشكال متعددة، وذلك حتى تضمن توافر القوى البشرية اللازمة لمتابعة العمل في المشاريع التنموية والتحديثية المستقبلية.

ولكن كوليير بعد أن يعرض المشكلة من جميع الجوانب، يقدم فكرة مبتكرة لحلها، حيث يؤكد أن مشكلة شيخوخة المجتمع ليست ذات بعد ديموغرافي فحسب، بل أن فيها بعداً سياسياً تنظيمياً مهماً.

كيف ذلك؟

يرى كوليير أن القوانين التي تحدد سن التقاعد بستين سنة أو بخمسة وستين سنة، هي قوانين فاشلة ولا تتفق مع المعطيات المعلوماتية التي تخبرنا بها أهم الإحصائيات وقواعد البيانات في الغرب.

ذلك لأنه يفترض أن يتم ربط سن التقاعد بالعمر المتوقع للإنسان، ولما كان ذلك العمر يزيد طردياً لأسباب التقدم التكنولوجي والرعاية الصحية والتغذية الممتازة في الدول الغربية، فإن العمر المتوقع للإنسان قد زاد عن مثيله في الجيل السابق بما يقرب من ثماني سنوات، وهو ما يعني -بحسب المؤلف-أن سن التقاعد المناسب حالياً قد يقترب من الثلاثة وسبعين عاماً.

المهاجرون: رابحون أم خاسرون؟

يرى كوليير أن هناك أرباحاً كبيرة يجنيها المهاجرون من الهجرة، وفي الوقت ذاته فإنهم يتعرضون لبعض الخسائر التي لا يمكن إهمال عواقبها.

بالنسبة للأرباح فهي أمر طبيعي ومنطقي إلى حد بعيد، فالمهاجر الذي عادة يكون من العمال متدنيي الأجور في أوطانهم الرئيسة، ينتقل إلى مجتمع غني وثري، ويحصل فيه نظراؤه على أضعاف راتبه.

المشكلة الأهم بالنسبة إلى المهاجر، هي أن يجد لنفسه فرصة في منظومة العمل والثروة في البلد المضيف، وهي مهمة ليست بالمستحيلة إذا أدركنا أن المهاجر هو الذي ينتقي الدولة التي سوف يهاجر إليها، فهي لا تُفرض عليه. ومن ثم فإن معظم المهاجرين يقومون بالهجرة إلى الدول التي توجد لهم فرص للعمل فيها، وذلك حسب إمكانياتهم وخبراتهم ومهاراتهم السابقة.

على الجانب الأخر، فإن كوليير يرصد ثلاثة خسائر كبرى يتكبدها معظم المهاجرين خلال رحلة الهجرة، الأولى هي تكسير الروابط الاجتماعية والأسرية التي كانت موجودة في البلد الأصلي للمهاجر. فصعوبة عملية الهجرة أجبرت من يقومون بها على التصرف بشكل فردي، وعدم اصطحاب أسرهم معهم. وفي الكثير من الأحيان يتم العمل على تأسيس أسرة جديدة بعد الوصول إلى البلد المضيف، ويتم ذلك عن طريق الارتباط بزوجة من هذا البلد لدواعي الحصول على تصاريح الإقامة، أو للاستفادة من الدخل المرتفع للشريك.

الخسارة الثانية هي خسارة الكثير من الأموال لتسهيل السفر من البلد الأصلي إلى البلد المضيف، حيث يلاحظ المؤلف أن معظم البلاد المصدرة للمهاجرين، يسود فيها مناخ مشبع بالفساد المالي، ويتأثر به المهاجر عندما يجبر على دفع الكثير من الإكراميات والرشى لتسهيل سفره وحصوله على الأوراق المطلوبة.

أما الخسارة الثالثة فهي خسارة الحياة نفسها، لأنه في الكثير من الأحيان يقوم الراغبون بالهجرة باللجوء إلى الطرق غير قانونية وغير الشرعية لإتمام هجرتهم، وهو ما يعرّض حياتهم للخطر خصوصاً لو تمت عملية الهجرة عبر البحر.

بالإضافة إلى كل ما سبق، فإن قطاعاً كبيراً من المهاجرين يجد نفسه خاسراً عندما يواجه الظروف الصعبة التي تنتظره في سوق العمل في الدولة المضيفة.

يشرح كوليير تلك النقطة بكثير من التفصيل، حيث يوضح أنه، وعلى عكس الشائع، فإن المنافسة الشرسة التي تنتظر المهاجرين لا تتمثل في العمال من أهل البلد المضيف الأصليين، بل أنها تكمن في المهاجرين الآخرين.

تفوق العامل الوطني على مثيله المهاجر، مرجعه معرفته باللغة والأعراف والتقاليد السائدة، وكلها عوامل تحسّن من إنتاجيته، مما يجّنبه المنافسة مع المهاجر، حتى لو كان الثاني يتقاضى أجراً أقل.

ويرى كوليير أن أكثر الرافضين للتوسع في الاستقدام والهجرة، هم أولئك المهاجرون السابقون الذين استقروا في البلد المضيف واستطاعوا أن يحصلوا على فرص عمل جيدة ومربحة، فهم يرون في القادمين الجدد مصدر تهديد حقيقي لحياتهم الجديدة.

   

كيف تؤثّر الهجرة على البلد الأصلي للمهاجرين؟

مما لا شك فيه أن البلد الأصلي للمهاجرين يتأثر كثيراً بهجرة الكثير من مواطنيه إلى الخارج، وتتباين أوجه التأثير وأشكاله سلباً أو إيجاباً. ويقرر كوليير أن أكبر التأثيرات السلبية التي تواجهها بلد المهاجرين، هي أنه يفقد الكثير من خيرة أبنائه، فيما يسميه المؤلف استنزاف للعقول، وذلك بسبب أنه وفي أغلب الأحيان تكون العناصر المهاجرة من الدول الفقيرة هي تلك التي تمتلك مؤهلات وقدرات ومهارات كبيرة ولا تستطيع أن توظفها بشكل جيد، أو تتحصل منها على عوائد ومكاسب مادية مرضية في بلدها.

أما بالنسبة للتأثيرات الإيجابية للهجرة، فيوضح كوليير أن أهمها على الإطلاق هو الحوالات المالية التي يرسلها المهاجرون إلى عائلاتهم.

 

ولكن لماذا يلتزم المهاجر بتحويل الأموال لعائلته؟

يلاحظ كوليير أن قرار الهجرة عادة ما يتم الاتفاق عليه ما بين المهاجر وأفراد أسرته وعائلته، وأن أغلب المهاجرين يكونون من أولئك الذين يرتبطون بعلاقات عاطفية قوية بأفراد أسرتهم. ولا عجب في ذلك، إذا عرفنا أن الدول المصدرة للمهاجرين تكون من الدول الفقيرة التي تغلب عليها نزعة تقديس الحياة الأسرية والارتباط العائلي. كما أن كوليير يحيل القارئ إلى عدد من الدراسات التي تثبت أن نسبة كبيرة من المهاجرين تقوم بالهجرة والتغرب لتحقيق أهداف وطموحات عائلاتهم بالدرجة الأولى وليست أهدافهم الشخصية.

ويؤكد كوليير أهمية التحويلات المادية للمغتربين في تنمية اقتصاد بلدانهم الأصلية، وتحقيق نهضة تحديثية فيها، ويضرب على ذلك العديد من الأمثلة، منها أن المهاجرين المكسيكيين في الولايات المتحدة الأميركية يرسلون 31% من مكاسبهم إلى المكسيك، فيما يقوم المهاجرون السنغاليون في إسبانيا بتحويل 50% من أرباحهم إلى أهاليهم في السنغال.

ويبيّن كوليير أهمية تلك التحويلات في نهضة البلاد النامية، إذ يورد بعض المعلومات التي تؤكد أنه في عام 2012 قد تم تحويل نحو 400 مليار دولار من المهاجرين إلى بلدانهم. وتعمل تلك الأموال الطائلة على تحقيق نمو اقتصادي حقيقي في الدول النامية، إذ تُستثمر في اقامة المشروعات الاقتصادية الكبرى في تلك الدول، وبالتالي إيجاد فرص عمل حقيقة للأيدي العاملة فيها، مما ينتج عنه تراجع في نسب الهجرة إلى الخارج.

ويلاحظ المؤلف أن هناك علاقة وثيقة ما بين التحويلات المالية والقيود المفروضة على الهجرة، فكلما زادت الدول المضيفة من درجة التشدد في السماح بالهجرة، كلما زادت التحويلات المالية من جانب المهاجرين إلى أسرهم، بينما نجد أن السياسات الأقل تشدداً تؤدي إلى تناقص التحويلات.

يفسّر كوليير ذلك، بأنه في الحالة الأولى يقوم المهاجر بإرسال الالتزامات المالية المطالب بها إلى أهله، بينما في الحالة الثانية يكون من الأفضل والأوفر له، أن يقوم باستقدام أهله إلى البلد المضيف، وبالتالي تنعدم الحاجة إلى إرسال أموال إلى البلد الأصلي.

 

تقييم عام للكتاب

استطاع بول كوليير في هذا الكتاب أن يقدم رؤية متكاملة لموضوع الهجرة، وما يرتبط به من مسائل وقضايا وتساؤلات.

ومن أهم مميزات هذا الكتاب أن مؤلفه قد عمل على دراسة تأثيرات الهجرة على الجهات الثلاث الرئيسة، وهي المهاجرون والبلد الأصلي لهم، والبلد المضيف لهم، حيث أوضح كوليير الجوانب والتأثيرات الإيجابية والسلبية لكل جهة من الجهات الثلاث.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد عمل المؤلف على مناقشة بعض القضايا التي قد تبدو نتائجها للحظة الأولى محسومة ولا تحتاج إلى النقاش، مثل تأثيرات العمالة المهاجرة على العمالة الأصلية في البلد المضيف، وحاجة الدول الصناعية إلى المهاجرين لسد الفجوات الديموغرافية التي ستنشأ على المدى البعيد من جراء ارتفاع معدلات الشيخوخة وتناقص معدلات المواليد.