كيف تؤثر الهجرة في عالمنا؟
البلد الأصلي للمهاجرين يتأثر كثيراً بهجرة أبنائه إلى الخارج، وبخاصة ما يسميه الباحث بول كوليير في كتابه هذا بهجرة العقول واستنزافها.
كيف يحدث ذلك؟ يذكر كوليير أن هناك سببين رئيسين لذلك، السبب الأول، هو أن العمال المهاجرين يميلون للسكن والإقامة في بعض المناطق النائية والمتطرفة، لأن تلك المناطق تحديداً قد تشهد إقامة مشروعات اقتصادية وتنموية، مما يجعل هناك فرصة لعمل المهاجرين. يؤدي ذلك إلى ظهور سوق جديد مرتبط بتلك الرقعة الجغرافية، وينشط ذلك السوق في النواحي الخدمية التي يقوم عليها المواطنون الأصليون، مما يؤدي إلى تزايد أجورهم وثروتهم. السبب الثاني، هو أنه وفي الكثير من الحالات، تكون العمالة المهاجرة أفضل على الصعيد التقني والمهارى من العمالة الأصلية، وبدلاً من حدوث منافسة ما بين الطرفين، يحدث تكامل ونقل للخبرات مما يزيد من مهارة العمال من أهل البلد، ويؤدي إلى رفع أجورهم. الجوانب الإيجابية التي قد توجد في موضوع الأجور، بالتأكيد لن تتوافر في بعض النواحي الأخرى، من أهمها السكن. فالمهاجرون الذين يقدمون بأعداد كبيرة يميلون دائماً للإقامة في المناطق الفقيرة والعشوائية، وهي نفسها المناطق التي يعيش فيها الفقراء من السكان الأصليين للبلد. هنا لا تتأثر الطبقة الغنية بتلك المسألة، بل تعاني الطبقة الفقيرة منها بشدة، ولا تنحصر تلك المعاناة في تكاليف السكن، بل تمتد إلى فرص التعليم والدراسة كذلك. فالمدارس الحكومية التي توفر فرص محدودة للفقراء، تجد نفسها مطالبة بتوفير فرص مماثلة للمهاجرين، الذين يتطلب تعليمهم جهوداً أكبر وتكاليف أكبر لاختلافهم في اللغة والتعليم الأولي عن تلك السائدة في المجتمع المضيف لهم. هل نحتاج إلى المهاجرين للتعويض عن كبار السن؟ من الموضوعات الديموغرافية التي تثيرها قضية الهجرة، ذلك السؤال الذي يحاول أن يربط ما بين شيخوخة المجتمع ومعدلات الهجرة الشبابية إليه. فالكثير من المجتمعات الغربية والأسيوية مثل إيطاليا وروسيا والصين، تتعرض لمشكلة حقيقية فيما يخص ارتفاع نسبة معدلات الأعمار المرتفعة ومن هم في سن الشيخوخة، وتناقص نسبة الشباب، مما يعني أن تلك المجتمعات في القريب العاجل، سوف تنخفض نسبة الأيدي العاملة فيها، بحيث يكون كل شاب عامل مطالب بأن يعيل عدداً من الأفراد الكبار في السن الذين لا يعملون. ويشرح كوليير كيف أن تلك المجتمعات التي تتعرض لهذه المشكلة، تقوم بالاعتماد على استقدام العمالة الأجنبية والتشجيع على الهجرة إليها بأشكال متعددة، وذلك حتى تضمن توافر القوى البشرية اللازمة لمتابعة العمل في المشاريع التنموية والتحديثية المستقبلية. ولكن كوليير بعد أن يعرض المشكلة من جميع الجوانب، يقدم فكرة مبتكرة لحلها، حيث يؤكد أن مشكلة شيخوخة المجتمع ليست ذات بعد ديموغرافي فحسب، بل أن فيها بعداً سياسياً تنظيمياً مهماً. كيف ذلك؟ يرى كوليير أن القوانين التي تحدد سن التقاعد بستين سنة أو بخمسة وستين سنة، هي قوانين فاشلة ولا تتفق مع المعطيات المعلوماتية التي تخبرنا بها أهم الإحصائيات وقواعد البيانات في الغرب. ذلك لأنه يفترض أن يتم ربط سن التقاعد بالعمر المتوقع للإنسان، ولما كان ذلك العمر يزيد طردياً لأسباب التقدم التكنولوجي والرعاية الصحية والتغذية الممتازة في الدول الغربية، فإن العمر المتوقع للإنسان قد زاد عن مثيله في الجيل السابق بما يقرب من ثماني سنوات، وهو ما يعني -بحسب المؤلف-أن سن التقاعد المناسب حالياً قد يقترب من الثلاثة وسبعين عاماً.
المهاجرون: رابحون أم خاسرون؟ يرى كوليير أن هناك أرباحاً كبيرة يجنيها المهاجرون من الهجرة، وفي الوقت ذاته فإنهم يتعرضون لبعض الخسائر التي لا يمكن إهمال عواقبها. بالنسبة للأرباح فهي أمر طبيعي ومنطقي إلى حد بعيد، فالمهاجر الذي عادة يكون من العمال متدنيي الأجور في أوطانهم الرئيسة، ينتقل إلى مجتمع غني وثري، ويحصل فيه نظراؤه على أضعاف راتبه. المشكلة الأهم بالنسبة إلى المهاجر، هي أن يجد لنفسه فرصة في منظومة العمل والثروة في البلد المضيف، وهي مهمة ليست بالمستحيلة إذا أدركنا أن المهاجر هو الذي ينتقي الدولة التي سوف يهاجر إليها، فهي لا تُفرض عليه. ومن ثم فإن معظم المهاجرين يقومون بالهجرة إلى الدول التي توجد لهم فرص للعمل فيها، وذلك حسب إمكانياتهم وخبراتهم ومهاراتهم السابقة. على الجانب الأخر، فإن كوليير يرصد ثلاثة خسائر كبرى يتكبدها معظم المهاجرين خلال رحلة الهجرة، الأولى هي تكسير الروابط الاجتماعية والأسرية التي كانت موجودة في البلد الأصلي للمهاجر. فصعوبة عملية الهجرة أجبرت من يقومون بها على التصرف بشكل فردي، وعدم اصطحاب أسرهم معهم. وفي الكثير من الأحيان يتم العمل على تأسيس أسرة جديدة بعد الوصول إلى البلد المضيف، ويتم ذلك عن طريق الارتباط بزوجة من هذا البلد لدواعي الحصول على تصاريح الإقامة، أو للاستفادة من الدخل المرتفع للشريك. الخسارة الثانية هي خسارة الكثير من الأموال لتسهيل السفر من البلد الأصلي إلى البلد المضيف، حيث يلاحظ المؤلف أن معظم البلاد المصدرة للمهاجرين، يسود فيها مناخ مشبع بالفساد المالي، ويتأثر به المهاجر عندما يجبر على دفع الكثير من الإكراميات والرشى لتسهيل سفره وحصوله على الأوراق المطلوبة. أما الخسارة الثالثة فهي خسارة الحياة نفسها، لأنه في الكثير من الأحيان يقوم الراغبون بالهجرة باللجوء إلى الطرق غير قانونية وغير الشرعية لإتمام هجرتهم، وهو ما يعرّض حياتهم للخطر خصوصاً لو تمت عملية الهجرة عبر البحر. بالإضافة إلى كل ما سبق، فإن قطاعاً كبيراً من المهاجرين يجد نفسه خاسراً عندما يواجه الظروف الصعبة التي تنتظره في سوق العمل في الدولة المضيفة. يشرح كوليير تلك النقطة بكثير من التفصيل، حيث يوضح أنه، وعلى عكس الشائع، فإن المنافسة الشرسة التي تنتظر المهاجرين لا تتمثل في العمال من أهل البلد المضيف الأصليين، بل أنها تكمن في المهاجرين الآخرين. تفوق العامل الوطني على مثيله المهاجر، مرجعه معرفته باللغة والأعراف والتقاليد السائدة، وكلها عوامل تحسّن من إنتاجيته، مما يجّنبه المنافسة مع المهاجر، حتى لو كان الثاني يتقاضى أجراً أقل. ويرى كوليير أن أكثر الرافضين للتوسع في الاستقدام والهجرة، هم أولئك المهاجرون السابقون الذين استقروا في البلد المضيف واستطاعوا أن يحصلوا على فرص عمل جيدة ومربحة، فهم يرون في القادمين الجدد مصدر تهديد حقيقي لحياتهم الجديدة.
كيف تؤثّر الهجرة على البلد الأصلي للمهاجرين؟ مما لا شك فيه أن البلد الأصلي للمهاجرين يتأثر كثيراً بهجرة الكثير من مواطنيه إلى الخارج، وتتباين أوجه التأثير وأشكاله سلباً أو إيجاباً. ويقرر كوليير أن أكبر التأثيرات السلبية التي تواجهها بلد المهاجرين، هي أنه يفقد الكثير من خيرة أبنائه، فيما يسميه المؤلف استنزاف للعقول، وذلك بسبب أنه وفي أغلب الأحيان تكون العناصر المهاجرة من الدول الفقيرة هي تلك التي تمتلك مؤهلات وقدرات ومهارات كبيرة ولا تستطيع أن توظفها بشكل جيد، أو تتحصل منها على عوائد ومكاسب مادية مرضية في بلدها. أما بالنسبة للتأثيرات الإيجابية للهجرة، فيوضح كوليير أن أهمها على الإطلاق هو الحوالات المالية التي يرسلها المهاجرون إلى عائلاتهم. ولكن لماذا يلتزم المهاجر بتحويل الأموال لعائلته؟ يلاحظ كوليير أن قرار الهجرة عادة ما يتم الاتفاق عليه ما بين المهاجر وأفراد أسرته وعائلته، وأن أغلب المهاجرين يكونون من أولئك الذين يرتبطون بعلاقات عاطفية قوية بأفراد أسرتهم. ولا عجب في ذلك، إذا عرفنا أن الدول المصدرة للمهاجرين تكون من الدول الفقيرة التي تغلب عليها نزعة تقديس الحياة الأسرية والارتباط العائلي. كما أن كوليير يحيل القارئ إلى عدد من الدراسات التي تثبت أن نسبة كبيرة من المهاجرين تقوم بالهجرة والتغرب لتحقيق أهداف وطموحات عائلاتهم بالدرجة الأولى وليست أهدافهم الشخصية. ويؤكد كوليير أهمية التحويلات المادية للمغتربين في تنمية اقتصاد بلدانهم الأصلية، وتحقيق نهضة تحديثية فيها، ويضرب على ذلك العديد من الأمثلة، منها أن المهاجرين المكسيكيين في الولايات المتحدة الأميركية يرسلون 31% من مكاسبهم إلى المكسيك، فيما يقوم المهاجرون السنغاليون في إسبانيا بتحويل 50% من أرباحهم إلى أهاليهم في السنغال. ويبيّن كوليير أهمية تلك التحويلات في نهضة البلاد النامية، إذ يورد بعض المعلومات التي تؤكد أنه في عام 2012 قد تم تحويل نحو 400 مليار دولار من المهاجرين إلى بلدانهم. وتعمل تلك الأموال الطائلة على تحقيق نمو اقتصادي حقيقي في الدول النامية، إذ تُستثمر في اقامة المشروعات الاقتصادية الكبرى في تلك الدول، وبالتالي إيجاد فرص عمل حقيقة للأيدي العاملة فيها، مما ينتج عنه تراجع في نسب الهجرة إلى الخارج. ويلاحظ المؤلف أن هناك علاقة وثيقة ما بين التحويلات المالية والقيود المفروضة على الهجرة، فكلما زادت الدول المضيفة من درجة التشدد في السماح بالهجرة، كلما زادت التحويلات المالية من جانب المهاجرين إلى أسرهم، بينما نجد أن السياسات الأقل تشدداً تؤدي إلى تناقص التحويلات. يفسّر كوليير ذلك، بأنه في الحالة الأولى يقوم المهاجر بإرسال الالتزامات المالية المطالب بها إلى أهله، بينما في الحالة الثانية يكون من الأفضل والأوفر له، أن يقوم باستقدام أهله إلى البلد المضيف، وبالتالي تنعدم الحاجة إلى إرسال أموال إلى البلد الأصلي. تقييم عام للكتاب استطاع بول كوليير في هذا الكتاب أن يقدم رؤية متكاملة لموضوع الهجرة، وما يرتبط به من مسائل وقضايا وتساؤلات. ومن أهم مميزات هذا الكتاب أن مؤلفه قد عمل على دراسة تأثيرات الهجرة على الجهات الثلاث الرئيسة، وهي المهاجرون والبلد الأصلي لهم، والبلد المضيف لهم، حيث أوضح كوليير الجوانب والتأثيرات الإيجابية والسلبية لكل جهة من الجهات الثلاث. وبالإضافة إلى ذلك، فقد عمل المؤلف على مناقشة بعض القضايا التي قد تبدو نتائجها للحظة الأولى محسومة ولا تحتاج إلى النقاش، مثل تأثيرات العمالة المهاجرة على العمالة الأصلية في البلد المضيف، وحاجة الدول الصناعية إلى المهاجرين لسد الفجوات الديموغرافية التي ستنشأ على المدى البعيد من جراء ارتفاع معدلات الشيخوخة وتناقص معدلات المواليد.